بقلم المفكر الكبير الدكتور ثروت الخرباوي
وكأنه مسلسل، هذا هو عنوان مقالي، إذ كنت أحاول أن أقنع نفسي بأنني أشاهد (مسلسل)، وقصة كل (مسلسل) كأنها قصة، والتأليف كأنه تأليف، والإخراج كأنه إخراج، والتمثيل كأنه تمثيل.
لذلك أتعبتني مسلسلات رمضان، غفر الله لمن ساهم فيها، فكثير من هذه المسلسلات مقتبسة من المسلسل الأمريكي الشهير (الهارب)، بطولة الممثل الأمريكي الرائع (ديفيد جانسن) والذي تم عرضه في التلفزيون المصري عام 1968.
ثم تحوَّل بعد ذلك إلى فيلم سينمائي بذات العنوان بطولة الممثل الأمريكي (هاريسون فورد) عن دكتور (ريتشارد كمب) الذي أُتهم بقتل زوجته وحكم عليه بالاعدام فهرب وظل يتعقب القاتل الحقيقي ليعرف هويته ويكشف براءته إلى أن وصل إلى القاتل الأكتع.
وكان مفتش الشرطة آنذاك يطارد هذا الدكتور البريئ ليقدمه لقمة سائغة للكرسي الكهربائي، هارب مظلوم تطارده الشرطة هذا هو ملخص (مسلسل) بيت الرفاعي بطولة أمير كرارة وهو فنان محبوب وله قبوله العام، ولكن لكي ينجح العمل يجب أن يكون التأليف ناجحا.
ثم (مسلسل) محارب، بطولة الفنان المجتهد حسن الرداد، وعلى ذات المنوال مسلسلات أخرى أنساني الزمن أساميها، وهذا من رحمة الله أن جعلنا ننسى!!.
ولكن حدث أن انفجرت مرارتي من ذلك النظام القضائي الرفيع في (مسلسل) محارب، فلا شرطة المسلسل هى الشرطة، ولا النيابة هى النيابة، ولكنها أشياء خيالية مزعجة للغاية.
فالمتهم محارب هارب، والنيابة أحالت القضية لمحكمة الجنايات، ولو اجتهد المؤلف قليلا، لعرف أن المحكمة إذا غاب المتهم عن الحضور يُمتنع عليها سماع الشهود أو سماع مرافعات.
المؤلف النجيب (محمد بشير)
فكيف يترافع المحامي عن المتهم في جناية قتل في حين أن المتهم هارب لم يمثل أمام المحكمة؟، المحكمة أيها المؤلف النجيب (محمد بشير) تُصدر في هذه الحالة على المتهم حكما غيابيا، دون سماع مرافعات أو شهود.
لا من النيابة ولا من محامي المدعين مدنيا المضرورين من الجريمة، ولا من محامي المتهم، والمضحك أن المحكمة لم تسأل محامي المتهم: أين المتهم يا أستاذ؟ وأكاد أسمع المحامي وهو يقول للمحكمة ـ في سره طبعا ـ (حبكة المسلسل يا حضرات القضاة تقتضي استمرار هروب المتهم).
ولكن مسلسلنا لم يقل فيه رئيس المحكمة: لا نستطيع وفقا للقانون سماع مرافعتك يا أستاذ، فمحكمة التلفزيون المصري توافق على قيام محامي المتهم الهارب بسؤال الشاهد، والمرافعة ، وما أجمل محاكم التلفزيون!
وعندما قال محامي المضرورين من الجريمة: المحامي يريد التأثير على الشاهد وأطلب توجيه إنذار له!!، قالت له المحكمة: لا يا أستاذ من حقه توجيه السؤال، يا حلاااوة بصوت (مظهر أبو النجا)، و(يا صلاة النبي أحسن) بصوت إسماعيل ياسين.
هذا هو بحر العلم وترعة المفهومية، يا حضرة المؤلف لا يوجد ما يسمى توجيه إنذار للمحامي، لكن الإنذار هناك في مسلسلات أمريكا، من أين تستمدون ثقافتكم يا ناس؟
ثم هذه أول مرة في حياتي أرى محكمة تؤجل القضية لتحريات المباحث، تحريات مباحث أيها المؤلف؟!، تحريات المباحث تطلبها النيابة أثناء التحقيقات وقبل أن تحيل القضية للمحكمة، ولكن أن تطلبها المحكمة فهذه من المضحكات المبكيات!
وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن المؤلف ضليع في الجنح أرشيف في الجنايات (بصوت عادل إمام)، والحقيقة لا أعيب على المؤلف فقط، ولكن كل فريق العمل، الأستاذة المخرجة (شيرين عادل)، ومساعدها (مهاب قطان)، والممثلين ومهندسي الديكور وحتى مصمم الملابس والكوافير.
ألوم الفنان (محمود البزاوي)
بل إنني ألوم الفنان (محمود البزاوي)، الذي قام بدور مهم في المسلسل، ألومه لأنه فنان مثقف، ألم يدرس هذه التفاصيل، خاصة وأنها تتماس مع دوره، ألم ينتبه أحد لهذا الهزل يا خلق هُو؟
ومع ذلك أيها السادة فإن المشكلة التي قام عليها المسلسل هى مشكلة قانونية بسيطة جدا، لا تحتاج إلى تلك الأحداث والمؤامرات لتبرأة الشاب الأرعن، فهى عن حادث قتل خطأ.
شاب أرعن استدار بسيارته فصدم سيدة كانت تسير في منتصف الطريق (عفاف شعيب) فقتلها خطأً، هذه جنحة قتل خطأ، ولأن السيدة كانت تسير في منتصف الطريق فتكون بذلك مشتركة في الخطأ، والمتهم وقتئذ يحصل على حكم بغرامة مالية لتحفظ لأهلها الحق في المطالبة بالتعويض.
هذا إذا كان المحامي بارعا مثل محامي ذلك الشاب الأرعن الذي قام بدوره الفنان (أحمد زاهر)، ولو كان المؤلف النجيب (محمد بشير) جعلها جريمة ضرب أفضى إلى موت لكان الأمر مقنعا.
كأن يكون المارة في الطريق قد اشتبكوا مع الشاب الأرعن وتدخلت السيدة لتفض الاشتباك فضربها الشاب بعصا مثلا كانت معه على رأسها فماتت، هنا تصبح مشكلة حقيقية، مثلا مثلا، لكن قتل خطأ تقوم عليه دنيا المسلسل ولا تقعد، فهذه من عجائب التأليف، ومن عجائب الكتابة التي تشبه الكتابة، والإخراج الذي يشبه الإخراج.
وإلى هنا نسكت عن الكلام المباح، وانتظروني في مقال قادم عن (مسلسل) الحشاشين وسيدهم (حسن الصباح)، وما أدراك ما الصباح.