بقلم: مجدى صادق
ماقاله (موردن جيفرسون) فى أول فيلم روائى له الحاصل على الأوسكار (الخيال الأمريكي)، ذكرني ببوست حول المخرج العالمى مصطفى العقاد مخرج فيلم (عمر المختار).
الذى أمضى أكثر من 25 سنة الأخيرة من حياته وهو يبحث عن ممول لفيلمه الذى يحمل اسم (صلاح الدين الأيوبى)، دون جدوى بينما يتحصل أحد برامج المقالب وهو برنامج فاشل على مدى 14 عاما على التمويل الضخم وبدون حساب وميزانيات مفتوحة!
هنا ستعرف مدى الكارثة الفكرية والثقافية التى تعيشها الأمة، فهذا الفكر الذى يعمل على إفساد العقول وطمس هوية الأجيال بحجة أنه جيل ليبرالية التوكتوك والذى منه!
هكذا الحال فى أمريكا وهذا ماقاله (موردن جيفرسون) فى أول فيلم روائى له الحاصل على الأوسكار (الخيال الأمريكي) ويبدو ان المخرج وهو فى نفس الوقت المؤلف حاول أن يسقط قناع لايزال موجودا رغم انتهاء زمن التمييز العنصرى وعصر العبودية ليقدم وجبة دسمة من هجاءا مضحكا ومهينا لقاع هذا المجتمع!
الغريب والمثير فى آن واحد أن فيلم (الخيال الأمريكي) الذى اسقط ورقة التوت عن عورة هذا المجتمع قد حقق 23 مليون دولارا، أى مشاهدات وإقبال كبيرين وحصل على العديد من الأوسمة بل وتم اختياره كأحد أفضل 10 أفلام لعام 2023 من قبل معهد الفيلم الأمريكي.
وفاز (الخيال الأمريكي) بجائزة البافتا لأفضل سيناريو مقتبس بل وتلقى خمسة ترشيحات في حفل توزيع جوائز الأوسكار السادس والتسعين، بما في ذلك أفضل فيلم وأفضل ممثل لجيفرى رايت مع فوز جيفرسون بجائزة أفضل سيناريو مقتبس فهل نصف هذا المجتمع مع جيفرسون بالانفصام او الشيزوفرانيا ام ماذا ؟!!
(الخيال الأمريكى) – 2023، فيلم من نوع التراجيكوميدى أو الكوميديا السوداء استنادا الى رواية تحمل اسم (محو) كتبها بيرسيفال عام 2001.
قصة أديب وأكاديمي أسود
حيث تدور أحداث الفيلم حول قصة أديب وأكاديمي – أسود – يقدم كتابات إبداعية روائية وعلمية مبدعة ورفيعة المستوى مثل إعادة كتابات مسرحيات (اسخيليوس) الاغريقى وغيرها.
لكن دوائر النشرلا تُعنى بإنتاجه هذا الذى لايلقى رواجًا جماهيريًا تجاريا، والأهم هو أنه لا يعكس (كأسود أمريكى) الصورة النمطية المرسومة لدى أغلب الأمريكيين، خاصة البيض منهم، والتى تفترض مسبقًا أن تدور كتابات مثل هؤلاء السود عن معاناة مجتمعهم أو الجيتو الأفريقى الأسود فى الولايات المتحدة الأمريكية.
رغم أن (منك) ينتمي إلى عائلة أطباء أمريكيين من أصل أفريقي من الطبقة المتوسطة، وقد تمتع بتنشئة فكرية في الضواحي وتعليم باهظ الثمن، والفيلم من بطولة الرائعين (جيفري رايت، تريسي إليس روس، عيسى راي، ستيرلنج ك. براون، جون أورتيز، إريكا ألكسندر، ليزلي أوجامز، آدم برودي، وكيث ديفيد).
فى المقابل يرى البطل أقرانه من الأدباء (الزنوج) الذين يحققون الصورة النمطية المتعارف عليها حول تلك المعاناة، إنما يخضعون لابتزاز الدوائر الأدبية والنقدية ودور النشر والمزاج العام مايسمى بالأدب الديستوبى، أدب المدينة الفاسدة.
ملامحه تلك التى يتحدث عنها (منك) ما يحصرهم فى مساحة إبداعية محددة، ويرى البطل الأديب/ الأكاديمى أن رضوخ هؤلاء الأدباء للابتزاز يجعل إنتاجهم الأدبى ركيكًا ومسطحًا.
وهو يشعر بالغضب عندما يتم وضع إحدى رواياته المبكرة في قسم الأمريكيين من أصل أفريقي بمتجر كتب، حيث كتب موبخًا الموظف قائلاً: إن الشيء الوحيد الأسود في الرواية هو الحبر!
لكنه للاسف يرى كيف احتفت (الميديا) والنقاد بإحدى الروايات التى كتبتها أديبة سمراء من نوع (الأدب الديستوبى)، حيث (تفاهة) النص والحكى الوارد بها.
