بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
منعتنى ظروف المرض من استكمال ما بدأته منذ أسبوعين في رواية كيف شرعت الشركة المحتكرة للإعلام في قتل مشروع (100 سنة غنا)، تلك السلسلة من العروض الغنائية التوثيقية التي بدأها الفنان الكبير (علي الحجار) في دار الاوبرا يوم 14 فبراير الماضى بعرض عن موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب
الحق أقول لقد بذلنا جميعا مجهودا ضخما لخروج هذا الحفل بصورة تليق بوزارة الثقافة التي احتضنت المشروع، وتليق أيضا بأسمائنا وعلى رأسنا (علي الحجار) الذى ظل يحلم بهذا المشروع لمدة تقرب من العشرين عاما.
وعندما قررت إدارة الأوبرا وضع ميزانية محدودة للعرض وافقنا جميعا على تقاضى أجورا رمزية (والبعض تطوع بالمشاركة دون أجر كالفنان ميدو عادل)، من أجل خروج المشروع للنور إيمانا بالتجربة و حبا لصاحبها.
وكيف لا ونحن نراه يساهم ماديا في العرض الأول بتحمل أجر التوزيع و إيجار معدات الصوت ليدفع في النهاية ثلاثة أمثال الأجر الذى تقاضاه.
كانت المشكلة الوحيدة التي صادفتنا هى الاختيار من بين كم ضخم من الألحان الرائعة و التي تنبئ عن عبقرية الأستاذ (عبد الوهاب)، ولذا كان علينا الإجابة على السؤال الحتمى: هل نمر في عجالة على كل مراحل الأستاذ ؟، أم نؤكد على مرحلة واحدة ونستوفيها حقها؟
وعلى مستوى التأريخ لهذا العملاق هل نروى قصة حياته؟، أم نختار ماهو مؤثر؟، خاصة وأن الكاتب و المؤرخ المتميز (أيمن الحكيم) قد وضع أمامنا مائدة عامرة بكل ما لذ وطاب من أسرار ربما أكثرها يذاع للمرة الأولى.
كانت هناك عدة مداخل للموضوع: أن نؤكد على مسيرة عبد الوهاب الموسيقية مع القصيدة، والتي أبدع في تلحينها سواء كانت تقليدية (كالكرنك أوالجندول) أو حديثة مثل (أنت قلبى، ولا تكذبى).
علاقة عبد الوهاب بالشعر
وبالتالى يصبح العصب الأساسى للعرض علاقة عبد الوهاب بالشعر، والتي بالقطع كان السبب فيها أمير الشعراء أحمد شوقى، و للحقيقة أن العلاقة بين الاثنين تستحق وقفة طويلة فلم يكن احمد بك شوقى مجرد راع فنى لعبد الوهاب في بداياته.
بل هو من علمه الحياة كما يقول في أحد التسجيلات النادرة التي عثر عليها الدؤوب (أيمن الحكيم) أثناء بحثه الرائع: (شوقي بالنسبة لي كما يعلم الجميع إنه والدي الروحي.. ولما والدي توفى وأنا كنت في لبنان لا أنسى أن شوقي حضني..
وقال أنا أبوك، وبعدين شوقي علمني الحياة.. علمني كيف أعيش.. كيف أتذوق.. كيف أقرأ..كيف أسلك؟.. علمني الوجود..علمني التمتع بالحياة.. فتح لي أبواب الحياة، وهو اللي علمني الخوف والوسوسة).
أم نتجه إلى ألحان أغانى الأفلام، والتي تميز فيها عبد الوهاب سواء لنفسه أو لغيره من المطربين، كما أن علاقته بالسينما تصلح عرضا وحدها، فلقد دخلها بالصدفة.
ففي عام 1931 سافر إلى الزقازيق ليحيي حفلا، وهناك في ضيافة صديقه (فكري باشا أباظة) التقى بالمخرج السينمائي الشاب (محمد كريم) الذى عرض عليه التمثيل، ولكن عبد الوهاب رفض بشدة.
وحاول كريم إقناعه بأن (السينما هتوصل أغانيك لكل الناس.. بدل المئات اللي بيسمعوك في حفلة.. فيه ملايين هيسمعوك.. مش في مصر بس.. ده في العالم العربي كله.. ثم إن شريط السينما سيضمن لأغانيك الخلود).
وبعد تردد طويل وافق عبد الوهاب على تقديم أول أفلامه (الوردة البيضاء) في عام 1933، ويقدم بعده 6 أفلام أخرى – بمعدل فيلم كل سنتين – ليصبح الأب الروحي للأغنية السينمائية، بإيقاعها السريع وموسيقاها المتطورة.
وبعد طول حيرة قررنا أن يكون العرض الأول استعراضا عاما لمراحل تطور عبد الوهاب، نقدم فيه كل الأشكال والألوان على أن نعود مرة أخرى لتفاصيل مختلفة في مسيرته.
مرة عن القصائد في موسيقى عبد الوهاب، ومرة عن السينما، ومرة عن الأغانى الكوميدية التي لحنها لشكوكو و إسماعيل ياسين وغيرهم، ومرة عن علاقته بالوجوه الجديدة التي تبناها مثل ليلى مراد وعبد الحليم حافظ ونجاة .
