بقلم: محمد شمروخ
توقفت أمام برنامج يذاع على قناة (صدى البلد) يستضيف الكابتن (جمال عبد الحميد)، مع أننى لست كروي الهوى وبالتالى من الطبيعي ألا أتابع البرامج الرياضية على القنوات التلفزيونية.
خاصة وأننى مستمسك باعتقادى عن كثير من القائمين على الإعلام الرياضي، بأنهم يشجعون نشر ثقافة التفاهة وتعميق منطق التسطح وبث التعصب بين مشجعى الفرق الرياضية.
وأظن أن هذا يحدث بتوجيه ورعاية شخصيات وجهات رسمية وغير رسمية، تطرب لسماع صياح الديوك والفراخ، وتستمع أيما استمتاع بأجواء هذه الصراعات الديكية!
هذا ليس رأيي فقط في (بعض) الإعلاميين الرياضيين الذين اختزلوا الرياضة في كرة القدم، وليتهم اهتموا بشأنها كرياضة، بل جعلوها بؤرة لزرع وتوليد خلايا الحنق والتفاهة، كذلك بالضبط سمة (كثير) من (رموز الرياضة و الرياضيين).
لكنى خلال عبثي المعتاد بالريموت كنترول أمام شاشة التلفزيون، توقفت أمام برنامج يذاع على قناة (صدى البلد) يستضيف الكابتن (جمال عبد الحميد)، الغنى عن التعريف.
وبالخصوص لدى جيلي الذي عاصر بزوغ نجوميته منذ أن كان يسوى الهوايل في مبارياته في صفوف الأهلى أولا، ثم انتقاله إلى الزمالك ليستكمل مشواره التهديفي كواحد من نجوم الهدافين وليس اللاعبين المميزين فحسب.
ثم استلامه شارة الكبتنة في منتخب مصر القومي لكرة القدم عندما حقق المنتخب على أيامه، الحلم الذي كان مؤجلاً منذ الثلاثنيات بدخول مونديال 90 في إيطاليا، لكن كل هذا معروف ولا كان يهمنى كمشاهد مصنف بأنى (غير مهتم بالكورة).
فما همنى هو حديث الكابتن (جمال عبد الحميد) أو (الحاج جمال) كما بدا أمامى بسمت الوقار على وجهه المعاكس لكل وسائل الدعاية السوداء التى حاولوا تشويهه بها.
حوار (جمال عبد الحميد)
فما سمعته وأثار اهتمامى في حوار (جمال عبد الحميد) في برنامج (الماتش) الذي يقدمه الإعلامى الشاب هانى حتحوت، ليس له علاقة بالرياضة ولا بكرة القدم!
فقد تحدث (جمال عبد الحميد) بصراحة عن ظروف نشأته الأسرية، مما جعلنى أقف احتراماً لهذا الرجل، فهو لم يخجل من أن يكشف عن مدى حياة العوز الذي كانت تعانى منها أسرته – كثيرة العدد كشأن أي أسرة مصرية في ذلك الحين.
فقد تحدث عن (الفقر)، وكيف أن والده الموظف البسيط كان يشاركهم الغداء بعد عودته من العمل الحكومى في الثالثة عصراً وهو بكامل ملابسه، ليتمكن من اللحاق بالعمل الإضافي المسائي في رحلة شقاء يومية، ليوفر لأبنائه الحد الأدنى من المعيشة الكريمة.
حتى أن هذا الأب العظيم كان يشترى كل خميس، نصف كيلو لحمة لتقوم الأم العظيمة بتقسيم نصف الكيلو إلى عدة قطع وتحرم نفسها من نصيبها من أجل الأبناء!
أعرف تماماً أن هذا المشهد متكرر كثيرا في ذكريات غالبية الأسر المصرية، لكن ليس هذا المشهد أيضا، هو الذي أريد ألفت إليه الانتباه، لكنها البساطة التى تحدث بها الكابتن عن الفقر، وأنه لم يخجل من إبرازه ولم ير أنه عار يجب مداراته.
كما أنه لم يسرده للجمهور كنوع من التفاخر بما حققه فيما بعد، فلم يبد عليه أى أثر لذلك، ولكن هذا النموذج الذي يتحدث ببساطة عن الفقر، كدنا ننساه تحت وطأة ثقافة الترفيه الشره التى تجتاح المجتمع المصرى والعربي الآن، حتى أن مجرد ذكر الفقر أو الإشارة إليه، صار عارا وشنارا بل وأسوأ من أى عيب!
فالهروب من ذكريات الفقر، صار هو سمة غالب المتحدثين في الإعلام، وإذا ما أشاروا إليه فلأجل ترسيخ هدف أساسي بأن الفقر كان وصمة في حياتهم تجاوزوها بالنجاح في حياتهم العملية، حتى أن معانى كالنجاح والكرامة والشرف والنظافة، صارت مرتبطة بالمستويات المالية العليا.
وزادت النظرة الدونية للفقراء حتى أنه وكأن كل وظيفتهم هى أن يبرروا لنجوم المجتمع الظهور على شاشات القنوات الفضائية للدعاية لجمع التبرعات!
يحدث هذا.. رغم وجود مظاهر فقر بما بما لا يعد ولا يحصى في كل مكان، ومع ذلك يتجاهلها قاموس المستقبل!
