بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان
كصيد ثمين.. بين أيدى صائديه اجتازوا بى مكلبشا بالحديد مبنى مباحث أمن الدولة.. إحساس مرعب أن تشعر قسرا أو أن يصدر إليك شعورا بأنك خطر على أمن دولتك.. أمن أبيك و أمك وأصدقائك وطفولتك وشعرك.. سلمونى كعهدة – خطرة – إلى (السجن) وانصرفوا..
تحت سيل متواصل من الضرب والإهانات والشتائم واصلوا التحقيقات.. بعدها قرروا نقلى إلى السجن الحربى .
نقلونى معصوب العينين .. في ظلمة عصبة العين تراءى لى (السجن) الحربى كما سمعت مصر كلها به كسلخانة .. تحركت بين جنباتها أمامى أشباح محترفى التعذيب.. حمزه بسيونى.. العسكرى الأسود..
ارتج صمت الظلمة بنباح كلاب جائعة يسيل اللعاب من بين أنيابها الطويلة.. المدربة على تمزيق اللحم البشرى في (السجن).
قضيت داخل السجن الحربى ليلة واحدة.. كان الغرض منها شحنى بالخوف والإذلال.. وجعلى طوال الليل استمع إلى صوت طبلية الإعدام، وهى تفتح و تغلق و كأنها ساطور جزار في مقصب يخطو تحت نصله طابورا من البهائم كى أعرف مصيري.
ولتحطيم المتبقى من معنوياتى .. طالبت مرارا الدخول إلى دورة المياه في (السجن)، وفي كل مرة يقابل طلبى بتكرار الرفض في صلافة.. كنت بالفعل قد تم شحي.
ليس بالإذلال والخوف، وإنما بمزيد من الشعر ذو الصدى الهائل في فضاء وجدان شاسع كصحراء سيناء ..
في اليوم التالى.. وفي حراسة عشرات السيارات .. كنت مساقا في عربة الترحيلات التي تشبه عربة نقل الحيوانات إلى (السجن) في القلعة .
(السجن) في القلعة تم بنائه في عهد المماليك ليكفى بتصميمه المعمارى و قدمه قدم القبور كوسيلة تعذيب معمارية حينما تشعر أنك قد ألقى بك في جب زمن سحيق.
زمن ترتفع فيه السيوف تقطر دما وتهبط فاصلة الرؤوس عن أعناقها.. بعيدا عن سطح الأرض التي يسير عليها الناس دون اكتراث إلا للقمة عيش صعبة المنال.. ممر ضيق طوله حوالى خمسين مترا.
على كل من جانبي الممر 21 زنزانة بـ (السجن).. عرض كل زنزانة حدود المترين.. يغلق الزنزانة باب حديدى يرتطم عليه بصدى مبطن بالثقل قفل ضخم.
تشعر أن كل زنزانة هى قفص لحيوان شرس.. يحجبونك بداخلها عن البشر كى لا تفتك بهم .
كانت الأوامر متتالية وصارمة في هذا (السجن).. أهمها: لا تحاول التحدث مع أحد، رغم عدم وجود أحد.
الزنزانة 13 انفرادى (في السجن)
دفعوا بى إلى داخل الزنزانة 13 انفرادى.. حوائط كابية.. تذكرت اليافطات المعلقة على جدران أقفاص الحيوانات في حديقة حيوان الجيزة.. كنت أنتظر أن يرفعوا يافطة على قفصي.
كنت أتمنى أن يصفونى على هذه اليافطة بأنى (من سلالة الشعراء.. تم صيده في إحدى المهرجانات الشعرية .. يكتب الشعر صيفا و شتاءا.. يتغذى على الجبن و الخيار.. و يشرب كميات هائلة من الشاي) ..
داخل الزنزانة المظلمة إلا من شعاع واهن يتسرب من حواف ثقب في الباب الحديدى كان في انتظارى سريرا.. و عدة بطاطين و ملايات.
كانت حقيبتى مازالت بصحبتى بعد أن أفرغوها من كل المعلبات حتى لا استعملها كسلاح سواء ضد الآخرين أو للانتحار.. حتى حزامى صادروه لنفس الأسباب.
تمددت على السرير مطلقا آهة تعب طويلة.. أخيرا بدأت في الدخول إلى النوم داخل زنزانة (السجن).
دقائق قليلة ليخرجنى من النوم ثانية ارتطام المزلاج بالبال الحديدى لفتحه!
معلش يا 13.. جالنا ضيوف على سهوة ويلزمنا السرير ده.
وهتسيب المرتبة والبطاطين والملايات ؟
أومال يعنى هتنام على إيه؟
ماشى..
بمجرد ما الضيوف يمشوا هرجع لك السرير تانى.. أصلك مطول معانا هنا شوية .
انصرف مخلفا وراءه قرقعة اغلاق المزلاج الحديدى والقفل الضخم بارتطامته الثقيلة على حديد باب زنزانة (السجن).
وسدت المرتبة على الأرض.. كنت مازلت متمسكا ببقايا النوم.. تمددت على المرتبة و سحبت الغطاء فوقى منزلقا إلى نوم عميق.. لحظات ليقرقع المزلاج الحديدى الثقيل ثانية!
