كتب: محمد حبوشة
لاقى مسلسل (ولاد بديعة) تفاعلا واسعا من قبل المتابعين على منصات التواصل الاجتماعي، وسط إشادة بقصته وقدرة الأبطال على نقل الأحداث بحرفية عالية، إضافة إلى دور المخرجة (رشا شربتجي) بنقل الحدث بصورة جميلة وجذابة.
مسلسل (ولاد بديعة) دراما سوداء غارقة في العنف، لكنه يحمل حبكة ذكية يقوم عليها
المسلسل لمؤلفيه (علي وجيه ويامن الحجلي).
إذ إنهما لم يضعا المشاهدين مباشرة أمام الصراعات وأسبابها، وإنما جعلا النقلات بين الزمنين الماضي والحاضر تتكفل بالكشف عن الشخصيات وتكوينها النفسي والاجتماعي، وإظهار انعكاساتها على سلوكياتهم ومحبتهم وكرههم لبعضهم.
(ولاد بديعة) الذي أثار جدلا منذ نشر البرومو الخاص به أثبت أن الكثافة الدرامية للأحداث وتشابكاتها، وللشخصيات ونوازعها ودوافعها لتحقيق أهدافها، قادرة على بناء دراما شعبية ذات طابع ملحمي جميل، ترتكز على تشبيك الجمهور بكل تفاصيله، وانتظارهم الدائم لما ستؤول إليه الأحداث.
حكاية (ولاد بديعة) تبدو في ظاهرها بسيطة عن ثلاثة إخوة من أم واحدة (سكر/ سلافة معمار)، والتوأم (ياسين وشاهين/ يامن حجلي وسامر إسماعيل)، في صراعهم على الميراث مع أخيهم الرابع (مختار/ محمود نصر) من والدهم (عارف الدباغ/ فادي صبيح).
لكن قصة (ولاد بديعة) تتكشف شيئا فشيئا عن جدليات الفضيلة والرذيلة، العدالة والظلم، الوضوح والإضمار، مخبئة في خباياها نوايا الانتقام المتأججة باستمرار، ضمن إطار أحداث تتسم بالسخونة والإثارة.
(مختار) الخارج للتو من مصحة للأمراض العقلية، والساعي لاستعادة حصته من ميراث والده بغية عملية جراحية يحتاجها للعلاج من (الباركنسون) وتكلف 300 ألف دولار.
يبدأ بقلب الطاولة على أخويه العاملين في دباغة الجلود، إذ يتحالف مع ألد أعدائهما (أبو هديل/ حسين عباس) ضدهما، ويسعى لتخريب استقرار عملهما عبر ممارسات تعتمد على التآمر والدسائس المقيتة.
تشويه سمعة الملهى الليلي
في المقابل، يعمل على تشويه سمعة الملهى الليلي الذي تديره أخته (سكر) عن طريق دفع جارها المتدين (فراس إبراهيم) لرفع دعاوى إزعاج جوار، وإرسال المالية والتموين وغيرهما للتضييق عليها ومحاولة إغلاق محلها.
هذه المناوشات تتخللها محاولات للوصول إلى (أبو الوفاء الشامي/ تيسير إدريس) صديق والدهم، وهو الشاهد الوحيد على مقتل (بديعة/ إمارات رزق)، لكنه يعاني من زهايمر، وسبق لياسين وشاهين أن أخرجاه من المستشفى وإخفاءه في منزل أحدهما حتى لا يصل إليه (مختار).
ومن تابع الحلقات الأولى يلمس تبنيا حقيقيا من الممثلين لشخصياتهم، وخصوصية كل منها، إذ إن كلا منهم كان مفاجأة حقيقية، خاصة (أولاد بديعة) الذين تربوا في الشارع وباتوا يأخذون حقهم بيدهم كما يُقال، وأيضا (بديعة) التي كانت متشردة ولا تلفظ سوى كلمتي (الله كريم) إلى حين أقنعها (عارف) بأنها باتت عروسته، فأنجبت منه صبيان.
على الرغم من أن المسلسل يميل للسوداوية والعنف المكبوت، فإنه لا يترك لك مجالا للملل، فهو محبوك بعناية على صعيد النص، ثم أتى اشتغال المخرجة (رشا شربتجي) لتضيف نكهتها الخاصة إليه.
