بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان
مشيت مع (حلمي شرشر) من أجل أن أخرجه من حالة الانتقال من عالمه القديم إلي عالمه الجديد.. نظر صديقي (علي محمود) إلى (حلمي شرشر) وحياه، وصافحه، وقال لي:
على فكره يا إبراهيم: أول مره أشوف صاحبك ده ما عرفتنيش عليه قبل كده، واضح أنه مؤدب، ومتربي، وابن ناس.. بس غريبة أني أول مره أشوفه!
قلت له: دا (حلمي شرشر) يا (أستاذ علي)، من اسكندرية، قال لي: هو هنا من إمتى؟ قلت له: من امبارح.
ضحك (علي محمود) ضحكته المعروفة بالنسبة لي، وقال: يعني لسه الأكل اللي أكله في بيتهم ما اتهضمش.
ثم سأله: جاي برضه زي ابراهيم بتهمة قلب نظام الحكم مع استعمال القوة؟
لم يفهم (حلمي شرشر) ما يقصده!
قلت للأستاذ علي محمود: دا جاي علشان تعريفة!
تعجب (علي محمود و سألني. يعني ايه علشان تعريفة؟
قلت له: ركب تورماي في عربية درجه أولى، و صمم ما يدفعشي غير قرش بس، لأن أجرة عربية الدرجه الأولي تلاتة تعريفة.
ظن (علي محمود) أنني أمزح معه.. فانصرف والفوطه علي كتفه.. والصابونة في يده.. و فرشة الأسنان بين شفتيه.
سألني (حلمي شرشر) مين ده؟
قلتله: دا (علي محمود)، مدير وكالة الأنباء الأمريكية، اتحاكم بتهمة التجسس، واتحكم عليه بالإعدام، واتخفف الحكم بعد تدخل أمريكا للأشغال الشاقة المؤبدة.
الغريب يا (حلمي) إن وهو منتظر الحكم بالإعدام، كتب كتابه على الإنسانة اللي كان بيحبها.. بعد تدخل أمريكا برضه.. خد براءة، لكنهم رفضوا يفرجوا عنه، وجابوه المعتقل!
مرتبه من الوكاله بيتصرف، وكل عدة أيام بييجي مندوب من السفارة الأمريكية يشوفه وبيجبله أكل من بره.
سألني (حلمي شرشر) عن إعدامه
سألني (حلمي شرشر): يعني ممكن يحكموا عليا بالإعدام؟. أخبرته أنهم حكموا علي بالاعتقال فقط!
أخذت (حلمي شرشر) ومشينا.. كنت فرحان به جدا، رغم أنه كان صعبان عليا.
ساعات كنت أقول لنفسي: الراجل ده صعبان عليا لأنه اعتقل ظلم، وأرد على نفسي: ما أنت برضه اعتقلت ظلم.
بقيت فرحان جدا أنه ارتاحلي، وبدأ يحكيلي عن خطيبته، وإنها بتحبه جدا.. وإنه بيحبها وما يقدرشي يعيش دقيقه من غيرها.. وانه زعلان جدا إنها هاتروح البيت علشان تحتفل بعيد ميلاده ومش هاتلقاه.
قولتله: أكيد يا (حلمي) هايقولولها علي الظروف.. ضحك (حلمي شرشر) وقال لي: ظروف ايه يا أستاذ إبراهيم.. هى العيله تعرف حاجه عن اللي حصلي؟!.. دول زمانهم لفوا على كل مستشفيات اسكندرية وسألوا كل اللي أعرفهم عني.
أنا جيت من التورماي علي هنا بالحلويات اللي معايا واللي كان المفروض تتقدم لهم و لكل العيله والأصدقاء، خصوصا اني اشتريت كميه كبيرة من أكبر محل حلويات في اسكندرية.
رغم أن جنب البيت عندنا كذا محل كوبس بيبيع جاتوهات.. فجأه تذكرت الجاتوهات والتورتات اللي موجوده معاه وجابها وهو جاي، قلت في نفسي: إيه المانع نعمله عيد ميلاد هنا في معتقل طره السياسي.
