بقلم: مجدى صادق
هل انتهى زمن الواقعية الجديدة فى السينما الإيطالية فى أربعينيات القرن الماضى برحيل روادها مثل (روبرتو روسيلينى، وفيسكونتى، وفيتوريو دى سيكا، وفيللينى)؟، أم أن (ماتيو جاروني) المخرج الإيطالى رغم أنه من مواليد 1968.
فلايزال أحد الذين يحافظون على تلك الحركة من أن تموت مع عصر تلعب فيه أدوات الثورة الصناعية الرابعة، مثل الرقمنة وتقنيات الذكاء الاصطناعى دورا فى صناعة الفيلم اليوم ؟!
سؤال نطرحه جانبا ونحن نحاول أن نشاهد آخر أفلام (ماتيو جاروني) الذى حصد الأوسكار مؤخرا كفيلم إيطالى أبطاله من نجوم يمثلون لأول مرة، رفعوا اسم السينما الإيطاليا فى أكبر المحافل السينمائية.
وهؤلاء هم الذين يؤرقون السلطات الإيطالية ويتعاملون معهم أشبه بالقطيع، وداخل معسكرات الموت ؟!!
رغم ان هناك الكثير من المخرجين أمثال البولندية (أنييشكا هولاند)، والفرنسية (إميلى فريش) وغيرهما مما اتخذوا من قضية الهجرة غير الشرعية مشروعهم السينمائي، وهناك من تم تهديده.
إلا أن فيلم (ماتيو جاروني) نجح فى تقديم هذه القضية من منظور ورؤية سينمائية أخرى فى ظل حكومة يمينية راديكالية متشددة تنظر إلى قضية الهجرة غير الشرعية بأنها أكبر وباء أصاب أوروبا، وأن إيطاليا هى بوابتها (الملعونة)، ىورغم ذلك قدم هؤلاء جائزة الأوسكارلإيطاليا!
(كابتيانو) هو فيلم درامى شارك مخرجه الإيطالى (ماتيو جاروني) فى كتابة قصته والسيناريو مع (ماسيمو جاوديوسو، وماسيمو تشيشيريني، وأندريا تاجليافيري).
وقد استوحى (ماتيو جاروني) قصة الفيلم من لقائه مع مراهق فى مخيم للاجئين فى إيطاليا، ليروى تلك الدراما الإنسانية من وجهة نظر أولئك الذين يخاطرون بحياتهم فى البحروالصحراء.
ومخاطر الموت تلاحقهم بحثا عن حياة أفضل، وهى قصص حقيقية ترصد الطرق والدروب الأفريقية للمهاجرين إلى أوروبا.
(كابتيانو) ظهر فى 7 سبتمبر 2023
الفيلم الذى ظهر فى 7 سبتمبر 2023، وهو من إنتاج دولي مشترك بين إيطاليا وبلجيكا وفرنسا، حيث تم التصوير فى أماكن حقيقية سواء فى السنغال والمغرب وإيطاليا، وقد استعان (ماتيو جاروني) بفريق عمله وهم نجوم فيلمه من هؤلاء الضحايا!
وتم ترشيحه لأفضل فيلم بلغة أجنبية في حفل توزيع جوائز (جولدن جلوب) رقم 81، وأفضل فيلم روائي عالمي في حفل توزيع جوائز الأوسكار السادس والتسعين.
و حصل من قبل على جائزة (مارسيلو ماستروياني) عن أداء (سيدو سار) الذى كان يحلم أن يكون لاعب كرة شهير، وهو أيضا ضابط إيقاع، لكن الأقدار رسمت له طريقا آخر، لكن لايزال يحلم أيضا بنجومية فى كرة القدم، مثلما يقول يمكننى القيام بالأمرين بالتوازى مثل (إيريك كانتونا)!
