كتب: محمد حبوشة
عدا الأداء الرائع لكل من (عابد فهد) و(أنس طيارة)، وقع المخرج (محمد عبد العزيز) في مسلسل (نقطة انتهى) بما يقع فيه المخرجون عادة بعد تقديم جزء أول، مشكلا: التناسب بين الجزءين، حتى ولو اضطر إلى قرع الطبول.
هذه قضية بالغة الخطورة، لأن من الصعب تقبلها في حالات المشاهدة الجلية، حيث إن الفكرة مادة مهمة في الدراما، لأنها تتطلب فعلا وتفكيرا.
يفعل محمد عبد العزيز في (نقطة انتهى) من دون أن يفكر، لا إبداع من دون فكر وتفكير، هكذا، وقع في عقلية التعلم من (النار بالنار)، حين أوقع (نقطة انتهى) في تفسيره العام، في شكله العام، نسخه، على بعض المضافات.
اختار (عبد العزيز) في (نقطة انتهى) الشارع نفسه، المقهى نفسه، انشغل بالانتظام لا بالتشعيب، لتواجه شخصياته في (نقطة انتهى) ما واجهته شخصياته في (النار بالنار)، العكوف على الخروج في مدار، كل في مداره.
نفس النقاش في المواضع المقصودة في (النار بالنار) حول علاقة اللبناني بالسوري في النشاط اليومي بطموحه الوصول إلى النشاط العقلي، هى نفسها في (نقطة انتهى) إلا أن ذلك لن يقود إلى شيء في غياب المعرفة والمنطق.
لدى القصة ما تقوله، ولوهلة بدت واثقة من نفسها، مرور الحلقات أظهر فراغات أمكن ملؤها لو اختصر عددها من 30 إلى 15، الدوران حول جرائم القتل، بهذا الشكل، مستنزف.
ومما لاشك فيه فإن (عابد فهد) بخبرته الطويلة قدم في انفعالات متقنة، فرضت حبس النفس بانتظار كشف الخيوط، ربما الأمر تأخر بعض الشيء، ما وضعه أمام الوجه الواحد، والصوت الواحد، والشخصية التي تدور حول نفسها.
(نقطة انتهى).. والسر المرتقب
بشر (نقطة انتهى) بحمله السر المرتقب أن يقلب الطاولة، مرر ذلك مثل طعم يعلق المشاهد في أحداث لم تحصل بعد، ما حدث حتى الآن، أصابه التطويل والإيقاع البطيء، كأنه عالق في عنق زجاجة، يدور حول جريمة يرتكبها (فارس) حين يقتل شقيق زوجته، ولا يزال اللف والدوران سيدي الموقف قبل الانتقال إلى الجولة الثانية.
عالم العصابة يحرك مسلسل (نقطة انتهى) ويصنع مزاجه العام، يكلف (خالد السيد) بدور (الشرير) نفسه طوال الوقت، يشكل بشخصية (عزام) مع عادل كرم بشخصية المحامي (سامي) ميزان قوى.
الضعيف حتى الآن هو (فارس/ عابد فهد) المغمس بصورة الضحية، والمشهر عجزه الكامل، تبين الموسيقى التصويرية أن شيئا كبيرا سيحدث في أي لحظة، ومن الواضح أن مهمتها التسبب بخفقان القلب تحسبا لطارئ مرتقب.
لكنها أحيانا تأتي (مجانية)، ولا تحمل أي إعلان لتطورات، المعضلة ليست القصة نفسها، بل تطويلها وتشريعها على المط، لا بأس بالطهي على نار هادئة، وهذا فن، لكن الحلقات تمر، معلنة إرجاء اللحظة المحركة.
تختار القصة في (نقطة انتهى) موضوعا مستفزا وتجعله مسرحا للشر البشري: إنها وظيفة غسل الموتى وهي تتحول شماعة للتهريب والتجاوزات، حتى القبور لا تسلم من الطمع الإنساني وجشاعة تجار المخالفات.
الموضوع (صادم)، لكن (قوته) موجهة نحو توريط البطل، فلا تكشف خفايا قضية اجتماعية، ولا يوضع إصبع على جرح، بقدر ما يسعى المسلسل إلى مزيد من هذا التوريط.
فتجر الكذبة كذبة أكبر، مما يؤطر (عابد فهد) بالانفعالات نفسها التي زادت على حدها وانقلبت إلى ضدها في بعض الأحيان، وربما قصد ذلك بحيث يعكس تناقضات شخصية (فارس) المهتزة في اضطراب نفسي بفعل قتله لشقيقة زوجته بالخطأ.
رهان على أنس طيارة
وسط هذا كله، ثمة رهان على أنس طيارة بشخصية (غزوان)، صاحب ذاكرة نازفة وحب مستحيل، يقتل بدم بارد ويمارس الوحشية بهدوء، وحده من بين الشخوص، حتى الآن، له ماض، تحدره من اليتم والعنف والرفض، رسم طريقه.
