كتب: محمد حبوشة
استطاع النجم (ياسر جلال) أن يحلق بنا عاليا في عوالم خيالية آسرة، عبر شخصية (جودر) المستمدة من حكايات (ألف ليلة ولية)، ليثبت لنا أنه فنان صاحب موهبة كبيرة، ويجيد مختلف ألوان الجسيد الدرامي الحي.
فكما هو معروف أن (ياسر جلال) لايدخل عملا جديدا إلا ويكون قد لملم أطرافه على كافة المستويات الفنية والتقنية للدخول في آهاب الشخصية والعزف على أوتارها الداخلية والخارجية بحسه ومشاعره الفياضة.
وخاصة أن شخصية (شهريار) قد تم معالجتها دراميا في أكثر من عمل غاص في أعماق قصص الماضي الجميل داخل القصور التي عاش فيها (شهريار منصتا) في مخدعه كل ليلة لحكايات (شهرزاد) المثيرة والمشوقة حتى يدخل في نوم عميق.
يقول محمود درويش: (للحنين أعراض جانبية، منها إدمان الخيال، النظر إلى الوراء)، هكذا يمكن أن نفسر سر تعلق الجمهور بتجربة (ألف ليلة وليلة) الجديدة، حكاية (جودر) من كتابة أنور عبد المغيث وإخراج إسلام خيري.
نجح النجم الكبير ياسر جلال، في الانتقال بنا على البساط السحري كي ينتشلنا من هموم السياسة المرعبة والاقتصاد الضاغط على المواطن المصري، فثمة لعب شبه متقن على الحنين المفرط تجاه (ألف ليلة وليلة) لدى الكثير من شرائح الجمهور.
هذا اللعب على الحنين أو (النوستالجيا) له مقاييس واضحة في بناء العمل، أبرزها الإطار الخارجي للحكاية بشكلها التقليدي، كما لو أننا نستدعي نسخة الثمانينيات الشهيرة التي قدمتها (نجلاء فتحي) مع (حسين فهمي)، وإخراج عبد العزيز السكري.
وهي النسخة الأولى التي فتحت الباب أمام النسخ الأشهر التي قدمت طوال سنوات الثمانينيات عبر الثنائي (شريهان – فهمي عبد الحميد)، والتي اعتمدت في هيئتها الدرامية على نفس منطق (النوستالجيا) باستحضار صوت (زوز نبيل)، ونصوص (طاهر أبو فاشا) التي قدمها للإذاعة خلال منتصف القرن الماضي.
تجربة (جودر) ياسر جلال
كل هذا جاء في (جودر) ياسر جلال مطعما بتقنيات تحويل المسمع إلى مشهد، ومحاولة الإمساك بغزال الخيال المنطلق في رحاب التصورات الوصفية لإحدى حكايات (ألف ليلة وليلة)، التي بثتها الحلقات الإذاعية لسنوات طويلة.
لكننا في تجربة (جودر) ياسر جلال، نحن أمام نظرة إلى الوراء بتعبير درويش، فشهريار هو نفس (شهريار) الذي نعرف أصل عقدته الذكورية، و(شهرازد) هى ذاتها تاج الحكي ولؤلؤة الخرافات الملونة في زمن التكنولوجيا.
إن تجسيد شخصية معروفة هو أمر صعب يحمل قدرا وافرا من التحدي للممثل، فكيف لو كانت الشخصية واحدة من أشهر الشخصيات الأدبية والتي سبق لمئات الممثلين تجسيدها من قبل تحد صعب بلا شك؟
لكن النجم (ياسر جلال) في مسلسل (جودر) كان على قدر التحدي ونجح صناع المسلسل في اختيار ممثلين ملائمين بحق، فجسد (ياسر جلال) دورين، الأول هو (شهريار) الملك القاسي الذي تعرض للخيانة و(جودر) التاجر والمغامر الذي تتقاذفه الأقدار في مغامرات لا نهاية لها.
