كتب: محمد حبوشة
بعدما استمتعنا بمشاهدة (التغريبة الفلسطينية، عائد إلى حيفا، لن تسقط القدس، حارس القدس) مرات عديدة، نستطيع القول بأننا لسنا بهذه السذاجة حتى نركب موجة نقاد (الشركة المحتكرة)، ونشيد بمسلسل (مليحة) والطنطة لمسلسل أجهض القضية وفشل في رصد حجم الدمار الإسرائيلي في غزة.
ولا يصح على الإطلاق أن نتشدق بالقول مثل كثير من (نقاد الغبرة) الذي يجهلون دراما القضية الفلسطينية، وقصروا كثيرا في مشاهدتها بتركيز يليق بروعتها: أن (مليحة) قدم أكبر دعم للشعب الفلسطيني في وضعه المزري الراهن.
في الحقيقية فإن مسلسل (مليحة)، حتى في ربطه المتعسف بين الماضي والحاضر في سيناريو وحوار ضعيف للغاية، وأداء تمثيلي أضعف فشل في أن يعبر عن معاناة الإنسان الفلسطيني في الأرض المحتلة، ولا قدم وثيقة حية عن عملية (طوفان الأقصى) كما كان متوقعا من عرض (برمو) المسلسل.
وظني أن مقولة أن مسلسل (مليحة) يثير الرعب في قلوب الإسرائيليين، مقولة زائفة، فهكذا اعتادت الصحف العبرية أن تستنكر أي عمل يقترب من مجرد محاولة تسجيل جرائم العدو عبر عدة مشاهد ليست على هواه.
منذ بدء عرض حلقاته الأولى في النصف الثاني من شهر رمضان، كان لدي أمل كبير في أن يستولي مسلسل (مليحة) على قلوب ومشاعر الجمهور العربي المكلوم على القضية الفلسطينية، عبر كشف توثيقي لجرائم الاحتلال ضد شعبنا في غزة.
لكن خاب أملي تماما في الإمساك بحبكة درامية حقيقية عن القضية – رغم العرض التاريخي العشوائي الساذج – فقد ظل محور الأحداث حول ضابط مصري أنقذ عائلة فلسطينية على الحدود الغربية في السلوم، ثم واصل رحلته لوصول نفس العائلة إلى قطاع غزة.
كاتبة السيناريو البلهاء
ومن باب التزيد لجأت كاتبة السيناريو (البلهاء) إلى جغرافيا سيناء، كي تكون توطئة للدخول لمذابح غزة وحرب الإبادة، ولكنها ظلت تستغرق في خلافات أشقاء الضابط (أدهم/ دياب)، وأبرزها (أمير المصري) وخطيبته التي استغرقت جزء كبير من الحدوتة.
تاهت كاتبة السيناريو التي تفتقد كثبر لمقومات الكتابة الدرامية وهضم القضية، بنا في منحنيات درامية مملة أفقدت الحدوتة زخم القضية، وبقيت (مليحة) خطا ضعيفا تدور حوله الأحداث في بطىء غريب وعجيب، وكأنها تخشى الدخول في صلب القضية لسبب ما في نفس يعقوب.
وبوتيرة بطيئة للغاية زحفت بالسيناريو – غير المتماسك بالمرة عبر خيوط مهلهلة أضاعت بعضها في سيناء وقضايا الإرهاب التي أقحمتها بلامبرر – نحو قطاع غزة، لنجد (مليحة) في الحلقة الأخيرة في خضم آثار (طوفان الأقصى).
ما هذا العبث؟
أين القضية الفلسطينية في 14 حلقة من الملل الرتيب والأداء المفعتل والبارد في غالبه، عبر طاقم عمل غير متجانس على الإطلاق، حيث قدم (دياب) أسوأ أدواره على الإطلاق، وبالنسبة للممثلة (سيرين خاص) فليس لديها أية كاريزما، بل تحتاج لتدريب أكبر في الوقوف أمام الكاميرا، كي تزيل ارتباكها وشرودها العجيب.
وحدها الممثلة اللبنانية (دينا رحمة) هى من أجادت في دور الجدة الفلسطينية المتمسكة بالتراب الفلسطيني المقدس، من خلال عيون معبرة ووجه يملك القدرة على تجسيد معاناة السيدة الفلسطينة المعذبة بفعل التغريب والتشريد.
عندما أطلق برمو مسلسل (مليحة) كنت قد أهلت نفسي وكثيرون غيري، لخوض تجربة مشاهدة مغايرة لما هو سائد في دراما العنف القائم على البلطجة والخلافات الأسرية التي ترقى لمستوى القتل والخيانة والعداوة والدم المهدر على بساط الميراث.
