بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان
كانت عودتي من مستشفى مزرعة سجن طرة إلى السجن مرة أخرى عودة حزينة.. مشحونة بخوف هائل من القادم.. خصوصا بعد أن التقيت هناك مع الصحفى المعتقل (مصطفى أمين) ومع (شمس الدين بدران) الذي كان يشغل منصبا كبيرا في وزارة الدفاع قبل النكسة.
تداعت في ذاكرتي ما أحاط بـ (مصطفى أمين) من أخبار عن سجنه بسبب تورطه عام 1965 في تهمة التخابر مع أحد مندوبى المخابرات الأمريكية ويدعى (بروس تايلور).
وقد تم القبض عليه أثناء اجتماعهما في بيت (مصطفى أمين) بعد أسابيع من مراقبة التحركات المريبة لبروس تايلور ولقاءاته الأسبوعية مع (مصطفى أمين) في منزله في منطقة الزمالك.
وقد أثارت ريبتهم ماكان يتخذه بروس من إجراءات تمويه عند هذه الزيارات، فقد كان يركن سيارته في شارع بعيد عن عمارة (مصطفى أمين) وحين يدخل العمارة يضغط في الأسانسير على أدوار عدة غير الدور الخاص بشقة (مصطفى أمين).
تم زرع أجهزة تنصت في المنزل لتنقل لهم تفاصيل اجتماعاتهم والمبالغ يتداولون فيها ما تم اعتباره تسريبا لأسرار الدولة.
انقسمت الآراء حينها بين صحة التهمة بالتخابر وبين أنها مكيدة من الصحفى (محمد حسنين هيكل) لصراعه مع (مصطفى أمين) على رئاسة تحرير أخبار اليوم مع القرب اللصيق لهيكل بعبد الناصر في هذا التوقيت.
سألني (مصطفى أمين) عن القصيدة التي حبست بسببها من ديوانى (الدنيا هى المشنقة) وطالبنى بقراءتها.. بدأت في القاء القصيدة وأنا ألاحظ الإنصات الغاضب لشمس بدران، بمجرد أن انتهيت من القائها علق (شمس بدران) زاعقا: شوف يا عثمان!
صحح له (مصطفي أمين) الاسم: اسمه الشاعر (إبراهيم رضوان)!
أكمل (شمس بدران) كلامه متجاهلا الملحوظة قائلا: والله والله.. أنا لو كنت من (شعراوي جمعة) لكنت حكمت عليك بالإعدام شنقا.. و في ميدان عام كمان .
ألقى غضب (شمس بدران) إلى صدرى مزيدا من التوجس بشأن القادم لى !
سلمت على (مصطفي أمين)
قبل عودتى مرة أخرى إلى سجن طرة سلمت على (مصطفي أمين) الذي أعطاني كميه هائلة من المجلات والصحف والمعلبات.. كنت قد سمعت بفترات التعذيب الهائل التي عاناها (مصطفى أمين، لكن يبدو انه الان يعيش معهم فترة شهر عسل.
أثناء عودتي في سيارة الترحيلات إلى معتقل طرة السياسي كان صدى جملة (شمس بدران) الغاضبة يتردد في رأسي، خاصة وأنه قبل انصرافي قد استدار ناحيتى في شماتة – على ما أظن:
لن تخرج من المعتقل قبل إزالة آثار العدوان، وماحدش عارف ده هيكون بعد كم سنة.. اتنين.. عشرة، يعني من الآخر كده ما تعشمشي نفسك بخروج قريب !
في هذا اليوم، و بعد وصولي للمعتقل حال بينى وبين المستقبل ألف ستارة سوداء تتقافز عليها كل أشباح الرعب واليأس، و أنا جالس مسندا ظهرى إلى الحائط عاقدا ذراعى حول ركبتاى أحسست دموعا تتساقط على ظهر كفي.
فجأة أطحت برأسى إلى ركبتى واستسلمت لنوبة طويلة من البكاء.. بكيت كما لم أبك في حياتي!
حاولت أن أهرب من أحزاني.. أخذت بيجامة السجن الاحتياطي وذهبت إلى الأحواض الأسمنتية القميئة.. عطنة الرائحة – والتي تسمى مجازا بالمغسلة – لأغسل بعض ثيابي.. بجدرانها تتعلق بقايا الغسيل.. وعلى جوانبها مهروس قطع الصابون الصلب (أبو الهول).
كنت اقف شاخصا ببصرى أتابع سيل ماء خفيف يتسرب الى الأرض ويختلط بالتراب فأتذكر سنوات عمرى وحياتى.. المغسلة كبيرة جدا، وبها عشرات الأحواض التي من الممكن أن تتسع للمئات لأن عدد المعتقلين بالآلاف.
أخذت ملابسى المبلولة تقطر الماء على ملابسى الجافة لنشرها خارج المغسلة في شمس العصر الملتهبة.
اليوم هو يوم النبطشية بالنسبه للعنبر الذي أقيم فيه – عنبر النشاط المعادي – والنبطشية هنا تعنى دورنا في خدمة بقية العنابر من توزيع الطعام و التنظيف.
ذهبت إلى المطبخ الكبير.. غرفت الخبيزة برائحتها الثقيلة في وعاء بلاستيكى ضخم يشبه الجردل المستطيل لكي أوزعها على المعتقلين في العنبر الذي أسكن به.. وهو عنبر معظمه من أهل غزه.. وبعض الشخصيات التافهة الأقرب إلى الحشرات الآدمية في سلوكياتها.