عاوزين المرتبة!
المزلاج يقرقع بعد دقائق أخرى مع نبرة سخرية وتعمد – البطانية!
لم يتبقى على الأرض الخشنة سوى بطانية واحدة.. طويت نصفها تحتى، وحاولت بالنصف الباقى تغطية ما أستطيع من جسدى المنهك.
بمجرد ان سمعت المزلاج ثانية نهضت حاملا البطانية المتبقية مقدما إياها للقادم و الذى عد ذلك نوعا من افساد لذة اذلالى فرد بلطمة قوية أسقطتنى أرضا و انصرف غاضبا .
فرش (السجن) يخاصم النوم
نزعت عن الحقيبة غطاء الدمور الذى كان يكسوها.. افترشته أرضا محاولا استجلاب النوم الذى لم يقنع أبدا بما قدمته له من فرش (السجن).. كما أنهم لم يتأخروا .. رموا على أرض الزنزانة عدة جرادل متعاقبة من المياه.
لم يعد لغطاء الحقيبة دورا.. ظللت واقفا ملابسى تقطر ماءا والرطوبة تتسلل إلى جسدى لتزيد من الحاح رغبة التبول على مدار الوقت.
أرهقنى الوقوف لساعات فجلست مستسلما وسط المياه!
قلت للضابط في مرة: أنا بقالى يومين ما كلتش!
رد وهويمضغ ويلتهم من كومة ساندوتشات تعلوا أمامه: همك على بطنك يا خويا؟
وأنا أتأمل قفص الحيوانات المحجوز بداخله تذكرت الحارس في حديقة حيوان الجيزة وهو يلقى بقطع اللحم الضخمة في قفص الأسود.
بعد فترة طويلة أحضروا لى ما يشبه الطعام.. بدون ملعقة.. كنت أخشى أن أمد أصابعى بعد أن خلعوا أظافرى فتتلوث أماكنها المكشوفة.
اكتشفوا بعد عدة أيام من (السجن) أنى لا أنام.. أعطونى بعض الحبوب المنومة دون أي استجابة.. أقسم لى أحدهم أن هذه الحبوب خاصة بتهدئة الخيل الحكومى!
لم أكن أملك شيئا للقراءة سوى مزق من ورقة صحيفة حفظت ما فيها إلى الآن عن ظهر قلب من كثرة تكرارى لقرائتها: (زبيدة عبد العال من كفر البطيخ فقدت ختمها وستجدده).
لم يكن عندى أي مصدر للتسلية سوى مراقبة الذباب وهو يطن.. يدور بشكل دوامى.. كنت أعد الدوامات التي يقوم بها.. وإذا كانتا ذبابتان كنت أحصى عدد المرات التي يكرران فيها ممارسة الحب بعد طنين مزعج.
استمريت حبيسا للزنزانة الأقرب لقفص الحيوانات 42 يوما في (السجن).. بعدها تم تقديمى للمحكمة.. و كانت البراءة من كل التهم بلا استثناء.. بما فيها تهمة قلب نظام الحكم مع استعمال القوة .
هنأني أحد الضباط على الخروج..وأنا أرتدى ملابسى بحثت عن بطاقتى الشخصية في جيبى الأيمن فلم أجدها.. وحينما أبديت قلقى استعجلنى الضابط للتحرك.. مش مهم تلقاها دلوقت.. لو لقيناها هنجيبهالك
و ايه لازمة المشورة وتجونى آخر الدنيا ؟.. منا هنا أهو .
لآ.. أصلك هتفضل لسه تحت أيدينا شوية.
هامش
لا أستثنى منكم أحدا
حاسس إنى فى كل الكون..
متورط جد
قالها و سابنى
أيوه خدونى..
بألف كلابش حديدى.. فى مإيدى
أنا مش عايز أبعد عنكم
قلت لأمى و أبويا فى ليلة..
حُكم القاضى الفاضى علىّ
…………………………….
أنا مش هو
ساينى و راح هربان على جوه
و اما زارونى فى سجن القلعه..
كان وياهم
بص علىّ بدمعه حزينه..
و باس فى إيديّه
…………………………….
أرجوك..أيوه سامحنى لأنى..
جيبتك ليهم
أيوه أنا اللى كتبت ك عليهم..
ألف قصيده
وانت برئ من كل التهمة
إنت فى رحلة صدق مهمه..
بين أسوارهم
…………………………….
وأما حسن طلعت بلغنى..
قرار شعراوى.. وقرار ناصر
كان واقف ع الباب مستنى ..
قرار إفراجى
بس أُصيب يالصدمه الصدمه
حس بكتمه
و.. خرج لابس صدقى و تاجى
عمرى ما كنت البرج العاجى
…………………………….
حط إيديه فى إيديَه..و فجأه..
ملَى علىَ..قصيده جديده
خلت أمن الدوله بتيجى..
لىَ..عشان يبدا إحراجى
أمر المولى خلاص بخروجى
بس المره الجاية..
لا يمكن أسيبه يقودنى
أيوه المره الجايَه ها تصبح..
من إخراجى
……………………..
من كتاب (مدد.. مدد)
سيره ذاتيه تحت الطبع