مريت علي كل عنابر الإخوان المسلمين، والنشاط المعادي، والمكفراتية، واليهود، وبعت واحد لعنبر الشيوعيين يبلغهم زي ما الكل اتبلغ أن عيد ميلاد (حلمي شرشر) المعتقل الجديد النهارده الساعه خمسة.
الناس اللي في عنبر النشاط المعادي اللي معايا.. كل واحد فيهم طبق البرش بتاعه، وفرشوا العنبر بالورق و الجرايد القديمة، والبعض علق زينه بسيطة.
الساعه خمسه كان العنبر فيه مش أقل من ألف واحد.. مفيش واحد فيهم شيوعي باستثناء المثال (سعد هجرس) الذي أحضر له تمثالا من صنع يده.. كل واحد جايب معاه حاجة.. أكل أو هدية.
محشي الأستاذ (أحمد رائف)
الأستاذ (أحمد رائف) جاب كمية أكل فيها محشي باللحمة.. وناس كتير جدا جابوا كل اللي قدروا عليه.
الهدايا اللي وصلت (حلمي شرشر) كتيرة جدا.. سبح معموله بنوا الزتون.. تواتو يطبخ عليها ويعمل الشاي.. بعض المعتقلين كان عندهم بطاطين زيادة.. عملوله مرتبه بالقش عن طريق واحد غزاوي شكله متخلف عقليا، وحد تاني عمل له مخدة، وحتي عنابر اليهود بعتت من يمثلهم في الاحتفال بهديه لـ (حلمي شرشر).
هكذا.. جلسنا جميعا حول الجاتوه.. والمأكولات، وكان أكبر عيد ميلاد في العالم.
بعد انتهاء عيد الميلاد.. كل اللي كان موجود نضف العنبر.. ورش منظف ومعطر.
حلمي قاللي: إيدي وجعتني من كتر السلام.. بس مش عارف ليه وأنا واقف والطوابير بتسلم عليا واحد واحد.. وكلهم بيقولولي شد حيلك.. حسيت اني في ميتم.. وباتقبل العزا في حريتي اللي فقدتها.
أخذت (حلمي شرشر) معي و مشينا بجانب الأسوار التي يجلس فوقها بعض عساكر الحراسة في أكشاك خشبيه لنوزع عليهم بعض الحلوي والمأكولات الفائضة.
المضحك في الأمر أنني وجدت بعض القطع الكبيرة من المشلتت والقرص الفلاحي الخاص بالفلاح الغبي الذي تسبب في تدمير (حلمي شرشر) وأسرته، يبدو أن أمناء الشرطه وضعوا مناب (حلمي شرشر) في حقائب الحلوى.
أخذ (حلمي شرشر) مرة أخري يحكي لي عن خطيبته.. وعن علاقته بالبحر.. وعن حبه لأمواجه.
سألني عن القصيدة التي سمعها من (علي محمود) والذي كتبتها له وسألني: هو فعلا جزمتك من غير رباط؟
لم أجد إجابة مقنعة، ولكنني فهمت أنه لم يفهم أن القصيده سياسية.. أجبته: عمري يا حلمي ما لبست جزمه برباط.. ولاعمري هاعمل كده!
صدمني بسؤال آخر خاص بالقصيدة القصيرة التي سمعها من (علي محمود): و بدلتك من غير زراير إزاي؟، قلت له: لو أنا لابس بدله يا حلمي باسيب زرايرها مفتوحة، اللي يشوفها يقول من غير زراير.
(حلمي شرشر) ذكي جدا.. لذلك لاحظت أنه غير مقتنع بتفسيري للقصيدة.. فجأه قال لي (حلمي شرشر): سمعني حاجه عاطفية؟
قلت له هاسمعك جمله عاطفيه غناها عبد الحليم حافظ من كلمات مرسي جميل عزيز)، و الله يا (حلمي) لو الحكومه فهمت الجمله دي.. كانوا قبضوا على حليم، ومرسي، والملحن، وعلي كل اللي يسمعها!
سألني عن الجمله التي غناها حليم فقلت له: (إبعد الخوف عن رموشك.. إوعي شئ في الكون يحوشك.. يعني ما تخافي من أي حاجة، واوعي أي حاجة تحوشك عن اللي انت عايز تعمله.
ولحكاية حلمي شرشر بقية في الأسبوع القادم