سواء في اختياراتها للممثلين أو مواقع التصوير أو لحركة الكاميرا المتزنة عند الحاجة، والتي تقتنص قلق الشخصيات عند الضرورة، مع موازنة لونية جمالية بين الماضي والحاضر، وتأن ملحوظ في اختيار زوايا التصوير.
ويمكن القول إن الحكاية الشعبية في (ولاد بديعة) جاذبة بكل تفاصيلها، والتشويق المديد يجعل الجمهور مرتبطا بها، وراغبا في معرفة متى ستكتشف (سكر) أن زوجها (غزوان الصفدي) لا يريد أولادا منها ويأخذ موانع حمل رجالية، وإن سرقته لأموالها ليست بسبب مرض والدته (أمانة والي) بالسرطان، وإنما ليؤسس مشروعه الخاص.
في المقابل، من أين تعرف المحامية (روزينا لاذقاني) مختار، وهل ثمة علاقة حب سابقة بينهما، وكيف سيتم الكشف عن جريمة قتل (بديعة) التي قالت في الحلم الذي أتى لابنتها (سكر) إنها احترقت بنيران المدبغة.
تشابك الأحداث، وكثير من التشويق
كل هذا وغيره ستكشف عنه الحلقات القادمة، التي نعتقد أنها ستعد بالمزيد من تشابك الأحداث، والكثير من التشويق، وفي تطورات جديدة ومثيرة خلال أحداث الحلقات الأولى من المسلسل، يلتقي الأخوة في صراع مباشر بالأيدي.
وذلك بعد تهديد (مختار) لهم بالفيديو الذي تم التقاطه خلال حرقهم لـ ورشة (أبو هديل)، ليقوم بعدها (شاهين) الذي يؤدي شخصيته (سامر إسماعيل) بملاحقة (مختار/ محمود نصر) ويلتقيان في كراج البناية، وهنا يحدث الصدام.
المشهد عكس إبداع كبير من (سامرإسماعيل، ومحمود نصر)، فبعد قتال عنيف بينهم.. استطاع (سامر إسماعيل) أن ينتصر على (محمود نصر)، ويأخذ الهاتف من يده ليحصل على الفيديو الملتقط، إلا أن المشهد أصبح حديث المتابعين بسبب الأداء الملفت من كلا النجمين.
إقرأ أيضا : محمد حبوشة يكتب: (محمود نصر) .. قدرة وتحمل فائقة في سباق الدراما
محمود نصر في (ولاد بديعة) يقدم دورا لم يعتد عليه المشاهدون من قبل، فقد كان دائما يغرد خارج السرب، إذ إنه يجسد شخصية تعاني من أمراض نفسية واضطرابات وذلك نتيجة اتفاق جميع أشقائه عليه وسلب حقوقه من ميراث والده، ليقرر اللجوء إلى الطبيب النفسي لتلقي العلاج.
ولكن المفاجأة كانت في نهاية القتال، حيث عاد (سامر إسماعيل) لمساعدة أخيه خوفا من أن يكون أصابه شيء، وهنا يبدأ العتاب بين الأخوة، ونكتشف أن (محمود نصر) هو من قام بـ قتل والدتهم بديعة وأحرقها، وبعد نقاش بين الأخوة لم يصلوا إلى حل، وسوف يستمر الصراع بينهم.
(نادين خوري) التي تلعب شخصية أم جمعة في (ولاد بديعة) لفتت أنظار المتابعين وأصبحت حديثهم على السوشيال ميديا بسبب الدور الذي تقوم فيه وقيادتها لـ الطرطيرة، حيث تكون أم فقيرة ولديها ولدين وكشك صغير تعتاش منه، كما أنها تعمل سائقة وتنقل بضائع الجلد بين إلى المدابغ.
في صراع بين الأخوة على المال والنفوذ والسلطة والنسب، يلتقي الجمهور العربي كل ليلة في مسلسل (ولاد بديعة)، الذي تدور محاور قصته المسلسل حول ملحمة عائلية لأربعة أخوة قادمين من عالم صناعة الجلود والمدابغ.
