بقلم: محمود حسونة
لم يُحرِج (مهرجان برلين السينمائي) الحكومة الألمانية فقط، ولكنه فضح قبحها وازدواجية معاييرها وانحيازها الفج إلى جانب المحتل الإسرائيلي وما يرتكبه من جرائم في غزة، استفزت الفنانين أصحاب الضمائر الذين شاركوا في المهرجان.
فقرروا التعبير عن رفضهم للحرب الظالمة التي يشنها الجيش الإسرائيلي على قطاع منذ أكثر من خمسة أشهر.
وذلك خلال فعاليات (مهرجان برلين السينمائي) وخصوصاً حفل ختامه الذي تحوّل إلى تظاهرة فنية تأييداً للحق الفلسطيني وشجباً وإدانة لجرائم الجيش الاسرائيلي وقادة إسرائيل تجاه أهل غزة بشكل خاص وتجاه الشعب الفلسطيني بشكل عام.
قالوا أن الفن ضمير الإنسانية ومرآة المجتمعات، وبالتالي فإن المهرجانات الدولية هى المرآة الحقيقية للمجتمع الدولي، ينبغي أن تكرم كل من اتخذ الفن وسيلة للتعبير عن الوجع الإنساني وأداة لكشف الظلم وإدانته.
وعندما طبق الفنانون ذلك على (مهرجان برلين السينمائي)، واتخذوه فرصة للتعبير عن رؤيتهم للحرب التي لم تبق ولم تذر على أرض غزة، انقلبت ألمانيا الرسمية ضدهم، وبدلاً من تكريمهم أحالت المهرجان وما حدث فيه إلى التحقيق.
بعد أن وجدت نفسها في وضع حرج أمام التزاماتها الدعم الكامل بالأسلحة العسكرية والأدوات الدبلوماسية والدعم المادي والمعنوي للإسرائيليين سواءً كانوا ظالمين أو مظلومين.
متناسية أنها واحدة من الدول التي ترفع شعارات حقوق الإنسان وحرية التعبير، وهى الشعارات التي أصبحت جوفاء، فلا مكان لحرية الإنسان الذي يرفض جرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في حق أهل غزة.
ولا مكان لحرية التعبير الرافضة الحرب الظالمة، وكل من يقف في وجه إرادة وعنصرية إسرائيل هو معادٍ للسامية ومحرض على الكراهية، بل ويمكن تلبيسه قضية إرهاب.
الانحياز الألماني الأعمى
وصل الانحياز الألماني الأعمى إلى حد اتهام عمدة برلين لمخرج إسرائيلي بمعاداة السامية، المخرج يدعى (يوفال إبراهام)، والذي شارك الفلسطيني (باسل عدرا) في إخراج فيلم (لا لأرض أخرى) الذي نال جائزة أفضل فيلم وثائقي، بعد توثيقه طرد المستوطنين الاسرائيليين للفلسطينيين من أراضيهم والاستيلاء عليها.
فيلم صفق له الفنانون المشاركون في المهرجان والقادمون من دول مختلفة حول العالم، ومخرج إسرائيلي قال كلمة حق عن مستوطني بلاده والدعم الذي يلقونه من حكومة اسرائيل للسطو على أراضي الفلسطينيين.
ولأنه فنان حقيقي وصف معاناة الفلسطينيين تحت نظام اسرائي بـ (الأبارتايد)، قائلا: (سأعود أنا وزميلي – عدرا – إلى أرض لسنا متساويين فيها، أنا أعيش تحت قانون مدني، وباسل تحت قانون عسكري..
أنا أملك حق الانتخاب، وهو لا، أنا حر في التنقل كما أريد، وهو كالملايين من الفلسطينيين، محتجز في الضفة الغربية المحتلة).. كلمات أفزعت الألمان الذين أرادوا أن يكونوا ملوكاً أكثر من الملك ويثبتون أنهم أكثر ولاءً لإسرائيل من المخرج الاسرائيلي.
ثم جاءت كلمات الفلسطيني (باسل عدرا) لتكون لهم كما الصفعة عندما دعا ألمانيا إلى احترام دعوات وقف اطلاق النار ووقف تصدير الأسلحة إلى إسرائيل.