ومَن يقتل مرة، يتلطخ إلى الأبد، وهذه الشخصية ملطخة، يجيد طيارة وضعها على الحد الفاصل بين الإنسان والوحش، قتله امرأة بسن (أم فارس/ وفاء طربية) وظرفها الصحي، بدا أقرب إلى الخلل في صياغة الدور، وإقحاما له في المبالغات.
ورغم بشاعة استغلال القبور للغرض الرخيص، تبقى علاقة (نقطة انتهى) بالموضوع (الصادم) على مسافة من إحداث الضجة الكبرى، تصاب الرغبة بتتبّع حركة (عزام) ومخططاته، بشيء من الفتور مع تقدم الحلقات، خالد السيد ممثل جيد، لكن زجه في الدور الواحد ممل.
ورط المخرج المسلسل بانطباع أنه يكرر نفسه، حين أتى بابنه ليعيد مشاهد سبق وقدمها، وارتأى حيا مشابها لحي (النار بالنار)، وسيرة (السوري – اللبناني) على الألسن.
هنا، ظلم قصة تشاء التغريد في سرب آخر، أمكن العمل أن يحتل مكانة أعلى، لولا الارتباك والتأطير، بطله من الأسماء المنتظرة، أثبت تألقا في الموسم الرمضاني الماضي.
الحلقات الأولى من (نقطة انتهى) صبت في مصلحته، حين وظف ملامحه وأدواته للإقناع بالشخصية المغلوب على أمرها، شيئا فشيئا، بدا أن الدور ينصب له فخا، فيوقعه في شباكه.
تضبط (ندى أبو فرحات) انفعالاتها، وتعطي الدور ما يحتاج إليه، أداؤها مريح، رغم كل ما يجري، تغلب عليها الطمأنينة أكثر مما توحي بالأزمة، الجيد في الأمر أنها وعابد فهد يشكلان زوجة وزوجا عاديين، أكثر مما يؤلّفان (ثنائية درامية).
أداء (كرم) متماسك
حضورهما يخلو من (هم) التحول إلى مشهد، يأتي دور (عادل كرم) لتأكيد هذا (الانسلاخ) المتحكم بفكرة الثنائية، فهو أيضاً حبيب سابق لـ (كرمة) وسرها متعلق به، لذا، فهد ليس وحيدا في لعبة القلب، مما يحرره من أن يوضع في إطار.
أداء (كرم) متماسك، ويتقن دور التقلب بين المخططات، تاريخه متسخ، وعلاقاته النسائية مشبوهة؛ بعضها يثير المتاعب مثل علاقته بزوجة أخيه (ليال/ رلى بحسون)، إلحاحها يقابل برفضه، وخلف الإلحاح والرفض قصص من الماضي.
يخرج خيطهما الدرامي الأحداث من الزجاجة المغلقة، كالقصة الجانبية حول الحمل غير الشرعي لشقيقة (فارس) من شقيق (كرمة) المقتول، الفيديوهات والتسجيلات الصوتية تبين شكلا آخر للدناءة الإنسانية، مع الإبقاء على فتح نافذة ضوء يختزلها حضور (بياريت قطريب) بوصفها السند والصداقة واليد الممدودة.
(نقطة انتهى) ليس مسلسلا ميؤوسا منه، بالرغم من تكراره تيمة (النار بالنار)، حيث قاد النص (فادي حسن) إلى قصة (فارس) صيدلي قام بدوره (عابد فهد) هو نفس بطل (النار بالنار) وزوجته (ندى بو فرحات) في حي صعب تقبل الواحد فيه الآخر.
ربما ليس هنالك فكرة حاذقة في بناء الدراما على حماية الصيدلي نفسه من زوجته بعد أن قتل شقيقها بالخطأ.
أحداث القتل لا تنتهي في (نقطة انتهى)، يقتل غزوان (أنس طيارة) والدة الصيدلي العجوز (وفاء طربية) بلا سبب مقنع، ثم يقتل (خالد السيد)، إنه على استعداد دائم للقتل.
لأن القتل عنده يمحضه القوة وأسباب الحياة المختلفة، بين المحامي (عادل كرم) الطامح إلى لعب دور سياسي و(جورج شلهوب) رجل العصابات المتواطئين على جعل الآخرين يتألمون.
عشيقة المحامي تلبي احتياجاته في ممارسة العنف، لأنه كلما التقاها، بعد أن زوجها من أخيه يعنفها بالضرب باليد، بباقة الورد، بالورق، أو بوضع الرأس تحت الماء أو بالتحقير، وهي لا تنفك تعود.