إبراز صلافة وتعنت المجتمع
وهو ما يبدو، وكما جاء فى حوار بين البطل ووكيله لتسويق ما يُنشر، (أن العيون والعقول البيضاء تريد أن ترى تلك النوعية من النصوص التى تفرط فى إبراز صلافة وتعنت المجتمع بأبنيته السلطوية حيال الملونين، وكيف أنهم يعانون الفقر والتهميش والعبودية).
لكن (منك) يرى نفسه كاتبًا تصادف أنه أسود، وليس (كاتبًا أسود) على غرار التسميات المختزلة لصناعة النشر والشر!
فاهتمام البيض بهذه النوعية من النصوص إنما يعنى أنهم أبرياء مما وصل إليه المجتمع من عنصرية واشبه بغسيل الأيدى من تاريخهم الدموى والعنيف ضد هؤلاء، والأهم هو سعى لجان الجوائز الأدبية وهوليوود لإعدادها كأفلام سينمائية تحقق ارباحا طائلة وتحرص فى الوصول إلى مغارة الجوائز!
وهنا يقرر (منك – نسبة إلى موسيقى الجاز ثيلونيوس مُنك)، تأليف رواية باسم مستعار كما يريدها كل هؤلاء لشخصيات أمريكية سوداء تكون من خرّيجي سجون، وتمارس التهريب والقتل، وتكون شريرة على هامش هذا المجتمع الأبيض المثالى.
وهى الصورة التي نقلتها بشكل مكثف السينما الهوليوودية حتى اليوم ليجنى الكثير من الاموال وثناء النقاد!
لكن يبقى السؤال الذى يطرحه فيلم (الخيال الأمريكى)، هل تدفع العنصرية البغيضة إلى تحويل أى مجتمع إلى مجتمع هش الفكر، وتصبح ليبرالية (الناس عايزة كده) هى التى تحرك النوازع والقيم والثقافات والمناخ الاجتماعى، وتفجر ينابيع الغضب العرقى او الايديولوجى؟!
فى كتاب جون كوفيل 1984 (العنصرية البيضاء): تحليل نفسى تاريخى (اعتبرها ليست عاطفة وإنما عقيدة مثلها مثل عقائد كثيرة شهدها ويشهدها العالم، لكن الانتماء العنصرى ليس عقيدة، ولايجب بل هو ميول عاطفية بمعنى ان العنصرية عدائية لكن الانتماء العنصرى هوية!
والعنصرية المتطرفة تأكل جسد الحضارة الامريكية وتغتال روحها من الداخل فهى مثل النار تحت الرماد، وتصبح العنصرية الثقافية (ميتاريسزم) البركان المكتوم !!!
وعلينا أن نعترف حتى كتابنا العالميين الذين نعتبرهم يدافعون عن قيم العدالة والمساواة وبغض الظلم الاجتماعى وغيره نجد بعض (الجينات العنصرية) فى أدبهم مثل قامة كبيرة وهو (تشارلز ديكنز).
ففى مذكرات رحلته إلى أمريكا رغم أنه عارض بشدة وحشية العبودية فى الولايات المتحدة، وأعرب عن رغبته فى التحرر الأمريكى من أصل أفريقى، لكن فى نفس الوقت انتقد (ديكنيز) العبثية الحزينة فى إعطاء هؤلاء الناس حق التصويت!
ووصفهم (بأى حال من الأحوال فى الوقت الحاضر، سوف تلتمع أعينهم مع ضحكة مكتومة فى أفواههم وكبرياء يملا رؤوسهم)!
(باراك أوباما) من أصل أفريقى
رغم أنى على يقين أن هذه الحالة قد انحسرت كثيرا فى ظل انخراط النسبة الاكبر (باراك أوباما) الأمريكي من أصل أفريقى من الأمريكيين السود فى العملية السياسية ومراكز صنع القرار.
وكان (باراك أوباما) الأمريكي من أصل أفريقى فى نوفمبر 2008، الديمقراطى الذى هزم (جون ماكين) الجمهوري، ليكون أول رئيس أمريكى أسود يدخل البيت الأبيض.
فى حين أن 88% من الأمريكيين من أصل أفريقى أعطوا لكيرى ضد الجمهورى (جورج بوش) الذى حصل على 11% من أصواتهم فقط، رغم أن صاحب مرسوم تحريرهم من العبودية أصدره (إبراهام لنكولن) الرئيس الجمهورى 1862!
ولا ننسى أسماء كبيرة فى عالم السياسة والدبلوماسية لعبت أدوارا تاريخية ومحورية فى تاريخ السياسة الأمريكية، مثل (كولن باول) أول رجل أسود يتولى وزارة الخارجية 2001 بعدها تولى رئاسة هيئة أركان الجيوش الأمريكية، وكذلك (كوندوليزا رايس) أول امرأة سوداء تتولى وزارة الخارجية 2005.
