بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
اتسم شهر (رمضان) في مصر بالجمع بين المتناقضات، فهو شهر العبادة والتكفير عن ذنوب عام بأكمله، تمتلئ فيه المساجد بالركع السجود والعاكفين والمستغفرين، وفي نفس الوقت ارتبط شهر (رمضان) في أذهان البعض بالتسلية والاحتفال.
وبدأ هذا الارتباط مع دخول الفاطميين إلى مصر، الذين جعلوا لجميع المناسبات الدينية احتفالات خاصة تشيع البهجة والسرور، فتتزين الشوارع والمحال بزينة خاصة.
حتى أن فانوس (رمضان) هو اختراع فاطمى أشاع النور في شوارع القاهرة المظلمة احتفالا بالشهر الكريم، وإلى جانب الاحتفالات كانت هناك أكلات معينة ترتبط بكل مناسبة دينية مثل الكنافة في (رمضان) والكحك في العيد.
ومنذ أن طبع الفاطميون بصماتهم على عادات المصريين وسلوكياتهم الاجتماعية ظل شهر الصوم يحمل نفس السمات، فبرغم أنه شهر الصيام والإحساس بالمحرومين، إلا أن المصريين ينفقون على المأكل فيه 100 مليار جنية – حسب تصريح لمساعد أول وزير التموين العام الماضى – بزيادة قدرها 40 مليار جنيه عن باقى شهور السنة.
ولا نعلم حجم الإنفاق في عامنا هذا بعد الزيادة الرهيبة في الأسعار وارتفاع سعر الدولار.
ومنذ عصر الفاطميين وحتى الآن كانت وسائل التسلية تحتشد من أجل شهر (رمضان)، ففي العصور القديمة كانت تقام ليالى إنشاد ومديح في قصور الأمراء، أو في سرادقات كان الأغنياء والأعيان يقيمونها ويسمحون للعامة بحضورها.
إلى أن ظهرت الإذاعة التي كانت تذيع أفضل أعمالها في شهر (رمضان)، وفي الخمسينات وضعت الإذاعة تقليدا انتقل إلى التليفزيون عند ظهوره واستمر لأكثر من نصف قرن وهو (فوازير رمضان) التي بدأت مع صوت المذيعة الشهيرة (آمال فهمى)، وأشعار (بيرم التونسى) ثم انتقلت إلى (صلاح جاهين) بعد وفاة التونسى.
واستقطبت الإذاعة نجوم ذلك الزمن في (رمضان)، فسمعنا مسلسلات يقوم ببطولتها (محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وعمر الشريف وفاتن حمامة وصباح وسعاد حسنى).
و لكن الإذاعة استنت تقليدا آخر و هو المسلسل الدينى (أحسن القصص)، والمسلسل الفانتازى (ألف ليلة وليلة).
وبعد ظهور التليفزيون، انتقلت الفوازير إليه، وبدأت بثلاثى أضواء المسرح، ثم تناوب على تقديمها العديد من النجوم، وظلت لعقود من أهم الفقرات التي يقدمها التليفزيون ويحشد لها كل الإمكانيات حتى باتت أحد معالم الشهر الكريم.
المسلسلات من مستلزمات (رمضان)
وكانت هناك اجتماعات تُعقد على أعلى المستويات لتحديد من سيقوم ببطولة الفوازير كل عام، وكان نجاح الفوازير يحسب للقيادات العليا في التليفزيون، وربما حددت مدى استمرارهم في مناصبهم .
وفي أحد الأعوام عندما فشل التليفزيون في تقديم الفوازير انطلقت أقلام الصحافة ساخرة تتساءل عن مدى صحة الصوم بدون فوازير!، وبرغم العدد الضخم من الفنانين الذين قدموا الفوازير إلا أن ثلاثة حفروا أسماءهم عليها، وهم (سمير غانم) بشخصية (فطوطة) و(نيللى وشريهان).
إلى جانب الفوازير ظلت المسلسلات من مستلزمات الشهر الفضيل، فهو صاحب أعلى نسبة مشاهدة طوال العام – ولا ينافسه إلا الأعياد – حتى أنه منذ سبعينات القرن الماضى وحتى انتشار القنوات الفضائية في نهاية القرن، كان هناك اقتتال بين المنتجين والفنانين على الفوز بعرض أعمالهم في رمضان.