المحتكرة للإعلام تنفل حفلا مشوها
أثناء الإعداد للعرض فوجئت بأن إحدى القنوات التي تتبع الشركة المحتكرة للإعلام ستنقل الحفل على الهواء مباشرة، و بما أننا كنا نتحرك في ميزانية محدودة خصصتها دار الاوبرا، فقد طلبت من (علي الحجار) أن يفاوض تلك القناة على تحمل جزء من تكاليف الحفل، فقد كانت أحلامنا أكبر من الإمكانات المتاحة.
اتصل (علي الحجار) بالمسئولين في الأوبرا يسألهم عن إمكانية ذلك، و نقل لى (علي الحجار) الإجابة التي كانت بالنسبة لى صاعقة، أن هناك بروتوكول بين الشركة ودار الاوبرا تنقل بمقتضاه تلك القناة كل حفلات الأوبرا دون مقابل!!
اعترضت بشدة لسببين: الأول أن هذا البروتوكول بالتأكيد له مردود مالى يُدفع لدار الأوبرا سواء في شكل مادى أو تسهيلات من أى نوع وإلا كانت بلطجة من الشركة إهدار لأموال الأوبرا وتقليص لمواردها.
و الأمر الثانى أننى سمعت أن نفس القناة تتحمل ميزانيات إنتاج حفلات مماثلة داخل الاوبرا !!!، و لكن (علي الحجار) قرر ألا يشغل باله بهذا الأمر، وأن نمد أرجلنا على قدر (لحاف) الأوبرا ويتحمل هو الباقى!!
ولكن العاملين بالاوبرا خاصة في الأقسام الفنية كالديكور والإضاءة وخشبة المسرح تجلت فيهم الروح المصرية التي تظهر وقت المصاعب فأبدعوا في العمل بأقل الإمكانات، بل إنهم استكملوا بعض النواقص على حسابهم الشخصى تقديرا للحجار و احتراما لتاريخه.
وفي البروفة النهائية حضر طاقم التصوير والمخرج التليفزيونى وجلسنا سويا لنضع الترتيبات النهائية، والحقيقة أن الطاقم كان متعاونا ومهتما بالتجربة التي تخلط بين التأريخ الاجتماعى و الاستعراض و الموسيقى.
ولكن توالت المفاجآت يوم الحفل، كانت المعدات التقنية التي أحضرتها الشركة الإعلامية الكبيرة معدات متواضعة، لا تليق بحفل كبير مذاع على الهواء، فعلى سبيل المثال ليس هناك سيارة تصوير أو سيارة إرسال مباشر، ولم اهتم فتلك ليست مسئوليتى وهم أدرى بعملهم.
في اليوم التالى اكتشفت حجم الكارثة، فلقد بدأ العرض في الثامنة والنصف تقريبا، والقناة بدأت في إذاعته بداية من الساعة العاشرة تقريبا، خلال تلك الفترة القصيرة حذفت من العرض كل المشاهد التمثيلية والمقاطع المصورة التي تؤرخ لعبد الوهاب وتطور موسيقاه.
ونتاجا لهذا الحذف اختلف التزامن بين الصوت والصورة، وظهر (علي الحجار) في بعض الأغانى وكأنه يغنى في واد والموسيقى في واد آخر.
هل من حق تلك الشركة بقنواتها العبث بمنتج فنى بهذا الشكل؟، هل من حقها تشويه صورة العاملين فيه والإساءة لصوت نجم من نجومنا الكبار في الغناء كصوت (علي الحجار؟)؟.
إهدار مشروع (علي الحجار)
هل من حقها إهدار الهدف من مشروع (100 سنة غنا)؟، وما الفرق إذن بين أي حفل يجمع أغنيات ملحن ما وبين المشروع؟، لماذا بحثنا وتعبنا وجمعنا مادة وكتبنا مشاهد و صنعنا عرضا؟
لقد لاحظ الجمهور في المنازل وجود اثنين من الممثلين يجلسان على المسرح دون أن يعرفوا سببا لذلك، فهل من حق الشركة اظهارهما كـ (كومبارس صامت)؟، أين حقوق الملكية الفكرية الخاصة بالمخرج و المؤلف؟
أدركت في تلك اللحظة لماذا تتوالى الخسائر على تلك الشركة، ربما كان الإهمال وربما كانت هناك أسباب أخرى، ولذا قررت أن أقاضى الشركة وقناتها على إهدارها لكل القيم الفنية.
خاصة أنه لا تعاقد بينى وبينها، ولا موافقة منى أو من المؤلف على تصوير العرض وإذاعته، ومن حقى المطالبة بالتعويض عن الأضرار التي لحقت بعملى وسمعتى الفنية و مسيرتى المهنية، ولم أكن لأفعل هذا لولا اختصاراتها التي أخلت بالعرض.
ولم يوقفنى سوى أن الفنان الكبير (علي الحجار)، قال لى أنه يقوم حاليا بإعادة المناطق المحذوفة من العرض – الذى صوره كاملا بوحدة تصوير خاصة به – ليقوم بتسليم نسخة كاملة جديدة للقناة، بعد أن تلقى وعدا من ادارتها بإعادة إذاعة العرض كاملا دون حذف، وبصورة تضمن محو الإساءة التي تسببت فيها.
و مازلت انتظر..!