كتب: أحمد السماحي
من المسئول عن التدهور الذي تعاني منه (الإذاعة المصرية) الرسمية الآن؟! هذا السؤال دار في ذهني بحكم حبي للإذاعة، ومتابعتي لها بصفة منتظمة، خاصة في شهر رمضان.
ولقد حزنت أشد الحزن على ما وصلت إليه من خراب! فالمتابع اليومي لـ (الإذاعة المصرية) الرسمية، يجد برامج هزيلة، ومذيعات ومذيعين (يستخفون دمهم)!.
وكل واحدة من هؤلاء المذيعات فاكرة نفسها إيناس جوهر، أو سناء منصور، وكل مذيع يعتقد أنه عمر بطيشة، أو فهمي عمر!.
وفي المقابل وحتى لا نتهم بالظلم، يوجد مذيعين ومذيعات على درجة كبيرة من الحرفية، والحب لـ (الإذاعة المصرية)، لهذا يجتهدون في تقديم أفكار جديدة ومختلفة، ويسعون للإستضافة شخصيات مهمة وكبيرة، سأتوقف عندهم قريبا.
إفلاس (الإذاعة المصرية) دراميا
بعيدا عن مسألة استخفاف بعض المذيعين والمذيعات خاصة في برامج الهواء، استوقفني شيئ مهم وخطير للغاية، وهو عدم إنتاج (الإذاعة المصرية) الرسمية لمسلسلات إذاعية جديدة، خاصة لشهر رمضان.
حيث تكتفي (الإذاعة المصرية) في شهر رمضان، منذ سنوات بإعادة المسلسلات القديمة على محطاتها المختلفة، وعندما تسأل عن السبب يقولون لك جملة عبيطة لا تغني ولا تسمن من جوع : مافيش ميزانية؟!
والسؤال لمن بيدهم الأمر مافيش ميزانية لمسلسلات (الإذاعة المصرية) الرسمية التى لا تتعدى ميزانية كل مسلسلاتها في شهر رمضان على كل المحطات مليون جنيه، لكن فيه ميزانية بالمليارات لمسلسلات التليفزيون؟!.
وسؤال آخر هل يعقل أننا منذ سنوات لم نعد نسمع في شهر رمضان مسلسلات إذاعية جديدة؟!، ونشاهد مسلسلات تليفزيونية مليئة بالتفاهة والسذاجة، تم إنفاق ملايين الجنيهات عليها!.
90 عاما من الدراما الإذاعية
الإذاعة يا مسئولين، ــ التى نحتفل في شهر مايو القادم بعيد ميلادها الـ 90 ــ هى أساس الدراما، حيث دخلت الدراما، الإذاعة منذ بدايتها، على يد (محمد عزيز رفعت) وكان لغويا ومترجما رفيع المستوى.
وعهد إليه بإدارة قسم الأحاديث والمسرحيات، لأنه لم يكن هناك بعد مصطلح مسلسل، أو تمثيلية، فتولى (محمد عزيز رفعت) إخراج بعض المسرحيات بأصوات مذيعين الإذاعة.
ولحسن الحظ كانوا على دراية طيبة بالدراما والتمثيل، وكون منهم فرقة أطلق عليها (هواة التمثيل بالإذاعة) وكانت أول هذه المسرحيات، مسرحية (يوليوس قيصر) لشكسبير، ترجمة محمد حمدي.
وتجاوب الجمهور مع هذا النهج الإذاعي الجديد ــ كما يقول الرائد الإذاعي محمد فتحي ــ وهذا التجاوب والنجاح، شجع محمد عزيز رفعت.
ومعه المذيع (أحمد كمال سرور) وكان فرنسي الثقافة، درس في فرنسا فنون الدراما، وعمل ممثلا بالأكاديمي فرنسيز لتقديم روائع عالمية أخرى لعدد كبير من الكتاب.
من هؤلاء الكتاب (شكسبير، برنارد شو، موليير، انطوان تشيكوف، جوجول، هنري إبسن، أوسكار وايلد) وعشرات غيرهم.
واستعانت فرقة (هواة الإذاعة) بأعضاء نادي خريجي قسم الأدب الإنجليزي من جامعة القاهرة، في الترجمة والتمثيل أيضا، من هؤلاء (أمينة السعيد، مصطفى طه حبيب، سلامة حماد، ورشاد رشدي، وحسن المنفلوطي، وإبراهيم خليفة، وتماضر توفيق).
التمثيلية في (الإذاعة المصرية)
نجحت التجربة الدرامية الإذاعية جدا، وهذا شجع عدد كبير جدا من الكتاب والشعراء إلى تأليف أعمال لـ (الإذاعة المصرية)، كان من هؤلاء أمير الشعراء أحمد شوقي، بسلسلة درامياته الشعرية المجيدة.
منها (مجنون ليلى، مصرع كليوباترا، قمبيز، الست هدى) وغيرها، ثم ظهر الكاتب والمفكر توفيق الحكيم، من خلال أعمال كثيرة ومهمة منها (أهل الكهف، عودة الروح، زهرة العمر) وغيرها.