فمدى نجومية الفنان تقاس بوجود عمل له في رمضان أم لا، وأذكر أن (خريطة رمضان) في التليفزيون المصرى في ذلك الوقت كانت تعامل معاملة الأسرار العسكرية فلا يتم الكشف عنها إلا في آخر لحظة.
وبعد مداولات لتحقيق توازنات صعبة المنال، ربما كان جزءا من تلك التوازنات الخوف من غضب الفنانين الكبار الذين يشاركون في تلك الأعمال بسبب عدم وضع أعمالهم في أوقات ذروة المشاهدة، أو على القناة الثانية التي لم تكن تحظى بمثل اهتمام القناة الأولى.
والحقيقة أن تلك الفترة تميزت بمسلسلات خالدة في الأذهان، فلقد ارتبطت ذكرياتنا عن رمضان بمسلسلات (الشهد و الدموع، ليالى الحلمية، دموع في عيون وقحة، رأفت الهجان) و تلك أمثلة فقط فمن الصعب حصر أعمال تلك السنوات.
كما ارتبط (رمضان) أيضا بأسماء بعينها أصبحت نجوما بسبب تقديم أعمالهم في رمضان مثل الكتاب (أسامة أنور عكاشة ومحفوظ عبد الرحمن ولينين الرملى ومصطفى محرم، ويسري الجندي، كرم النجار).
وفي التلحين (عمار الشريعى وياسر عبد الرحمن وعمر خيرت)، و في الإخراج (محمد فاضل وإسماعيل عبد الحافظ ويحيى العلمي)، وفي الأشعار (سيد حجاب وأحمد فؤاد نجم)، وعشرات غيرهم صاروا علامة جودة .
المسلسل الدينى والتاريخى
كما قدم الموسم الرمضانى لنا مئات المواهب الجديدة صارت نجوما بسبب لمعانهم في (رمضان)، كما حافظ التليفزيون على تقديم المسلسل الدينى في سلاسل طويلة مثل (محمد رسول الله).
ولكن تميز عنها مسلسلات خلطت بين الدينى والتاريخى كمسلسل (عمر ابن عبد العزيز وهارون الرشيد).
ومع انتشار القنوات الفضائية لاحظنا أنها في البداية قلدت التليفزيون المصرى في وجود نفس الخلطة (فوازير ومسلسل دينى وآخر اجتماعى)، ثم خرج الجميع من تلك العباءة، ولم يظل المسلسل المصرى هو السائد بل دخلت إلى حياة المصريين مسلسلات عربية – شامية وخليجية.
ومع ظهور المنصات تضاءل دور التليفزيون وصارت تقاليد المشاهدة غير موجودة، فالبعض يفضل مشاهدة المسلسلات بدون فواصل إعلانية – التي صار زمنها أطول من زمن الحلقة – كما يفضل البعض مشاهدة مجموعة من الحلقات دفعة واحدة.
وهناك من لا يشاهد أى مسلسل إلا بعد مشاهدة (التقييم أو الملخصات) التي تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعى.
فقد انتشرت كتابات وفيديوهات نقد المسلسلات على وسائل التواصل الاجتماعى فور إذاعة الحلقات الأولى.
وفي الحقيقة أنه ليس نقدا بالمعنى العلمى – لا حتى بأى معنى – فكيف تستطيع الحكم على عمل يمتد لأكثر من 22 ساعة وأنت لم تر منه سوى 40 دقيقة، ولا نستطيع أن نقول أن ما يتم مجرد انطباعات لمشاهدين فكيف تكوّن انطباعا بهذه السرعة؟
والحقيقة أن ما يتم على وسائل التواصل له أسباب متعددة، منها ماهو مدفوع الأجر ومنها ما هو مدفوع بمصالح معينة، وحتى إذا لم يكن هذا ولا ذاك فهو محاولة للفت الانتباه و تحقيق مشاهدات أكثر.
والملاحظة الغريبة أنه كلما كان التعليق على المسلسل يتصيد الأخطاء ويمتلئ بالتجاوزات والسخرية من صانعيه كلما انتشر أكثر.
والملاحظ على عصرنا الحالي أن (رمضان) لم يعد شهرا للعبادات ولا للتسلية البريئة أمام التليفزيونات وإنما صار شهرا للإعلانات !!
ولهذا حديث آخر..