لكن خاب ظني في مسلسل (مليحة) الذي كان يمكن أن يكون وثيقة تاريخية تضاف إلى سجل القضية الفلسطينية، لو أن كاتبة السيناريو النكرة، كانت قد عادت إلى فيديوهات المذابح وقصف المستشفيات وقتل الأطفال والنساء والشيوخ من 7 أكتوبر 23 حتى نهاية الأحداث الدامية التي لم تتوقف حتى الآن.
هكذا كان يمكن أن يكون مسلسل (مليحة) في خدمة القضية الفلسطينية في العمق ويؤكد دور القوى الناعمة، وليس على الهامش في تلخيص فوتوغرافي عبر دقائق معدودة في نهاية الحلقة 15، لقد استنفدت 14 حلقة من المسلسل في اللاجدوى، ما يعكس سذاجة المؤلفة.
ألم يكن من الأجدى ترجمة هذه الصور الفوتوغرافية في مشاهد حية من خلال معالجة درامية تعكس التراجيديا الإنسانية لوخذ الضمير الإنساني، جراء الدم الذي أهدر ومازال يهدر حتى اليوم في غزة، بدلا من هذا التسجيل الهزيل الذي أساء بالضرورة للقضية الفلسطينية؟
صناع (مليحة) خيبوا الآمال
ألا يدرك صناع دراما (مليحة) أن خيبوا ظن الجمهور المصري والعربي في إنتاج مسلسل كان يمكن أن يتفوق فيه الواقع على الخيال؟، أين معاناة أهل غزة في ثنايا حلقات مهدت فقط لعرص صور فوتوغرافية لا ترقى لحجم المأساة،بل هى في النهاية لا تغني ولا تشفع لوقف جرائم العدو الوحشية ولا تحرك ساكنا في صلب القضية.
منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى الآن هنالك آلاف المآسي الإنسانية لأهلنا في غزة، والتي كانت تحتاج لتجسيدها حية في لوحة دراما (مليحة) كي تضاف إلى وثائق فضائيات الأخبار العربية التي راحت الآن في طي النسيان.
ولأن مسلسل (مليحة) أول عمل درامي مصري يناقش القضية الفلسطينية بشكل مباشر، بعد أكثر من 75 عاما على القضية المحورية في تاريخ العرب، كنت أتمنى أن يحمل الفكرة نفسها، ومن ثم يكون عملا يليق بالقضية التي أصبحت ترواح مكانها الآن بعد عملية (طوفان الأقصي)، وأن يرسخ للتراجيديا الإنسانية في غزة حاليا.
خاصة أن أحداثه حول الشابة الفلسطينية (مليحة/ سيرين خاس) التي اضطرت إلى ترك بيتها في فلسطين بصحبة جديها ووالديها، بعد أن دمر الاحتلال الإسرائيلي منازلهم في (انتفاضة الأقصى) عام 2000، وعاشوا سنوات في ليبيا.
كنت أتمنى أن تسرع أحداث (مليحة) إيقاعها البطئ والممل، وتختصر الحلقات الـ 14 الأولى والوصول سريعا إلى قلب وعمق أحداث غزة، وتقوم برصد المجازر والأهوال التي تعرض لها الفلسطينيين من 7 أكتوبر وحتى الآن.
يحمل المسلسل اسم (مليحة)، ولكن (مليحة) نفسها شخصية ثانوية، مقارنة حتى بجدها الذي يموت مبكرا أو جدتها التي تبقى معها للنهاية، حتى تعودا إلى غزة.
أما الشخصيات الرئيسية فكلها مصرية، بداية من البطل الوحيد الضابط (أدهم/ دياب)، وعائلته الكبيرة التي تضم أمه وأخاه وبنات خاله وزوجته، مع بعض رفاقه في الجيش.
(ترويدة) فلسطينية جميلة
يصور المسلسل معركتين يشارك فيهما (أدهم)، الأولى، في بداية المسلسل، على الحدود الليبية ضد جماعة إرهابية (جهادية) أو (داعشية)، تحاول التسلل إلى مصر، والثانية ضد مجموعة إرهابية مماثلة تتسلل إلى سيناء، وتقوم بقتل وخطف بعض السكان.
وتسبق أحداث المسلسل، حتى الحلقة العاشرة، مقدمة وثائقية ربما تبدو كانت ستبدو جيدة حول تاريخ القضية الفلسطينية، بصوت الفنان (سامي مغاوري)، بلكنة مختلطة، قبل أن يتبين لاحقا أنه صوت إحدى شخصيات العمل.
وهو الشيخ (سالم السيناوي) الذي يقوم الإرهابيين بخطفه، وبصحبته (مليحة) وجدتها، حيث يستطيع أدهم وزملاءه إنقاذهم للمرة الثانية.
وتصحب عناوين المسلسل أغنية (ترويدة) فلسطينية جميلة، لكننا لا نرى شيئا من فلسطين في الأحداث نفسها، إذا استثنينا اللقطات التاريخية الوثائقية المصاحبة لصوت الشيخ سالم، ولقطات وثائقية لغزة يعقبها مشهد عودة (مليحة) وجدتها إلى غزة، وذلك في الحلقة قبل الأخيرة من المسلسل.
ومن الغريب أيضا أن قصة الحب، التي يفترض أن تحدث بين الضابط المصري والفتاة الفلسطينية، لا يبقى لها أثر بمرور زمن المسلسل، (مليحة) معجبة بأدهم، وهو كذلك، بالرغم من أنه لا يبدي أي إشارة تدل على ذلك، طوال الأحداث المملة.
وعندما يبدو أن العلاقة في سبيلها للتطور، بعد قيام (مليحة) وجدتها بزيارة (أدهم)، والمبيت لدى أسرته وحضور عقد قران أخيه في اليوم التالي، فجأة يعلن (أدهم) أنه سيتزوج بابنة خاله، التي تحبه من طرف واحد، ولا يبدي تجاهها أي ميل قبل ذلك.
(سيرين خاص) ممثلة شابة تبدو في ظاهرها جيدة، سبق أن ظهرت في فيلم (علم) الفلسطيني الذي حصل على جائزة أفضل فيلم في مهرجان القاهرة 2022، ولكنها في (مليحة) فاترة وشاردة الذهن كأنها تمثل بالصدفة.
و(دياب) في دور (أدهم) أمر يبدو غريبا أيضا، فهو وإن كان ممثلا جيدا في نوعية محددة من الأدوار (ابن الأحياء الشعبية القاسي)، إلا أن مساحة تعبيره لا تتجاوز هذه النوعية، وهو يبدو باهت الحضور في دور (أدهم) كما لو أنه خائف من بطولة العمل.
سطحية (دياب) في أول بطولة
أما على مستوى السرد الدرامي، فلم يأت الجزء المتعلق بأسرة (ميرفت أمين) المصرية مشوقا، بل ظهر أداء الأبطال متواضعا دون أي أبعاد شخصية، وحتى الشخصية التي يقدمها (دياب) في أول بطولة مطلقة له ظهرت سطحية ومكررة.
حيث الضابط البار بأهله الذي يسارع لعمل الخير ويحبه الجميع، ولم تتح له الفرصة حتى لاستعراض قدراته التمثيلية التي ظهرت العام الماضي بمسلسل (تحت الوصاية) أو هذا العام بمسلسل (المداح).
بينما جاءت قصة الأسرة الفلسطينية متخمة بالمواقف الميلودرامية حيثما حلوا، وعلى مستوى الإخراج بدا العمل أشبه بأجواء مسلسلات التسعينيات وإمكاناتها المحدودة خاصة المتعلقة بالمؤثرات البصرية والعملية الإرهابية والتفجيرات، وهو ما أشار إليه النقاد بالسلب، خاصة مع تقدم التقنيات الحديثة بالوقت الراهن.
ومع كل ما مضى، يظل أفضل ما جاء به مسلسل (مليحة) هو تتر أغنية (أصحاب الأرض) التي غنتها الفنانة السورية (أصالة) مصحوبة بالترويدة الفلسطينية ومشاهد فنية بديعة تخاصم جوهر أحداث المسلسل.
والأهم (الآفان تتر) وهو مشهد يسبق الحلقات، ويتضمن حوارا بين جد وحفيده، يقص فيه الأول على مسامع الثاني قصصا من التاريخ المصري والفلسطيني يصاحبها على الشاشة العديد من الصور والفيديوهات الوثائقية التي استعرضت الكثير من الأحداث المهمة.
من بين ما ظهر في (الآفان تتر) مشاهد لتهجير الفلسطينيين من أوطانهم، وإعلان تأسيس الكيان الصهيوني رسميا، ومحاولة إسرائيل استغلال بدو سيناء وتحريضهم على بلدهم مصر، ومحاولات إعادة لم الشمل العربي بعد نكسة 1967.
وكذلك الخطاب الشهير الذي ألقاه الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أمام الأمم المتحدة، إلى جانب لقطات من إغراق المدمرة إيلات، وبناء السد العالي، وجنازة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر وأحداث أخرى.
ورغم أهمية المادة التاريخية واعتماد مصداقية العمل عليها، فقد وقع صانعوا المسلسل في خطأ لا داعي له، حين استخدموا صورة الرئيس الأميركي السابق (ثيودور روزفلت) عوضا عن صورة (ثيودور هرتزل)، الزعيم الصهيوني بمقدمة الحلقة الأولى.
خلاصة القول: أن مسلسل (مليحة) خييب أمل الجمهور المصري والعربي، في أن يلامس أطراف القضية بحيث كان يمكن أن نضمه إلى روائع (التغريبة الفلسطينية، عائد إلى حيفا، لن تسقط القدس، حارس القدس)، ما جعلنا نترحم على (حاتم على) صانع (التغريبة) التي ستظل أيقونة الدراما التي عالجت القضية الفلسطينية.