وهناك فى حكومة (بايدن) بدءا من نائبته (كاملا هاريس) مرورا بالكثير من الوزراء فى حكومته مثل (لويد أوستن) وزير الدفاع الأمريكي، فتاريخ السود فى أمريكا به تفاصيل كبيرة ومشرف جدا!
لكن لاننسى فى المقابل مقتل (مايكل براون، وتريفون مارتن) على يد الشرطة الأمريكية بولايتى فيرجسون وفلوريدا، وكثير من الأحداث دوافعها كلها عنصرية ويبدو ان حلم (مارتن لوثر كينج) صاحب عبارة (لدى حلم) لايزال أبناء المجتمع الأسود فى الولايات المتحدة يسعون إلى تحقيقه حتى الان!
ومن هنا يكمن سر الرواية الأمريكية في أنها الشيء الذي يتوق إليه (منك) بشكل خفي صورة لشخصيات سوداء لاتمثل القمع داخل المدينة، والذين يعيشون حياة الطبقة المتوسطة العليا مثل (منك)، والذين نشأوا في منزل على الشاطئ في مارثا فينيارد.
فى حين يقدم فيلم (الخيال الأميركي)، تجربة سينمائية مختلفة عن الأفلام الأخرى التى رشحت لجوائز الأوسكارهذا العام، فهو عمل يشتبك بشكل شديد الدهاء مع العديد من القضايا في آن واحد ودوائر صراع متعددة فى إطار من الكوميديا السوداء اللاذعة.
وعلى الرغم من كونه الفيلم الروائي الطويل الأول لمخرجه فإن الأخير استطاع التعامل باحترافية مع مواضيع ثقيلة مثل (العنصرية المستترة) تحت جلد المجتمع الأمريكى الأبيض، و(ثقافة السود.
بالإضافة إلى الحسابات الخاصة بدور النشر الباحثة عن الأعلى مبيعا قبل كل شيء آخر لا ثقافة ولايحزنون!، مستخدما تكنيك الصورة والإضاءة وموسيقى (لورا آن كاربمان) الحاصلة على خمس جوائز إيمى!
(الخيال الأميركي) و(كورد جيفرسون)
(الخيال الأميركي) من إخراج (كورد جيفرسون) وبطولة (جيفري رايت وستريلنغ جي براون وإيسا راي)، وجاء عرضه الأول في مهرجان (تورنتو) السينمائي، وترشح لـ5 جوائز أوسكار) هى أفضل فيلم، وأفضل سيناريو مقتبس، وأفضل ممثل في دور رئيسي، وأفضل ممثل في دور مساعد، وأفضل موسيقى تصويرية.
عنوان (الخيال الأمريكي) مستوحى جزئيًا من قراءة جيفرسون لقصيدة (لانغستون هيوز دع أمريكا تكون أمريكا مرة أخرى!).
إذ يُقنع الوكيلُ الأدبيُّ (مُنك) بالمضي في قبول عرض الناشر، قائلاً إن (جوني ووكر)، صانع ماركة الويسكي الشهيرة، لم يكتفِ بنوع واحد من الويسكي فصنع (ريد لايبل)، وهى رخيصة ولجمهورغيرمتذوّق للمشروب، لكنه يسعى للسكْر وحسب.
ثم (بلاك لايبل) وهى أغلى ثمناً بقليل لأصحاب ذوق وميزانية محدودتين، وأخيراً (بلو لايبل)، وهى بأضعاف سعر الزجاجتين السابقتين، ولها من يبحث عنها، لكنه أقلّية، فتكون صناعة الويسكي الرخيص المطلوب أولاً ودائماً وبكثرة، هو ما أتاح لجوني ووكر صناعةَ نوع فاخرمن الويسكي لا رجاء مادياً منه!
فمنك الآن فى مأزق والدته (ليزلى أو جامز) المريضة فى حاجة إلى رعاية طبية مكلفة على مدار الساعة، فماذا يفعل هذا الصراع الذى جسده (جيفرسون)، متسائلا: هل يتخلى عن موقفه من شقيقه (ستيرلينج ك براون) والتواصل معه، وكذا شقيقته (ترايسى اليس روس) أو أن يبيع منزل الشاطئ؟
فأدب (الاستغلال) أشبه بما سمى سينما (الاستغلال)، وهى مجموعة الأفلام ذات الميزانيات الصغيرة، وهى تنتج خارج ستوديوهات هوليوود الكبرى، وكل هدفها أو الربح المادى ولاشئ آخر.
وهى مجموعة من الأفلام التى تعتمد فى تسويقها ومشاهداتها تلك البهارات الرخيصة من استغلال الرغبات أو الغرائز الإنسانية، مثل الجنس والرعب والإثارة، ومنها أفلام استغلال السود (بلاكسبولييشن)!
فهل قصد (جيفرسون) من خلال فيلمه بأن يقول أن واقع المجتمع الأمريكى لايزال بطعم الريد ليبل (!) فى التعامل مع (ثقافة السود)، بل مع الأمريكيين من أصل أفريقى لعله كابوس وليس خيالا أمريكيا؟!