(سيدو وموسى)، ابنا عم سنغاليين في سن المراهقة، يغادران مسقط رأسهما (داكار) يعبرون (مالى) بجوازات سفر مزورة للوصول إلى وجهتهم إيطاليا، فى حين تكتشف الشرطة عند وصولهم إلى (النيجر)، هذا التزوير ويسرعون بدفع مبلغا من المال كرشوة حتى يتجنبوا السجن وللانضمام إلى مجموعة المهاجرين الآخرين.
حيث يعبرون الصحراء سيرا على الأقدام مع مرشد طريق حتى دخول ليبيا، حيث مستنقع آخر من المتمردين الذين يبحثون عن المال وأي أشياء ثمينة، وهم يفتشون النساء والأطفال، فهم بالنسبة لهم مجرد أرقام فى حسابات هؤلاء المتمردين.
وهناك (مافيا) نشطة فى تهريب الهجرة غير الشرعية، حاولت السلطات الإيطالية تجنيدهم لوقف عملياتهم ومنحتهم الكثير من المال، إلا أن البطون مفتوحة، فى حين يكتشف المتمردون أن ابن عم (سيدو – موسى) يخفى أمواله، يأخذوه إلى السجن لتبدأ رحلة معاناة أخرى!
(سيدو) في طرابلس
يبقى (سيدو) في طرابلس للبحث عن ابن عمه (موسى) الذى سجن، ورغم أنه هرب من السجن الذى احتجز فيه، إلا أنه أصيب برصاصة فى ساقه أثناء محاولة الهرب، فالسجن تديره المافيا مع مئات الأشخاص من دول أفريقية عديدة!
وتلك السجون أشبه بالجحيم، حيث التهديد بالتعذيب وابتزاز النزلاء للحصول على معلومات الاتصال بأقاربهم، حتى يُطلب منهم فدية مالية وبيعهم كعبيد!
هناك مشهد يقدم فيه (سيدو) مياهه التى يمتلكها لامرأة تحتضر، قد يكون ذلك قاتلا بالنسبة له، وكذلك رحلة البحث عن ابن عمه، وحين يلجأون إلى أحد السماسرة (أحمد)، الذى ينظم لهم كيف يسيرون بقاربهم المتهالك عبرالبحرالابيض المتوسط.
من خلال بوصلة، إذ لايملكون من المال شيئا، ولم يكن هناك مفر سوى أن يقوم (سيد) بالإبحار بنفسه وسط الأهوال والأمواج المتلاطمة والعواصف والرياح للاسراع ايضا بعلاج ابن عمه (موسى).
فحاجته إلى رعاية طبية متقدمة تضع المزيد من الضغط على (سيدو) لاستئناف الرحلة إلى أوروبا، على الرغم من أنه لم يبحر أبدا إلا أنه وجد نفسه مسؤولا عن 250 مهاجرا فى حالة سيئة.
ويصبح الصبى (سيدو) هو (الكابتايانو) وعمره 16 سنة، وأصبح سيدو الصغير بمثابة والدهم، فهو يهدئهم ويعتنى بهم ويدعوهم إلى الصلاة إلى الله!
تفاصيل مأساوية كثيرة تستحق أن تحكى وقد استطاع المخرج الايطالى (ماتيو جاروني) أن يجمعها ليصنع بها ومنها صورة اكثر سيرالية بسبب تعقيداتها الانسانية بعد فيلمه (جومورا) حول المافيا فى نابولى منذ اكثر من 15 عام.
وتلعب الكاميرا فى تجسيد تلك الصور رغم مراسم الموت التى تنتظرهم ليتحولوا لمجرد أرقام فى عداد الموتى!
شخصيات ذات مصداقية
على بعد أميال قليلة من الشاطئ من صقلية، اعترضت مروحية تابعة لخفر السواحل الإيطالي القارب على الرغم من ابتهاج سيدو وركاب القارب، إلا أنهم يواجهون الآن مستقبلًا غامضًا في أيدي السلطات الإيطالية.