أفكر في جملة (شمس بدران)
بينما أسير مترنحا بوعاء الخبيزة أفكر في جملة (شمس بدران)، وأخمن متى يمكن إزالة آثار العدوان الإسرائيلى.
حلقت فوق رأسى فجاة طائرة إسرائيلية ترج الفضاء وجدران السجن بأزيزها.. أصابتني حالة ذعر شديده فجريت بالخبيزة الساخنة التي صارت تهتز في يدي وتطرطش على ملابسي مساحات داكنة الحمرة وعلى وجهى وصدرى حروقا متناثرة.
تساءلت في مرارة : كيف سيزيلون آثار العدوان والطائرات الإسرائيلية تمرح فوق رؤوسنا وتجعلنا على الأرض نطرطش الخبيزة المغلية على أنفسنا.. وعنابر اليهود تخرج كلها لتحيتهم بالصوت العالى؟!
قال لي أحد المعتقلين: لماذا هذا الرعب؟.. الطائرات الإسرائيلية من الممكن أن تدمر أي مكان إلا معتقل طره السياسي.
لماذا؟
لأن به أكثر من عنبر لليهود.. بل وإنهم يحلقون هنا عمدا في رسالة طمأنة لهم .
كان واضحا لى أن سماء مصر مفتوحه تماما لتعربد فيها الطائرات الإسرائيلية كيفما شاءت.. فقد حطموا في غضون ساعات قليلة كل الطائرات وهى متراصة على الأرض على ممرات المطارات المختلفة !
في اليوم التالى خرجت إلى فناء المعتقل.. انضممت إلى فريق كرة القدم لفريق النشاط المعادي.. الذي يلعب ضد فريق الإخوان المسلمين مباراة في كرة القدم للتسلية.
كل العنابر تحيط الفناء للمشاهدة والتشجيع.. لاحظت أن الإخوان المسلمين يلعبون بعنف شديد جدا.. كنت أشعرهم في معركة انتقام مستمر لا تنقطع مع الجميع.. حتى أثناء اللعب.
خشيت الإصابة فانسحبت من المباراة وجلست في مكان بعيد ألعب مع القطط السيامي الذي أصبح عددها أكثر من عددنا.. ومع ذلك كانت الإدارة برئاسة اللواء (عبد العال سلومي) يمنعون أي معتقل من أخذ قطة ليعطيها لأحد زائريه.
لاحظت فجأة حركه عند باب الدخول الى المعتقل من الخارج.. اقتربت من المكان فرأيته.. شابا وسيما جدا يملي بياناته للمكلف باستلام المعتقلين الجدد.. كان واضحا الاهتمام به بشكل أثار ريبتي.
انتهي المعتقل الجديد من بيانات الاستمارة الخاصة به.. واتجه مع ضابط صغير السن لزنزانة انفراديه ليظل بها حتي الصباح، اتجهت لهما وسلمت عليه، وسألته عن اسمه ليرد: حلمى.. إسمى حلمي.
و..
ما فضيلش غير دمعة..
فى عنيّه بترقرق
جوه صلاة جمعة..
القطة.. بتبرق
………………….
جوابات كتير جايّة..
جوابات كتير رايحة
جوه الهدوم حيّة..
شاورتلى بالسبحة
………………….
(كانتين) بيندهنى ..
بس الجراب فاضى
السجن شوهنى..
والحبسة.. والقاضى
………………….
يا أمى سامحينى..
على إنى بهدلتك
الدمعة فى عيونى ..
يا تُقلها شيلتك
………………….
يا عنبر التايهين..
فى دوامات الخوف
لو حتى كنت سجين..
من جوه برضه هاشوف
………………….
آه يا دموع الروح..
إسقى الأراضى البور
كلب العرب مدبوح..
بعد الشهاده الزور
………………….
على كتفى بالطو الليل..
رايح عليكوا وجاي
الهم لسه تقيل ..
وتقيل علىّ الشاى
………………….
إفرجها.. يا فراج..
واسرجها للقلقان
إبعت بقى الإفراج..
تعبان من القضبان
………………….
بينكم هاضيع وأتوه..
يا ألف لون مع لون
الطفل عايز أبوه..
الله يكون فى العون
………………….
مهما أكون بأعرج ..
مهما الزمن هايجيب
لازم فى يوم أخرج..
أقلِق فى نوم الديب
………………….
دارى الورق فى حشاك..
دا العسكرى باصص
يا شِعر.. خُدني معاك..
كون بالفقير حاسس
………………….
فى المعتقل خيال..
حافض معانيكى
لو يوم يميل الحال..
أحرس معاليكي
………………….
يا توهتي فى الزنازين..
يا حيرتي فى الألوان
مالهوش بطاقه ياسين..
ولا لون.. عشان إنسان
………………….
قومى افرحى بىّ..
ساعة زيارتهم
فيه دمعة فى عنيّة..
حاضنه سعادتهم
………………….
يا قفل فوق الباب ..
أنا هاكسرك تانى
ليه يحكموا الأغراب..
ويدوسوا ألحاني
………………….
من كتاب (مدد.. مدد)
سيره ذاتيه لبلد