كتب: محمد حبوشة
ساهم مسلسل (أغمض عينيك) في صناعة المشهد التلفزيوني السوري هذا الموسم بطريقة مختلفة، على جناج دراما اجتماعية غاية في الروعة والهدوء، حيث يتجاوز حدود الدراما التقليدية ليقدم قصة إنسانية مؤثرة تجذب الجمهور وتلامس قلوبهم.
تناول مسلسل (أغمض عينيك) قصة (حياة/ أمل عرفة)، التي واجهت تحديات كبيرة بعد هجر زوجها لها واختفائه، تاركا لها طفلا يعاني من طيف التوحد، تتعرض حياتها لمزيد من الصعاب مع تخلي أسرتها عنها وزواجها من رغما عنهم.
ومع ذلك، تظل (حياة) تكافح لتوفير الرعاية لابنها وتحافظ على كرامتها رغم التحديات الصعبة التي تواجهها.
تميزت قصة مسلسل (أغمض عينيك) بأسلوبها الهادئ والإنساني، الذي يبتعد عن الدراما العنيفة والصراعات المفرطة، لتقديم تجربة مشاهدة مريحة ومؤثرة في الوقت نفسه تناسب أجواء الشهر الكريم.
ربما حظى (أغمض عينيك) بإشادة واسعة من الجمهور، الذي يرى فيه تجسيدا مميزا للأعمال الدرامية السورية الأسرية التي تركز على القصص الإنسانية الدافئة والبسيطة.
تألق (عبد المنعم عمايري)
ولكن اللافت للنظر هو تألق نجوم العمل بأداءهم المميز وعلى رأسهم المبدع الكبير(عبد المنعم عمايري)، هذا الممثل الموهوب جدا، والعبقري جدا، والمذهل جدا، والمدهش جدا.
إقرأ أيضا : عبد المنعم عمايري .. هذا المدهش المتفرد !
ويبدو لي بعد المشاهدة المتأنية للمسلسل الذي يثير الفضول والدهشة في آن، أن شهرة الممثل (عبد المنعم عمايري) لم تنشأ على خلفية شكله الخارجي أو لتسلقه سلم النجاح من باب مقولة (أنا أو لا أحد).
فقد استطاع في مسلسل (أغمض عينيك) أن يبقى محتفظا بعفويته وبشخصيته القوية واللطيفة في نفس الوقت، متمسكا بحضوره اللافت وبهوية الممثل الباحثة عما يضيف إلى مسيرته.
دهشة (أمل عرفة)
وتأتي (أمل عرفة) في لوحة (أغمض عينيك) بدهشتها المبهرة، بحيث تجسد كل معاني الموهبة الفذة بكل ملكاتها المبدعة، فهى ممثلة بارعة في لعب دورها بشكل طبيعي ودون اصطناع واضح.
فأمل تملك قدرات فائقة على التعبير برشاقة الجملة ونبض حروفها الذي يحلق في خيالات ملهمة نحو عوالم مغايرة، وهى تملك مهارة من أصعب المهارات المتوقعة من الممثل.
والمقصود بها القدرة على (الانكشاف العاطفي)، أو كما يسميه البعض (التعري العاطفي)، فهى على استعداد دائم لعرض مشاعرها الإنسانية بشكلها الحقيقي في موقف درامي ما ضمن القصة التي تمثلها.
ويبرز دور الطفل المصاب بالتوحد (جود)، الذي يجسده الطفل (زيد البيروتي)، والذي أثبت موهبة فنية كبيرة ونال استحسان الجمهور بأدائه الاستثنائي الذي يكشف عن موهبة كبيرة في التجسيد الدرامي.
بهذا النجاح والإقبال الواسع، يظل مسلسل (أغمض عينيك) متصدرا قائمة المسلسلات الرائجة في الموسم الحالي، ويثبت أن القصص الإنسانية الصادقة تظل دائما قادرة على لفت انتباه الجمهور والتأثير فيهم بقوة.
بصراحة ودون مواربة فإن مسلسل (أغمض عينيك) كسب الرهان رغم إمكانات انتاجه البسيطة، واستقطب تفاعلا جماهيريا عريضا في الموسم الرمضاني، رغم ابتعاده عن الشكل الفني الدارج في الدراما السورية المعاصرة التي تعتمد حالة الأكشن والتشويق والعنف.
(أغمض عينيك).. نداء روحاني
ويبدو الاختلاف ظاهرا من عنوان المسلسل (أغمض عينيك)، الذي يأتي كأنه نداء روحاني لإغماض العينين ومخاطبة الآخرين بالروح، فما تحمله الأرواح هو الأسمى والأعلى والأعمق.
(أغمض عينيك)، مسلسل قدم لنا حالة فنية مختلفة في حكاية اجتماعية تقدم في العمق ما تتحمله شخوص العمل من مشاق نفسية مؤلمة في مواجهة تحديات مصائرها.