وفيما تتقاطع الأحداث بين الماضي والحاضر، ترسم التطورات الغامضة طبيعة العلاقات المتباينة بين الأخوة، فتتراوح بين الصراع تارة والاتحاد في مواجهة الأخطار طورا، فيما تمثل قضية النسب بين الأخوة غير الأشقاء مفصلا رئيسيا يربط الأحداث ببعضها البعض.
الصراع العائلي في (ولاد بديعة)
الصراع العائلي بين أبناء عائلة (عارف الدباغ) و(سكر) ابنة (بديعة)، رغم وضوح الكثير من التفاصيل، إلا أن هناك بعض النقاط التي لا تزال خفية، وتحمل مجموعة من الأسرار غير المعروفة.
أبرز جوانب هذا الصراع الذي يجمع (مختار) بأخيه (شاهين)، وخلال مشاجرة جمعت الثنائي معا في إحدى مواقف السيارات، تذكر (مختار) واقعة جمعته مع شاهين في إحدى المشاجرات القديمة، ويبدو أنها كانت تحمل سر كبير جعل مختار يحمل الكراهية الشديدة لشاهين تحديدا.
فعندما تذكر المشهد كان يصرخ بشكل قوي، في وقت ظهر (شاهين) في مشهد قديم وهو يعتدي على (مختار)، وتسبب المشهد في الكثير من الأسئلة على السوشيال ميديا، خصوصا أن (مختار) بدأ في البكاء وانهار أمام أخيه الذي تعاطف معه في النهاية.
لكن الكراهية التي تسيطر على أفعال الثنائي تؤثر بشكل كامل على أن تصبح علاقتهما طبيعية، ومن المشاهد التي أثارت انتباه الجمهور في مسلسل (ولاد بديعة)، هو صراع الإخوة الثلاثة (سكر وشاهين وياسين)، وتحديدا بعدما تمرد عليها الثنائي الأخير.
وخلال مناقشة حامية جمعت الثلاثي وجه فيها (شاهين) اتهامات لاخته (سكر)، بسبب طبيعة عملها في النادي الليلي، وأن هذا لا يشرفه، لترد عليه بأنه نباش القبور، وهي الكلمة التي شدت انتباه الجمهور حول التهمة التي قد تلاحق (شاهين).
وكيف نجح في أن يرث هو وشقيقه (ياسين) ثروة (عارف الدباغ)، رغم عدم قيام الأخير بالاعتراف بهما بشكل شرعي، أو أن تزوج من والدتهما (بديعة)، حيث لم تكشف أي من الحلقات الأولى من المسلسل عن سر هذه الثروة التي سيطر عليها (ولاد بديعة)، وطرد (مختار) وعدم حصوله على أي جزء من ثروة والده.
(الشفقة، الرحمة، الأمل)، كلها صفات خارج إطار تصوير هذه الشخصيات الحاقدة غير المحبة، حتى الأب الذي يظهر لوهلة أنه صمام الأمان لم يكن، بل مات قبل أن يصحح خطأه.
من المؤسف بناء مسلسل (ولاد بديعة) على هذا المقت المستشري، حتى الحب عندما يأتي إلى حي الدباغين يموت قهرا أو خنقا عند بابها.
أيضا من الصعب أن نحمل عملا كل هذا الإجرام وهذه الضغينة، حتى المجرمين عندهم صفاء نية أحيانا وطيبة، لكن في (ولاد بديعة) الظلمة قاتمة والإبداع يقع في السواد وسيادة الإحباط.
ولن أذكر مشهد القطط المعلقة، ومشهد الأبطال المشنوقين، وكأن هذه اللقطة تمثل سيمفونية المجد، علما أنه كان يجب أن تمر بشكل خاطف، بينما شاء الإخراج أن يبثها عدة مرات وباستمرار وكأنها الحلقة التي تربط كل حلقات عمل.
(محمود نصر) خالف التوقعات
جدير بالذكر أن فريق عمل الممثلين أجاد في الأداء الاحترافي وعلى رأسهم (محمود نصر) القادم لتوه من تجربة رومانسية حالمة في مسلسل (كريستال) الطويل، لكني دائما على ذكاء هذا الممثل الذي يحمل موهبة قادرة على التلوين في أدواره.