وهم يتعلقون بتلك المروحية، تلك العيون الممتلئة أحيانا بالدموع وأخرى محتقنة ومنتفخة من الخوف وعدم النوم، وأحيانا أخرى يملؤها الأمل فى الوصول أحياء، رغم أيام الجحيم وطقوس الموت التى عاشوها.
يتذكر (سيدو سار)، وهو يعيش حياة طبيعية عندما كان مراهقا سنغاليا بين المدرسة وكرة القدم فى (تييس) على بعد 70 كيلو متر من (داكار)، ويعيش اليوم فى إيطاليا بعد أن حضر حفل توزيع جوائز الأوسكار فى 10 مارس الماضى ماهذا الجنون؟!
وهو يتساءل: لماذا يستطيع الشباب الأوروبى أن يذهب فى إجازة إلى السنغال بطائرة، فى حين يضطر الأفارقة للقيام برحلة غير إنسانية دون أن يعرفوا ما إذا كانو سيصلون أحياء أم لا؟!
شخصيات ذات مصداقية تتحدث الولوفية أو الفرنسية أو الإنجليزية أو الايطالية أو العربية، ويلعب شخصيات الفيلم أغلبية الممثلين غير المحترفين بدءا من (سيدو سار) الرائع.
وقد كانت (نظرات عينيه) التى ركز عليها المخرج أحد الأسباب الحاسمة فى التقييم العالى الذى حصل عليه الفيلم، إذ تم اختيار الفيلم لتمثيل إيطاليا فى حفل توزيع جوائز الأوسكار وسط أزمة المهاجرين الجديدة فى (لامبيدوزا).
جماعات الجريمة المنظمة
حيث تواجه إيطاليا وصول أعداد كبيرة من المهاجرين إلى جزيرة (لامبيدوزا)، وقد انتشرت جماعات الجريمة المنظمة فى (نابولي) ومافيا (كامورا) فى جنوب إيطاليا ليتحول هؤلاء الضحايا إلى مجرد عملات صرف وآلات بيع!
يقول المخرج عند تأليف هذه القصة: كنت أفكر بمغامرة كبرى تعيدنا إلى مغامرات (كونراد ولستيفنسون) إلى (جاك لندن) أو (هوميروس)، فهناك أشخاص لديهم أحلام مثلنا!
وهو الفيلم الحادى عشر للمخرج (ماتيو جاروني) بعد شهرته العالمية بفيلمى (عمورة – عام 2008، وبينوكيو – عام 2019، نجح فيه المخرج أن يهرب بقصته بقوة السرد من الوثائقية، وأن يغوص بكاميرته كأنه مشرط جراح فى الظروف الانسانية.
حيث الفقر والمرض وقتل الطموح بشكل ملحمى وسط جثث طافية وقوارب غارقة فى عرض البحر، محاولا رسم صورة حقيقية مختلفة بدلا ما تنشره وسائل الاعلام العالمية، بعيدا عن التصنع أو الافتعال أو حتى الخيال.
وهو فيلم لايريد المخرج (ماتيو جاروني) أن يغيرالواقع الأليم به للهجرة غير الشرعية، إنما هو محاولة لتسليط الضوء على نظم غيرعادلة لدول تتغنى كذبا بحقوق الإنسان، حيث ابتلعت مياه البحر الأبيض المتوسط العام الماضى 3041 شخصا من الباحثين عن حياة أفضل عبر الشمال!
بقى أن أقول أن مهرجان الجونة السينمائى فى دورته الثانية تم عرض فيلم (دوجمان)، من إخراج (ماتيو جاروني)، حيث حصل بطله (مارشيللو فونتى) مربى الكلاب على جائزة أفضل ممثل فى مهرجان (كان السينمائي)، وحصل (كلبه) نعم (كلبه) على جائزة سعفة (الكلب) غير الرسمية.
أتمنى أن يكون فيلم (كابتيانو) على مائدة أحد مهرجاناتنا السينمائية الكبيرة في دوراتها القادمة!