ولا يبدو صناعه معنيون بمواكبة موضة تفرض ثيمة محددة على شكل العمل وأحداثه، فقد اختاروا تقديم حكاية عن الآلام الإنسانية العميقة ومآلات هذه الحالة الإنسانية على حيواتهم ومجتمعهم.
نحن في مسلسل (أغمض عينيك) أمام حكاية الطفل (جود) الذي يبلغ من العمر ثماني سنوات ويعاني من طيف التوحد، ولديه صعوبات في التواصل بينه وبين محيطه
وهى الذروة الدرامية الكبرى التي يوجدها كاتبا النص (لؤي النوري، وأحمد الملا( والتي تتمحور حولها معظم أحداث المسلسل، لكن الكاتبين أوجدا المزيد من الذرى الدرامية التي زادت جرعة الألم وتاليا التشويق النفسي.
فالأب يهجر الأسرة وهذا ما يزيد من صعوبة الظرف الذي يواجه الأم (حياة/ أمل عرفة) والطفل (جود/ زيد البيروتي).
يوجد نص (أغمض عينيك) ذروة درامية حاسمة ومفاجئة جديدة تتمثل في رفض والد الأم (أبوالرجا/ فايز قزق) مباركة زواج ابنته ومن ثمة عدم تقبل ابنها لتعيش زوجته (أم الرجا/ منى واصف) تناقضا بين رغبتها في احتضان ابنتها وحفيده.
وعدم مخالفة رغبة زوجها وبين احتضان ورعاية حفيدها بعد أن تقطعت به السبل وكان في مهب الريح وقريبا من إرساله إلى ملجأ للأطفال.
ولا يقف نص (أغمض عينيك) عند هذه التقاطعات الدرامية بل يقدم في مساره الحكائي المزيد من التصعيد الدرامي، حيث تتورط الأم بجرم وظيفي في الصيدلية التي تعمل بها وتدخل السجن لتنفيذ عقوبة جنائية لمدة خمسة عشر عاما.
ليصبح مصير الطفل في مهب الريح، في عقدة درامية هى الأهم في كل أحداث المسلسل، فبحكم القانون ستكون الحضانة للجدة التي لا تمانع في حضانة حفيدها بعد سجن ابنتها لكن الجد يرفض.
ليكون الحل بقبولها الحضانة أمام تعهد أصدقاء للعائلة برعاية الطفل خاصة المدرس (مؤنس/ عبدالمنعم عمايري) الذي فقد زوجته وابنه في حادث سير، ليجد في الطفل جود ملجأ له من آلامه التي يعيشها وطاقة أمل تعيد له نبض حياته الذي بالكاد يعيشه في دوامة أحزانه.
هدوء وانسيابية (أغمض عينيك)
وتسير أحداث المسلسل بهدوء وانسيابية متصاعدة، فلا أحداث مفاجئة تحمل تفجرا في سير الأحداث ولاعنف فيه، بل أحداث متتالية تحدث في المجتمع الحقيقي الذي يعرفه الناس ويحيط بهم.
ولعل هذا ما شد الناس إلى مسلسل (أغمض عينيك)، إضافة إلى التعاطف مع الطفل ووالدته في مصيرهما المأزوم الذي يواجهانه.
أجمل ما في (أغمض عينيك): أنه طرح موضوعا حياتيا بالغ الحساسية، وهو ما استلزم تقديم شخوص يتعاملون مع أحداثه بلغة واقعية، الأمر الذي وضع ممثلي المسلسل أمام تحد كبير خاصة الطفل (بيروتي) الذي قدم دور الطفل (جود).
فأطفال التوحد لهم عالمهم الخاص الذي يتميز بشكل نفسي وحركي خاص، وهو ما عرفه صناع العمل وقدمه (جود) بشكل مبهر، ولاشك أن عمليات تصوير هذه المشاهد قد كلفت جهدا وعناية خاصة من المخرج.
قدمت الممثلة المعجونة بالموهبة (أمل عرفة) في مسلسل (أغمض عينيك) مشاهد تحمل إحساسات عالية بعاطفة أم حقيقية يعاني ابنها من حالة صحية خاصة وجمعتها مع (جود) مشاهد اقتربت من حدود الميلودراما التي تحمل فواجع إنسانية كامنة.
وقد بينت أن بعض المشاهد أبكتها هى وفريق العمل أثناء التنفيذ، وكانت بعض المشاهد التي قدمتها مع (جود) غاية في الألم النفسي كما في مشهد اللقاء بينهما في زيارته لها في السجن وتمسكه بها للذهاب معا.
وكالعادة يقدم (عبدالمنعم عمايري) في (أغمض عينيك) دورا بثقة عالية وهدوء جلي، وكثيرا ما أظهرت كاميرا (الملا) لقطات قريبة له لترصد تعابير وجهه وعينيه في متابعة دقيقة لطبيعة الشخصية وعمقها.