ومن ثم فهو ممثل يملك القدرة على سبر أغوار الشخصية التي يجسدها، ليقدمها لنا من لحم ودم وبأسلوب السهل الممتنع كما يجب، بغض النظر عن موقفنا منها، ولعله نجح في إتقان شخصية (مختار) بتناقضاتها وأمراضه النفسية، وكأنه يعزف على آلة موسيقية بحساسية مرهفة، رغم العنف الذي يعتري تلك الشخصية.
ولكن (محمود نصر) دائما يخالف كل التوقعات بأداء عذب فبعد تجربته في البيئة الشامية (أكثر نضجا في ملسلسل (مربى العز) العام المضي، يقود كتيبة المبدعين في (ولاد بديعة)، على جناح أداء مغاير تماما حيث صال وجال من خلالها في طرائق الإبداع بأداء مختلف.
ولابد لي أن أشيد بأداء (سلافة معمار) الخارجة لتوها أيضا من مسلسل (الخائن) الذي لعبت فيه دور البطولة بطريقة الحرباء المتلونة بألوان الشر المطلق، ورغم أنها تبدو في بعض المشاهد رومانسية حالمة، إلا أن الانتقام غلبها في معظم حلقات المسلسل.
إقرأ أيضا : سلافة معمار .. نجمة الجرأة الإبداعية في الدراما السورية
سلافة معمار هنا في (ولاد بديعة) تبدو من نوع الممثلين الذين يمكن توصيل روح الدور على جناح جودة الأداء، من خلال تسجيد رائع لشخصيات من لحم دائم، كما جاء في أعمالها خاصة في الدراما التليفزيونية.
ومن ثم شكلت النجمة السورية علامة فارقة بالأدوار التي جسدتها في جميع الأعمال الشامية التي شاركت بها على رغم قلتها بسبب انتقائيتها (المدروسة جدا)، وقد تلونت بلعب (المختلف) غير النمطي، في مثل هذا النوع من الأعمال (التقليدية).
فهى لم تركن إلى الأداء الخارجي السائد فيها، بل غاصت عميقا في استخدام جميع أدوات الممثل المبدع من الباطن إلى الظاهر، على غرار ما فعلت في شخصية (سكر) بسحنتها الشمعية التي عادة ما تفقد وجه الممثل التعبير الصادق في الأداء.
سامر إسماعيل برع في دور (شاهين)
صحيح أن الممثلين (سامر إسماعيل، يامن حجلي، إمارات رزق، نادين خوري) وغيرهم أدوا أدوارهم بأفضل ما يمكن، لكن الورق المكتوب بقلم (علي وجيه ويامن حجلي)، والإخراج لرشا شربتجي مبني على العنف من ألفه إلى يائه مضجر ومنفر.
وربما جاء أداء (سامر إسماعيل) ساحر على مستوى لغة الجسد المعبرة وتكنيك الأداء الاحترفي الحر كعادته كنجم متألق في لوحة الدراما السورية خلال السنوات القليلة الماضية، لكنه في (ولاد بديعة) جاء بأداء ساحر كصقر محلق في الآفاق بحيث لفت الانتباه طوال الحلقات الأولى، ويواصل العزف على أوتار الشخصية بأداء متفرد.
وربما هذا ما أضاع جمالية عمل يمكن أن يكون بقعة نور، وليس مسلسل تعذيب بغنى عنه وحولنا ما يكفي منه، كنا ننتظر أكثر من المسلخ والدباغة ورائحة النتانة والكباريه، شيء من تعمير الإنسانية لأنه حتى في أماكن الرخص نجد نفوسا ثمينة ويمكن البناء عليها.
ومع ذلك فإن النجاح الكبير الذي يحققه المسلسل السوري (ولاد بديعة) الذي مازال يعرض في الموسم الرمضاني الحالي، جعله يتفوق على عدد من الأعمال الأخرى، ويمتلك العمل الكثير من المقومات التي جعلته من أفضل الأعمال سواء من ناحية النجوم والإخراج والقصة.