وتوالى على الإذاعة الكتاب والمؤلفين والنجوم، وهذا النجاح جعل المسئولين في الإذاعة يبتكروا نوعا أخر للدراما، وهو التمثيلية، وكان اللفظ الشائع لها من قبل هو (المسرحية)، ونُحت لفظ المسمع بدل المشهد.
وقدمت في هذه الفترة تمثيليات تعالج المشاكل اليومية للأسرة في البيت والشارع، وفي مختلف مناحي المجتمع، واستهوت (التمثيلية) بلهجتها العامية، وصدقها وفكاهتها جمهور المستمعين.
وأصبحت دراما المعيشة اليومية هى أنسب غذاء يتغذى به الراديو من حيث صلته بالناس، وبحكم أن الراديو كان أنيس الأسرة ونديمها وجالب البهجة والسرور لها، لهذا قدمت تمثيليات رائعة.
ومع حب ونجاح هذه التمثيليات بدأت الإذاعة المصرية تذيع مسرحيات مذاعة من داخل المسارح، بحيويتها وجمالها، وجوها الممتع.
فضلا عن أداء نجومها الكبار مثل (يوسف وهبي، علي الكسار، زكي طليمات، فاطمة رشدي، جورج أبيض) وغيرهم من أصحاب الفرق المسرحية، والمسئولين عن الحركة المسرحية.
كلمة مفتي الديار المصرية
نجاح الأعمال الدرامية في (الإذاعة المصرية) جعل مفتى الديار المصرية الشيخ (عبدالمجيد سليم) الذي كان يتميز بسعة الأفق، وجلال الخلق، وعظمة النفس، وقوة النزوع إلى المثل العليا.
يقول لرئيس (الإذاعة المصرية) سعيد باشا لطفي: (بربك يا سعيد باشا أكثر لنا من مسرحيات نجيب الريحاني، وعلي الكسار فهي هزليات، تُروح عن النفس، وتشرح الصدر، ذات مضمون.
فليس في مقدوري بجبتي وعمامتي ومقامي الديني أن أذهب إلى مسرح في شارع عماد الدين، ويارت تكثر أيضا من تمثيليات يوسف وهبي وأمينة رزق).
فضل الإذاعة على التليفزيون.
الحديث عن تاريخ الدراما الإذاعية ونجومها ومخرجيها يطول ويطول، ويحتاج إلى مجلدات للكتابة عنه، لكن الشيئ الأكيد أن الدراما الإذاعية ألهبت خيالنا جميعا.
ولعبت أعمالها الدرامية دورا كبيرا في صناعة الوعي القومي عند المصريين، وكانت سببا في شهرة عدد كبير جدا من الكتاب والنجوم.
ويكفي أن معظم بدايات التليفزيون الدرامية، كانت مأخوذة من أعمال درامية إذاعية مثل (العسل المر)، بطولة كريمة مختار، وكمال الشناوي، وجسد الأدوار في التليفزيون (شمس البارودي، وسمير صبري).
و(هارب من الأيام) جسدها في الإذاعة (فريد شوقي)، وفي التليفزيون (عبدالله غيث)، و(القط الأسود) قدمه في الإذاعة (حسين رياض، محمد السبع، نعيمة وصفي، حمدي غيث، وداد حمدي.
أما في التليفزيون فلعب الأدوار (عمر الحريري، مديحة سالم، توفيق الدقن، إحسان القلعاوي).
وتوالت الأعمال الدرامية التليفزيونية المأخوذة من أعمال درامية منها (شيئ من العذاب، أنف وثلاث عيون، الحب الضائع، دندش، برديس، على باب الوزير، ليلة القبض على فاطمة، البراري والحامول.
وكل هذا الحب، لست شيطانا ولا ملاكا، الصبر في الملاحات، سامحوني ماكنش قصدي) وغيرها الكثير والكثير.
كلمة أخيرة
لا أدري لمن أوجه كلمتي هذه، خاصة أن رئيس الإذاعة ليس له يد في عدم إنتاج مسلسلات إذاعية جديدة، والأمر كله الآن في يد القائمين على الإنتاج الدرامي التلفزيوني في مصر.
الإذاعات في العالم كله ياسادة شهدت تطور ملحوظا خلال السنوات القليلة الماضية بفضل التطور التكنولوجي الذي ألحقها بمواقع التواصل على الإنترنت، حتى صار صوتها مسموعا في كل الدنيا عبر محطات الراديو التي انتشرت مؤخرا.
لكن يبدو أن المسئولين في الشركة المحتكرة للإنتاج الدرامي تصم الأذان عن (الإذاعة المصرية) بعد غرست أصابعها في (ماسبيرو)، فأسكتت حسها حتى لا ينسب لها الفضل في تحفيز الإنتاج الدرامي، بعد ما صالت وجالت في دروب الدراما والمسرح والغناء لسنوات طويلة، ولهؤلاء أقول لهم : إرحموا عزيز قوم ذل!