و(عمايري) يؤكد في هذا العمل علو قامته في قدرته على تقديم شخصيات مركبة، تعكس الشعور الداخلي للممثل عندما يزج في عمل ميلودامي غالية في الإنسانية في مرتبها العليا.
حضور خاص لأحد الأحمد
أما (أحمد الأحمد) فقدم شخصية (زوربا) التي تذكرنا بشخصية الكاتب اليوناني (كازانتزاكي) التي جسدها (أنتوني كوين) في فيلم سينمائي شهير، وهى شخصية لطيفة أكسبها (الأحمد) حضورا خاصا ومكانة مميزة في مسار الأحداث.
واستطاع (أحمد الأحمد) أن يرسم شخصية (زوربا) من خلال تاريخها وتفاعلها مع الأحداث بنظرة إنسانية عميقة، وقدم من خلال هذه الشخصية صراعات نفسية تعيشها بين حدي الالتزام الأسري وحب المغامرة والسفر.
(منى واصف) ظهور طاغي للأم
وكان الظهور المتميز في مسلسل (أغمض عينيك) للفنانة الكبيرة (منى واصف) رائعا للغاية، حيث يعكس خبرتها الطويلة في الأداء العذب، حيث قدمت دور الأم والجدة التي تتفانى في تقديم العون والحب.
ويبدو لي أن شخصية (أم الرجا) كتبت بعناية ومواقفها الحياتية عامة تجعلها في إطار الشكل التقليدي للمرأة التي تمتلك روح المحبة والعطاء والأصالة، وهى التي كانت بسبب حفيدها على وشك الطلاق من زوجها والسفر بعيدا عنه.
لكنها بعد إصابتها بجلطة دماغية ترفض السفر لتبقى معه وقربه لمساعدته في محنته الصحية، والقديرة (منى واصف) خير من يقدم شخصية الأم في الدراما بأدائها المقنع وثقلها الفني الكبير.
تجلى القدير (فايز قزق)
ومن ناحية أخرى تجلى القدير (فايز قزق) في مسلسل (أغمض عينيك) بشخصية (أبو رجا)، الحاقد على ابنته (حياة) لارتباطها، من دون موافقته، بزوج هجرها، يتمسك بالقسوة حتى المشهد الأخير.
والحقيقة أن (فايز قزق) فنان من ذهب عيار 24 قيراطا، فيمكنه أم يوظف العبوس والانكماش لترجمة الحقد الداخلي، لا يرأف على طفل، ولا يسامح على ماض، ولعل مشهد المواجهة مع (واصف)، قبل إسدال الستارة على دوره، (ماستر سين) بقيادة كبيرين في الدراما العربية.
أداء لافت لـ (حلا رجب)
ويبدو ملفتا أيضا أداء الممثلة السورية الشابة (حلا رجب) بدور (سلام) التي تتولى رعاية (جود) منذ طفولته في مركز للتأهيل، وتبقى شخصية مرجعية راعية بالنسبة له، لكن الأمور تتجه نحو التعقيد حينما يقع في حبها (يامن/ جابر جوخدار) الذي قد دورا إنسانيا جميلا بهدوئه ورقته البالغة.
مسلسل (أغمض عينيك) يعيد إلى ذاكرتنا حياة السوريين، ودفء الدراما في وقت سابق، الحياة الطبيعية، بعيدا عن الأعمال التي ظهرت بعد الأزمة في سورية، والتي تسوق أن سوريا أصبحت وكراَ لأعمال الشغب، والمخدرات، والقتل، والدعارة، وأنها غابة من الوحوش فقط.
ولعل حبكة (أغمض عينيك) هى حبكة مدروسة بدقة شديدة، حيث توضح كل الأحداث التي تجري مع جميع الشخصيات بطريقة سلسلة وواضحة؛ بعيدا عن التكرار، أو المبالغة في السرد، قصة مفهومة واضحة الملامح، تجعل المشاهد دائم السؤال عما سيحدث مع جميع الشخصيات في المستقبل؟
ويبقى هنالك جوانب حسية وحالات إنسانية مختلفة في حياتنا تستحق التوقف عندها مطولا، تلك الحالات تطرح قضايا يومية تعيشها العائلات العربية العادية التي تمثل الوجه الحقيقي للمجتمع بحلوه ومره.
وفي النهاية لابد لي من تحية تقدير واحترام لفريق ملسلسل (أغمض عينيك) من (مؤلف ومخرج وممثلين أكفاء) استطاعوا أن يقدموا عملا إنسانيا خاليا من توابل الدراما الحارقة التي تتسيد المشهد الحالي بجدارة الصناعة الإبداعية فائقة الجودة.