استطاع (ياسر جلال) العزف على أوتار الشخصيتين ببراعته المعهودة في التجسيد الدرامي الحر، وأن يقدم كل من الدورين بطريقة مذهلة والتحكم في لغة الجسد على مستوى الحركة والسكون، وبطريقة مختلفة مبهرة.
جسد (ياسر جلال) شخصية (شهريار) بتناقضاته النفسية والندبة التي خلفتها الخيانة في قلبه، فقد كان أداء (جلال) رائعا حتى أنك تجد صعوبة في أن تكرهه، بل بالعكس تتعاطف معه وتحبه أيضا في كل حالاته وخلجات قلبه الحنون.
وكجودر استطاع (ياسر جلال) الانفصال عن شهريار وتقديم شخصية مناقضة تماما له، فجودر رجل شهم ابن بار عاشق حقيقي ومغامر شجاع لا يتهاون ولا يوقفه الخطر، وهو ما يبدو أن هنالك تشابه أو تطابق بين شخصية (جلال) و(جودر) على المستوى النفسي والاجتماعي.
لقد كنت على ثقة أن (ياسر جلال) قادر على لعب دور الملك في كل حالاته بعمق اعتاد عليه، ومثل تلك القصة تناسبه تماما، وهو الذي دئما يضع في اعتباره الجانب الأخلاقي في كل أعماله الدرامي.
تألق أداء (ياسمين رئيس)
أما (شهرزاد) الجميلة فقد جسدت دورها وبتألق (ياسمين رئيس)، التي نجحت في نقل سحر شهرزاد إلينا بطريقة كلامها الهادئة المسجوعة ورقتها التي تخفي ذكاء جبارا، جعلها قادرة على النجاة بروحها من عقدة (شهريار) النفسية بحيث كانت (ياسمين) مناسبة جدا في دور (شهرزاد).
واستطاعت خلق انسجام مميز مع (ياسر جلال)، فتحولت مشاهدهما إلى متعة حقيقية فيما كان وجود (أحمد فتحي) بدور (مسرور السياف) ذي الشكل الكارتوني الضاحك إضافة موفقة للغاية، فوجوده منح الأحداث لمحة كوميدية محببة خاصة في المشاهد التي يتذمر فيها أمام شهريار من حرمانه متعة قطع الرؤوس.
وجسد محمد التاجي دور الوزير (قمر الزمان) والد (شهرزاد)، الذي وعلى رغم قلة ظهوره إلا أنه قدم إضافة محببة للأحداث.
أما في عالم حكاية (جودر) تبرز (نور) بقوة إذ جسدت دور الساحرة الشريرة (شواهي) ببراعة حقيقية، ونجحت في إضافة (كاريزما) وألق مميز للشخصية التي تشكل جانب الشر في الصراع، فأقنعتنا بشرها وطغيانها بأداء بعيد تماما عن الابتذال المسرحي، وبهدوء مستفز أضيف إلى مكر خبيث جعلها شريرة رائعة بحق.
وأيضا أبهرنا (وليد فواز) بأداء استثنائي متقن في الشر لشخصية (سالم) شقيق (جودر) الأكبر الطماع الكريه، أما الرقيقة (جيهان الشماشرجي)، فقد أجادت في دور (شروق) محبوبة (جودر) التي انتظرت عودته من رحلته الطويلة بصبر تحسد عليه.
لكن أكثر ما أثار الإعجاب كان اختيار (وفاء عامر) لتجسيد دور (فاطمة) والدة (جودر)، فجسدت دور الكفيفة بكفاءتها المشهودة، فهى الممثلة القديرة التي تملك القدرة الفائقة على التحليق بالشخصية والذهاب إلى مناطق مأهولة من الشجن والحنين.
