بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
على المسرح الكبير بدار الاوبرا قدم الفنان الكبير (علي الحجار)، يوم الأربعاء الماضى أولى حفلات مشروعه الضخم (100 سنة غناء)، ليبدأ في تحقيق حلم يراوده منذ أكثر من عشرين عاما.
(علي الحجار) يقوم بإعادة تقديم مختارات من التراث الغنائى المصرى ضمها القرنين التاسع عشر والقرن العشرين و الخروج بها من شكل التخت الشرقى التقليدي ، لتقديمها للأجيال الجديدة بشكل يتوافق مع أذواقهم الحالية.
وذلك من خلال تقديم شكل موسيقى معاصر لهذه الألحان مستفيداً بالمنجزات المعاصرة فى علوم التوزيع الموسيقى.
كل ذلك من أجل تعريف الأجيال الجديدة مدي ما يتمتع به تراثنا الموسيقى من ثراء وقيمة فنية عالية، ووصل ما انقطع فى مسيرة الغناء العربي.
لإنه إذا ظلت هذه الأعمال الخالدة حبيسة الشكل الموسيقي القديم لن يستمع إليها هذا الجيل أو الأجيال التي تليه ويصبح مصيرها الاندثار والزوال.
إلى جانب ربط هذه الأجيال بموسيقانا بعيدا عن الانبهار بكل ماهو غربى وغريب وهذا سيؤكد لديهم روح الانتماء.
ويهدف مشروع (علي الحجار) أيضا الى توثيق حالة المجتمع المصرى ومزاجه الغنائى من خلال التعبير غنائياً وموسيقيآ عن التحولات الاجتماعية والسياسية التى مرت بها مصر في عصورها المختلفة.
وإثبات ريادة مصر الفنية في مجال الموسيقى والغناء.
(علي الحجار).. والحضارة المصرية
ويقول (علي الحجار) في مقدمة مشروعه: إنه من المعروف للعالم أجمع أن الحضارة المصرية هى أقدم حضارات التاريخ ولولا الفنان المصرى لما عرفنا عنها شيئا.
فهو الذى سجل لنا تاريخها من خلال الفنون كالعمارة المتمثلة في الأهرامات والمعابد والمسلات التي نُقش عليها تاريخ الملوك والممالك، كما نقش على جدران تلك المعابد الآلات الموسيقية التي استخدمها، والتي أخذ عنها العالم آلاته الموسيقية وطورها.
واقتداء بهذا الفنان نحاول أن نسجل تاريخ الموسيقى والغناء في مصر الحديثة إيمانا منا بريادة مصر في تاريخ الموسيقى العربية الحديثة، و إدراكا بأن سلاح الفن لا يقل عن الأسلحة الأخرى.
إقرأ أيضا : مشروع (100 سنة غناء) لـ علي الحجار ينسب لمدحت صالح !
ويتم تقديم مشروع (علي الحجار) في مجموعة من العروض الغنائية تتنوع بين عروض مخصصة لأعمال ملحن واحد، له تاريخ ضخم من الألحان، مع تنوع في عدد المطربين والمطربات الذين غنوا من أعماله.
وبين عروض تقوم علي استعراض أعمال أكثر من ملحن (وذلك مع فترة ملحنى القرن التاسع عشر أمثال (محمد عثمان وعبده الحامولي والشيخ المسلوب والشيخ أبو العلا محمد).
حيث أن كثير من أعمالهم كانت مدتها طويلة وطربية لدرجة أنها غير قابلة للتوزيع الموسيقي الحديث.
وسوف يعتمد الاختيار تقسيماً يشمل قوالب الغناء العربى مثل الدور والموشح والقصيدة والطقطوقة والموال والمونولوج والأغنية السينمائية، وأغنية الدراما مع ضرورة وجود الغناء العاطفى والاجتماعى والوطني.
مشروع (علي الحجار) هو الأضخم
والحقيقة أن المشروع أضخم من أن يتولاه ماديا وإداريا شخص واحد، و لذا ظل (علي الحجار) منتظرا أن تتولاه جهة مصرية بالرعاية، خاصة بعد أن فشلت المحاولة الأولى لتقديم المشروع في عصر وزير الثقافة السابق فاروق حسنى الذى تحمس له و أسند تنفيذه لصندوق التنمية الثقافية.
لكن الصندوق في ذلك الوقت لم يتخذ خطوات تنفيذية جدية حتى قامت ثورة يناير، ثم جاءت الوزيرة الدكتورة (نيفين الكيلاني)، لتستدعى (علي الحجار)، وتبلغه باهتمامها بالمشروع – بعد أن سمعت به.
و تكلف دار الاوبرا برئاسة الفنان الكبير الدكتور (خالد داغر) بتنفيذ المشروع الذى وضع كل إمكانات الأوبرا لكى تظهر الحفلات في صورة تليق باسم وزارة الثقافة، وباسم الفنان الكبير (علي الحجار).
و بناء على صداقة طويلة – لن أكشف عن عدد سنواتها – اتصل بى صديقى (علي الحجار)، ليطلب منى صياغة المشروع بصريا على المسرح.
وبعد مناقشات طوال اتفقنا على أن يتضمن كل عرض بعض المقاطع الدرامية البسيطة التي تربط الأحداث التاريخية التي تزامنت مع ظهور كل عمل موسيقي للملحن الذي نقدمه لكى نخرج عن الشكل التقليدي المعتاد في الحفلات الغنائية.
ونضيف بعض المعلومات لجمهور المشاهدين، ونربط بين تاريخنا السياسى والفني.