عنف لاينتهي في (نقطة انتهى)
ثمة عنف لا ينتهي في (نقطة انتهى)، ذلك العنف قناع الدراما، يقود المشاهد إلى المراوحة أمام أكوامه على حساب القصص الأخرى، العنف يعني الشدة، العنف يعني عدم الرفق، الرفق حسن الانقياد إلى ما يؤدي إلى الجمال.
لا شيء من ذلك، ولكنه العنف، ذلك أن ثمة فتاة حامل من شقيق الصيدلانية المغدور، عنف من علاقة لاشرعية.
الكادرات في (نقطة انتهى) قد تفتقد أصواتها العالية، إخراج بلا براعة، بلا خيال، إذ يترجم الأحداث والمواقف بلا تناسق وبلا تميز، حيث تسود الفوضى في الإدارة وفي تنظيم الدراما بصورة ميسرة.
كل مشهد في (نقطة انتهى) ولادة عسيرة، لأن الإخراج لم يسمح باتساع نطاق المجال النصي، نص يسقط عن حائط، بحيث لا بد من الكفاح لإنجازه مع مخرج خلف أسسه ومواصفاته الفنية الكاملة في (النار بالنار).
لا توليد لغة، ولا تجسيد يتخطى الزحف إلى الدمدمة، لا سؤال حول الاختلاف، معناه: لا تجهيز للمنافسات، قفز منذ اللحظات الأولى إلى واجب تحقيق الهيئة بما ما في الوسع.
لا إبداع، باستعمال الخيال لتطوير الأفكار وتكييفها حتى تشبع الحاجات الفنية بطرق جديدة، الأهم أن لا قدرة على ممارسة التفكير الناقد لأجل تجسيد الوضع الإنساني بطرق حية، طرق لا تخطئ بهذا الصدد.
ثمة شخصيات زائدة في (نقطة انتهي)، شخصيات تائهة، كشخصيّة (تيم عبدالعزيز)، مركب تائه في الحي المخبوط بالتخالط اللبناني/ السوري، تيم ابن المخرج، حوله إلى بطل الدراما الأولى بعد حلقات عديدة على بدايتها.
جعل من ولده الأزعر، الداشر في الحارة فيلسوفا من فلاسفة الحياة، بحيث قتل سيد الحارة وفر مع الصبية الحامل من غيره عبر الحدود إلى سوريا.
الأمور ليست على ما يرام في (نقطة انتهى)، كما جاءت في أجزاء من (النار بالنار)، لأن الأول افتقد مجموعة من الأسماء الوازنة كـ (طارق تميم وساشا دحدوح وزينة مكي وهدى الشعراوي وجورج خباز وطوني عيسى)!
(عابد فهد) في أداء محير
ومع كل تلك النتوءات التي تصب في خانة الإخراج الضعيف إلى حد ما في (نقطة انتهى)، يأتيك (عابد فهد) في أداء محير، يبدو واثقا ومترددا في الوقت ذاته، كأن ثمة ما يغلي في داخله، ولكنه يجد طريقة لكي يصرفه، بحيث يبدو فانوس (عابد فهد) المضيء في ظلام الدراما متلألأ في أبهى صورة.
أعرف أن (عابد فهد) مهوسا بفن التمثيل وصولا إلى حد الأداء الساحر في الدراما، هكذا يمكن وصفه في جملة بسيطة تكشف عن جوهر الفنان داخل هذا الممثل السورى الذي بدأ حياته (عابدا في محراب الدراما).
فمنذ إطلالته الأولى وحتى اليوم استطاع أن يلامس شغاف قلوب محبي التمثيل وهو يعبر عن المشاعرالإنسانية الصادقة دون أدنى عناء يذكر.
فهو يقوم في كل دور يجسده على الشاشة بالعزف جيدا على أوتار القلب والعقل معا في (سيمفونية) رائعة أو (كونشيرتو) راق، كي ينتج لنا في النهاية قطعة فنية مغايرة على مستوى الشكل والمضمون كما حدث في (نقطة انتهى).
ربما طال أداء (عابد فهد) في (نقطة انتهى) بعض النقد السلبي، لكن الذي لايدركه منتقدوه أنه ممثل يمكنه الوصول بسهولة ويسر إلى بواطن النفس البشرية الخفية، تاركا فيها أكبر الأثر عبر أداء احترافي جاذب يتسم بالجدية والعذوبة في آن.
والحقيقة أنني على العكس تماما من كل الآراء التي وردت في انتقاد أداء (عابد فهد) في رمضان هذا الموسم، بل إنني أرى أن مسيرة النضج الفني التي يمر بها (عابد فهد) متواصلة ولاتنقطع أبدا.
بل يلحقها كثير من التطور والتألق من سنة إلى أخرى ومن مسلسل لآخر، على مستوى التكنيك في الأداء وفق متطلبات الشخصيات التي يؤديها، فقد استطاع بموهبته الفنية الفذة، وفي ارتجال خاص الإمساك بتفاصيل الشخصية الدرامية في (نقطة انتهي).