بعد أن قال متألماً وهو يستلم الجائزة مع (يوفال): (من الصعب عليّ الاحتفال وعشرات الآلاف من شعبي يُذبحون ويُقتلون من طرف إسرائيل في غزة)، (يوفال) تلقى تهديدات بالقتل مما اضطره لعدم العودة إلى إسرائيل خوفاً على حياته.
لم يكن (يوفال وباسل) وحدهما من أزعجا حكومتي ألمانيا وإسرائيل في مهرجان برلين السينمائي)، ولكن كان موقف العديد من الفنانين المشاركين في المهرجان متضامناً مع غزة ورافضاً لحرب الابادة التي تشنها إسرائيل عليها.
وكان حفل الختام بمثابة تظاهرة فنية لدعم غزة، وخلاله أطل النجمان العالميان (بن راسل و جاي جوردان) وهما يرتديان الكوفية الفلسطينية لحظة تسلمهما جائزة أفضل فيلم عن فيلمهما Direct Action.
وقال (بن راسل) نقف مع الحياة وضد الإبادة الجماعية ولأجل وقف إطلاق النار، ورفع مشاركون في الحفل لافتة (وقف إطلاق النار الآن).
المخرجة الفرنسية السنغالية (ماتي ديوب) الفائزة بحائزة (الدب الذهبي) عن فيلمها الوثائقي السياسي (داهومي) هتفت حين تسلمت جائزتها: (أنا أقف مع فلسطين)، وكانت قد فازت في العام 2019 بالجائزة الكبرى لمهرجان (كان)، وهى الأهم بعد السعفة الذهبية، عن فيلم (أتلانتيك).
فنانون انقلبت عليهم ألمانيا
هؤلاء مجرد نماذج لفنانين انقلبت عليهم ألمانيا وكل جريمتهم أنهم نددوا بجرائم الاحتلال الصهيوني وعبروا عن حقهم في أن يقولوا لا لهذه الحرب الظالمة ولا للتهجير القسري للفلسطينيين ولا للإبادة الجماعية.
ألمانيا أرادت أن يكون (مهرجان برلين السينمائي) صورة مستنسخة من (مهرجان فرانكفورت) الدولي للكتاب الذي خيب الآمال بإعلان منظميه تضامنهم الكامل مع إسرائيل وإلغاء حفل تسليم جائزة الروائية الفلسطينية عدنية شبلي، لمجرد أنها فلسطينية الأصل.
وهو الفعل الذي أدانه مئات الكُتّاب الدوليين؛ وكان ما حدث في (معرض فرانكفورت) بجانب تضييق ألمانيا على أي أنشطة ثقافية تعاطفاً مع غزة، السبب وراء سحب المخرج الهندي الأميركي (سونيل سانزجيري) فيلمه الذي يتناول المقاومة ضد الاستعمار في حقبة الإمبراطورية البرتغالية من مهرجان برلين السينمائي.
وإعلانه مقاطعة المهرجان، متهماً السلطات الألمانية بإسكات الأصوات المتضامنة مع الفلسطينيين في الحرب على غزة، وكتب (لن أتواطأ.. أيدينا جميعاً ملطخة بالدماء)، ولم يكن وحده المنسحب من المهرجان احتجاجاً، بل انسحب معه آخرون تضامناً مع غزة.
ألمانيا ومعها معظم أوروبا وطبعاً أمريكا بذلت الكثير لتسويق حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها ولتبرير هذه الحرب الظالمة، ولكنهم جميعاً عجزوا عن شراء أو تضليل أو توجيه أصحاب الضمائر الحية من الفنانين والمبدعين والناس العاديين الذين تحدوا حكوماتهم وعبروا بما يستطيعون عن رفضهم للجرائم الاسرائيلية في غزة.
وما حدث في مهرجان برلين السينمائي) يؤكد أن الفن سيظل ضمير العالم ومرآة المجتمع الإنساني مهما حاول المنحازون إلى الباطل والمناهضون للحق وأصحابه.
mahmoudhassouna2020@gmail.com