إقرأ أيضا : (علي الحجار) يشعل مهرجان القلعة، ويتذكر والده فيصبح تريند تويتر!
وبما أن المشروع يشمل تمثيلاً لأعمال كافة المبدعين من الملحنين المصريين منذ محمد عثمان وعبده الحامولي فى بداية القرن الماضى.
وصولا إلى الملحنين المعاصرين؛ فليس بالضرورة أن نعتمد التسلسل الزمنى لهذه الأعمال، فقد كان رأى (علي الحجار) أن يبدأ بمرحلة هامة من مراحل الموسيقى والغناء التي غطت النصف الثانى من القرن العشرين.
ويمثلها أفضل تمثيل الموسيقار الكبير بليغ حمدى، كما أنها تعتبر لمسة وفاء للملحن الكبير الذى اكتشف مجموعة من الأصوات من بينها الحجار نفسه.
وبالفعل بدأ الإعداد للحفل الأول حاملا اسم بليغ حمدى، ولكن أثناء الإعداد سبقت إحدى الجهات بتقديم ليلة مخصصة كلها لألحان (بليغ)، فقرر (علي الحجار) اختيار ملحن آخر.
و كان إجماعا على البدء بموسيقار الأجيال (محمد عبد الوهاب)، خاصة و أن (علي الحجار) قد قدم مئوية فنان الشعب في مكتبة الإسكندرية منذ فترة قصيرة.
(علي الحجار) يكلف (هشام جبر)
على الفور بدأ التحضير فكلف (علي الحجار) المايسترو (هشام جبر) بتوزيع الأغانى، وعندما اتضح أن إدارة الأوبرا خصصت ميزانية محددة لا يمكن تجاوزها للحفل ولا يمكنها دفع أجر التوزيع تحمله (علي الحجار)،
وذلك برغم أنه يساوى أجره عن الحفل – كما تحمل أيضا تجهيزات الصوت، وهي تجهيزات ضخمة و مكلفة، إلى جانب تكلفة مونتاج مشاهد الفيديو وتسجيلات الصوت النادرة التي قررنا ضمها للعرض.
حتى بلغت نسبة ما تحمله أكثر من 20 % من قيمة ما خصصته دار الأوبرا للعرض، كل ذلك بلا أدنى شكوى و بطيب خاطر من أجل أن يظهر المشروع في أفضل صورة.
وفي نفس الوقت مضى الكاتب الدؤوب والمؤرخ الفني القدير (أيمن الحكيم)، الذى اخترناه لصياغة العرض، يمدنا بالمعلومات عن المواقف الهامة في حياة عبد الوهاب و مراحل تطوره في صورة تسجيلات صوتية و مرئية معظمها نادر.
وفجأة وجدنا أنفسنا في بحر موسيقى وحياة (عبد الوهاب)، لا نعرف ماذا نختار وماذا نترك ؟ حتى أننى اقترحت أن نقدم عرضين عن عبد الوهاب لا عرضا واحدا، فهناك العديد من الخيوط و المسارات.
فلقد عاش (عبد الوهاب) قرنا من الزمان ممتلئا بالأحداث و التطورات و انعكس ذلك في موسيقاه و لن تستطيع أن تقدم كل مراحل تطوره في عرض واحد.
فهو يقول بنفسه: (والله أنا مريت بمراحل كتير.. مرحلة (جارة الوادي)، أنا اعتبرها مرحلة هامة في حياتي.. وكلنا نحب القمر وخايف أقول اللي في قلبي دي مرحلة.. مرحلة الليل لما خلي دي بعتبرها في حياتي مرحلة..
يعني حاجة جديدة بالنسبة لي دخلت فيها آلات غربية وطريقة التلحين فيها بالنسبة لي وبالنسبة للوقت ده كانت جديدة.. مثلا فترة (الجندول وكيلوباترا والكرنك).. دي برضه مرحلة.. فترة ألحان الأفلام..
اللي هى الحاجات الصغيرة البسيطة زي (بلاش تبوسني في عنيا، ويا مسافر وحدك) والحاجات دي برضه مرحلة.. فترة الأغاني التعبيرية زي مثلا (أيظن، ولا تكذبي، وماذا أقول له)..
أعتبرها مرحلة.. فترة السيدة أم كلثوم اعتبرها مرحلة.. فترة الأوركسترا المصاحب ليا اللي فيه آلات غربية.. زى (أنا والعذاب، وأهواك).
دي برضه تعتبر مرحلة.. هى الحقيقة مراحل كتير.. كل حاجة لها وقتها.
مضينا نختار بدقة عملا من كل مرحلة، و نكاد أن نبكى و نحن مضطرون للحذف، فالقصائد التي لحنها (عبد الوهاب) وحدها تستحق عرضا من خلال علاقته بأمير الشعراء أحمد شوقى الذى كان بالنسبة له أبا و معلما، وأغانى الأفلام تستحق عرضا وحدها وهكذا.
و بعد رحلة معاناة طويلة اكتمل العرض، وشاهد مسئولي النقل التليفزيونى البروفة النهائية، وفي اليوم الموعود تألق (علي الحجار)، بالرغم من مشكلات طارئة كثيرة.
وخرجنا نتلقى التهانى من جمهور غفير ملأ دار الأوبرا، حتى أنها اضطرت لوضع مقاعد إضافية، ولكن في اليوم التالى نكتشف المفاجأة القاسية، لقد اغتال النقل التليفزيونى الحفل، وظهر (علي الحجار) وكأنه في واد والموسيقى في واد آخر!!
ولتلك قصة أخرى..!