تقاطعات النص مع السير الشعبية
ولا يمكن إغفال أن تقاطعات النص مع بعض السير الشعبية – كما في حضور شخصية العيار الحاقد وصراعه التقليدي مع (جودر)، هيأت خيال الصناع إلى خلق حالة مكانية مميزة تخص الحي الذي يسكنه (جودر)، مثل (حارة سعد السعدون)، ما خلق نوعا من التوازن النسبي في مقابل عالم (الشمعيين) أو كهف (الشمردل).
ومن ثم يمكن القول أننا أمام حكاية (جودر) فرصة طيبة لأن يتم استكمالها في مواسم جديدة، كمشروع طويل الأجل، خاصة أن مسألة الكنوز الأربعة، ولو أن بها لمحات غربية وغريبة نسبيا على الليالي العربية، إلا أنها تصلح لأن يكون كل منها حكاية فرعية لموسم كامل.
ولكن الأمر مرهون بما لو استطاع صناع العمل الحفاظ على لون الصبغة الأصلية للنص الأم، وممارسة إدمان الخيال الشرقي الذي من دون شك لديه من القوة والتماسك والجذور التراثية الثابتة والمتشعبة، ما يجعله قادرا على أن يجنب (جودر) حضور التنانين والخواتم السحرية.
الأداء الخرافي لـ (ياسر جلال)، هو ما ساهم بالضرورة في قدرة المسلسل على جذب فئة الشباب، ذلك يأتي ضمن التحديات الموجودة في العمل، وإن كنت أشعر أن المسلسل نجح بفضل (ياسر جلال) في استقطاب هذه الشريحة من الجمهور، خاصة وأنهم حريصون على مشاهدة الأعمال الأميريكية الضخمة التي تعتمد على الخيال.
كما أن أداء (ياسر جلال ووفاء عامر، ونور ووليد فواز، وأحمد فتحي، وعبد العزيز مخيون، وأحمد بدير)، ساهم أيضا في جذب شرائح مختلفة من الجمهور، كون القصة تتضمن معان شديدة الأهمية.
وطني أن أول ما يلفت الانتباه فى (جودر) هو القصة المشوقة التى صاغها السيناريست أنور عبدالمغيث ببراعة فائقة، فقد مكن المسلسل بقيادة (ياسر جلال) في أن يأخذنا فى رحلة مبهرة عبر الزمن والمكان ، لنشهد صراعا بين الخير والشر، وحبكة درامية محكمة لا تخلو من التشويق والإثارة.
وقد نجح السيناريست فى رسم ملامح شخصيات متعددة الأبعاد، لكل منها دوافعها وأهدافها، مما أضفى على القصة مزيدا من العمق والتشويق، مع خلق شكل جديد فى الحكى، يناسب القصة الأصلية، مع إضافات عصرية، فضلا عن تقديم المحتوى الأصلى لألف ليلة وليلة، والتى تعتمد معظم قصصها على غيرة وخيانة الأقربين.
أداء (ياسر جلال، نور) الخرافي
وقد ساهم أداء الممثلين المتميزين (ياسر جلال، نور) وغيرهما، فى إضفاء الحياة على الشخصيات، فجاءت كل شخصيتهما نابضة بالحياة ومؤثرة فى المشاهد، أيضا استطاع كل ممثل أن يتقمص دوره ببراعة وأن ينقل مشاعر الشخصية وأحاسيسها إلى المشاهدين.
حتى فى الأدوار الصغيرة، فلم تجد شخصية ثانوية ضعيفة، وقدم (ياسر جلال) الشخصيتين الرئيسيتين، (شهريار وجودر) بتمايز واضح بينهما، مع موهبة (وليد فواز وياسر الطوبجى)، وأداء جيد لكل الممثلين، مع اختيار مواهب جديدة فى الأدوار الصغيرة، فلم نجد حتى فى المجاميع أى هنات.
ولا يمكن الحديث عن تميز (جودر) دون الإشادة بدور المخرج إسلام خيرى الذى استطاع أن يترجم السيناريو إلى مشاهد بصرية ساحرة، فالمسلسل يتميز بإخراجٍ ديناميكى ومبتكر، يجمع بين اللقطات الواسعة والمشاهد القريبة، ويستخدم المؤثرات البصرية بشكل مدروس وفعال.