غير أن المجتمع المصري حالياً، صار منقسما إلى فئتين، فئة أقلية تعيش عيشة مرفهة في المنتجعات السكنية المنفصلة بأسوار وبوابات وسكيورتى، وفئة أغلبية تحلم بأن تعيش عيشة مرفهة في المنتجعات السكنية المنفصلة بأسوار وبوابات وسكيورتي!.. هؤلاء يعيشون واقعاً منفصلاً، وأولئك يكابدون حلماً متصلاً!
كابتن (جمال عبد الحميد)
لقد دفعنى حوار كابتن (جمال عبد الحميد) إلى تأمل الثقافة الاقتصادية والاجتماعية السائدة ما بين الكبار والصغار، وكيف أضحت قيمة الإنسان تقاس بقدرته على تحقيق الرفاهية بامتلاك شقق وفيلات وشاليهات وسيارات فور باى فور!
انظر إلى أطراف القاهرة وكيف تجمع الناس في أحياء ليست منفصلة فقط عن خارجها، بل هى كذلك في داخلها، حتى أن المبادر لجاره بالتحية أو السلام أو حتى (صباح الخير) يمكن ألا يلقى ردا على مبادرته إلا بالتجهم أو التجاهل، كنوع من التعالي.
بالرغم من أنه محسوب على المستوى نفسه، ولكنه الإمعان في التفاصل عن المحيطين، صار هو البوصلة الموجهة للجميع خارجيا وداخليا!
لقد شكا لى صديق من المعيشة داخل (كمبوند) فاخر شهير بشرق القاهرة، وكيف أن واحداً من الباشوات يسكن في فيلا مجاورة (لفيلتهم) أحرج والده، عندما صادفه وهو يركن سيارته بجواره.
فأراد الوالد التعرف عليه لأنه حديث العهد بالكمبوند، فإذا بالرجل يبادره بمنتهى العنجهية قائلا: (احنا جينا هنا مخصوص علشان محدش يتدخل في حياة حد!
فلتنظر إلى شوارع القاهرة وكيف انتشرت فيها السيارات الملاكي ذوات الأحجام العملاقة غير المناسبة مع كل هذا الزحام، وبعض أنواعها يكفى ثمن الواحدة منها لحل مشكلات نجع بكامله، بدون الحاجة لوضعه على خطة (حياة كريمة)!
ثم يأتيك في فاصل إعلانى من التلفزيون نفسه، صوت رجل أعمال شهير، قرر أن يكون هو نفسه من بين (موديلات) إعلانه عن مشروعه السكني الفاخر، ليبشرك وسط جوقة من نجوم الوسط الفنى، بأن الحياة بدأت في مدينته!
أتراه يقصد أن الذين يعيشون دون مستواها يليق بهم أن يحسبوا في عداد الأموات؟!، ولما لا؟!
لقد بدت الأوضاع تطبيقا لمقولة شيخ الأزهر الراحل عبد المجيد سليم: (تقتير هنا وإسراف هناك)، تلك الكلمة التى كانت سبب صدور أمر من جلالة الملك فاروق الأول ملك مصر والسودان، بإقالة هذا الشيخ الجليل من منصبه كشيخ للأزهر!
كل هذا كان تداعيا من جراء تقليبى بالريموت لأسمع حديث كابتن (جمال عبد الحميد)!
أرجوك أن تتمعن معي فيما رواه عن استقبال أمه له بعد أن مد يده ليعطيها جنيهين هما أول مكافأة له من الأهلى، فإذا بها تفتح البوك لتعطيه خمس جنيهات فوق الجنيهين ليشترى ملابس تليق به كلاعب في بداية مشواره بالنادى الأهلى!
ثقافة الرفاهية السائدة
هذا الموقف ينقض ثقافة الرفاهية السائدة الآن والتى صارت هدفا في ذاتها، فهل نعلم أبناءنا مثل هذا الموقف، بينما يضطر البعض منا للاقتراض لشراء موبايل (آى فون) أو جهاز (بلايستيشن) لأصغر أبنائه؟!
لقد صار أحلام الرفاهية مرضا خطيراً، وأخطر ما فيه أن الفقراء قبل الأغنياء يحلمون بالعدوى به، حتى يخيل إليك بأن التشجيع عليها مطلب قومي، بينما نحن نرى بأعيننا أثر هذا الترفيه، من ذيوع أخلاقيات الميوعة وسلوكيات الخنوثة التى تهدد مستقبل الأمم بعد أن نودى بها كحقوق وأسس لممارسة الحياة!
عذرا يا كابتن (جمال عبد الحميد).. فوحياة من جمعنا من غير معاد، ما كان في بالى أن يثير حوارك البسيط المباشر، كل هذه التأملات والتى لا تخطر ببالك أو بال مقدم البرنامج، غير أن الحديث له شجون.
فتلك البيئات الفقيرة العظيمة ذات الشظف والعوز، أنتجت لنا أبطالاً ليس في مجال الرياضة فقط، بل في كل المجالات، فالخطر كل الخطر، تقبيح الفقراء والتعالى عليهم.
مع إرساء قيم الرفاهية واتخاذها كشعار مرحلة مع انتشار سرطانى لأماكن الترفيه حتى صار في كل خطوة مول وكافيه وجيم وسبا ومطعم فاخر، لا ينافس هذا الانتشار إلا انتشار الفقر والفقراء مع كل طلعة شمس صارت هى الوحيدة التى تشرق فلا تفرق بين المترفين والمعدمين!