وقد ساهم التصوير السينمائى الرائع فى إبراز جماليات الصورة، ونقل المشاهد إلى عالم ملىء بالسحر والخيال، مع إدارة محكمة للممثلين، واختيار مميز لأماكن التصوير الخارجى فى الفيوم والمغرب وغيرهما من أماكن تضفي نوعا من السحر والجمال.
ولعل أحد أهم عناصر تميز (جودر) هو دقة الجرافيك الذى نفذته شركة (أروما) شريك الإنتاج، وجودة تصميم الديكور الذى صممه (أحمد فايز)، الذى تولى أيضاً الإشراف الفنى على العمل.
استخدم المسلسل أحدث التقنيات فى مجال المؤثرات البصرية، فجاءت المشاهد الخيالية واقعية بشكل مذهل، كما تم تصميم الديكورات بعناية فائقة، لتناسب أجواء المسلسل، وتساهم فى نقل المشاهد إلى عالمه الساحر في متنة آسرة.
حرفية مدير التصوير (تيمور تيمور)
وقد ساهم هذا الاهتمام بالتفاصيل فى إضفاء مزيد من الواقعية على المسلسل، وجعل المشاهدين ينغمسون فى عالمه الخيالى، وكذلك ساهمت الأزياء التى صممتها (منى التونسي) لكل شخصية فى صناعة صورة أكثر دقة وإبهارا.
وساهمت حرفية مدير التصوير (تيمور تيمور) فى جعل الصورة نابضة بالحياة، واستطاع مع المخرج إسلام خيرى والمونتير (رحيب العويلي) أن يجعلنا نستمتع بصورة لم نجدها مسبقا فى أى عمل مصرى أو عربى.
حيث اعتمد المخرج على صناعة كادرات معبرة تماما عن مضمون الدراما مع استخدام الإضاءة المناسبة فى كل مشهد ولكل شخصية.
أما الموسيقى التصويرية التى ألفها (شادى مؤنس) ففيها مزج عظيم ما بين حالة (ألف ليلة وليلة)، وموسيقى معاصرة، لم نعتدها مسبقا فى أى تجربة لتقديم (الفانتازيا) الأشهر فى التاريخ.
بل اعتدنا على سماع سيمفونية (شهرزاد) لكورساكوف فى معظم الأعمال السابقة، والتى أعطانا منها (شادى مؤنس) لمحة بسيطة فى الحلقة الأولى ولم يستخدمها تاليا.
في النهاية: يمكنني القول بأن (جودر) قد نجح فى تقديم تجربة درامية متكاملة وممتعة، استطاعت أن تأسر قلوب المشاهدين، وتنال إعجاب النقاد، فالمسلسل يجمع بين عناصر النجاح كافة، من قصة مشوقة وإخراج متميز وأداء تمثيلى رائعٍ، فضلا عن أعمال الجرافيك والديكورات المبهرة.
ولا شك أن (جودر) سيظل علامة فارقة فى تاريخ الدراما المصرية والعربية، وسيُذكر كأحد المسلسلات التى ساهمت فى الارتقاء بالذوق العام وتقديم محتوى درامى عالى الجودة.
كما أن (جودر) هو عمل جماعى بامتياز، فقد ساهم فيه العديد من المبدعين المصريين، من كاتب ومخرج وممثلين وفنيين، وقد أبرز هذا العمل الجماعى الإبداع المصرى فى مجال الدراما التليفزيونية، وأثبت أن الدراما المصرية قادرةٌ على منافسة الدراما العالمية.
هو إذن مسلسل استثنائى بكل المقاييس، ويتفق الجميع على أن (جودر)، هو التجربة الدرامية الأبرز فى رمضان 2024، وأنه عمل فنى متكامل يستحق المشاهدة والتقدير والاحترام لكل صناعه، وعلى رأسهم (الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية).