(الإذاعة).. 100 عام من الإعلام والتسلية والتثقيف!
كتب: محمد حبوشة
احتفلت الأمم المتحدة أول أمس في 13 من فبراير باليوم العالمي لـ (الإذاعة)، الذي يتزامن هذا العام مع مرور 100 عام على أول بث إذاعي مباشر على الأثير.
وقالت المديرة العامة لليونسكو، (أودري أزولاي)، في رسالة بمناسبة الاحتفال بهذا اليوم: (يمثل عام 2024 محطة بارزة في تاريخ هذه الوسيلة الإعلامية.
إذ نحتفل في هذا العام بمرور 100 سنة على أول بث إذاعي مباشر على الأثير للألعاب الأولمبية، عشية دورتها الجديدة التي تستضيفها باريس).
رواد الإذاعة المصرية
والتاريخ بالتاريخ يذكر، فقد كان أول ظهور للإذاعة في مصر عام 1925 أي بعد ظهور أول محطة إذاعية في العالم بخمس سنوات، وكانت بدايتها في شكل إذاعات أهلية يملكها أفراد وتعتمد في تمويلها على الإعلانات ومن بين الإذاعات في ذلك الوقت راديو (فاروق وفؤاد وفوزية وسابو ومحطة مصرالجديدة وسكمبرى وفيولا).
وفى بداية مايو 1926 صدر المرسوم الملكى الذي حدد ضوابط وشروط العمل الإذاعى ومنها الحصول على ترخيص، وفى 29 مايو 1934 تم إيقاف جميع الإذاعات الأهلية وتم التعاقد مع شركة مركونى على إنشاء الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية.
وقضى العقد المبرم بين الجانبين أن تكون الحكومة هى المحتكرة للإذاعة وأن الشركة موكلة من الحكومة في إدارتها وإنشاء برامجها لمدة عشرسنوات قابلة للتجديد.
وفى31 مايو 1934 بدأ بث الإذاعة واستمر إرسال اليوم الأول 6 ساعات، وكانت أول الأسماء التي شاركت بهذا اليوم (أم كلثوم وعبدالوهاب والشاعر على الجارم وصالح عبدالحى، والمونولوجست محمد عبدالقدوس، والموسيقيان مدحت عاصم وسامى الشوا).
وفى الساعة السادسة وخمس وأربعين دقيقة مساء، انطلق صوت المذيع أحمد سالم مفتتحا البث الإذاعى وهو يقول (هنا القاهرة سيداتى وسادتى أولى سهرات الإذاعة المصرية في أول يوم من عمرها تحييها الآنسة أم كلثوم).
وكان القارئ الشيخ محمد رفعت، هو صاحب التلاوة الأولى في هذه (الإذاعة) الوليدة (الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية) ومع أحمد سالم، كان من أوائل المذيعين محمد فتحى الذي عرف بلقب كروان الإذاعة ثم انتهى عقد شركه ماركونى مع الحكومة المصرية في 30 من مايو 1944 وفى 1947 تم تمصير الإذاعة.
الإذاعة المصرية عام (1934)
وبالنسبة للراديو المصري، فقد ظهر في القرن العشرين عام 1934، وكانت جملة (هنا القاهرة أولى الكلمات التى تحدث بها أحمد سالم) عبر الإذاعة المصرية، وكان للنساء المصريات دور مهم في دعم (الإذاعة) المصرية ومن أشهر هؤلاء المذيعات:
1- أبلة فضيلة، التحقت بالعمل بـ (الإذاعة) المصرية عام 1953 كمذيعة نشرة، قبل أن يظهر برنامج الأطفال الأشهر لها (غنوة وحدوته) ، والذي يرسخ القيم والمبادئ لدى الصغار، فتربى عليه العديد من الأجيال، واستطاعت أن تجذب الجميع لصوتها المميز.
2- هاجر سعد الدين، بدأت عملها في مجال الإعلام عام 1968، وتولت إدارة البرامج الدينية بشبكة البرنامج العام عام 1987، وشغلت منصب رئاسة شبكة القرآن الكريم في الفترة من 1998 وحتى 2006.
3- آمال فهمي، أول من أدخلت الفوازير في الإذاعة العربية ، حصلت علي جائزة مصطفي وعلي أمين للصحافة، بعدما حولت تحقيقات صحفية إلي تحقيقات إذاعية، وصاحبة فكرة برنامج (الشعب يسأل والرئيس يجيب).
4- آمال العمدة، عملت بداية في إذاعة الشباب، ثم انضمت إلى إذاعة الشرق الاوسط لكفاءتها، ومن أشهر البرامج التي قدمتها في الراديو (ساعة زمان، وإقرار ذمة شخصية)، وقدمت العديد من البرامج الرمضانية مثل برنامج (ابنتي من المشاهير).
5- أميمة كامل، دخلت الإذاعة المصرية عام 1965، وهى أول من أنشئ البرامج التعليمية، تدرجت في المناصب من مذيعة ومحررة ومترجمة بالبرنامج العام حتي وصلت إلي مدير البرامج التعليمية، ثم مدير عام البرامج.
دقات (بيج بن) في (الإذاعة)
وجدير بالذكر أنه كانت دقات (بيج بن) عبر الأثير وكلمتا (هنا لندن) مدخل الكثيرين في منطقتنا إلى بقاع أخرى من المعمورة، إذ لم تكن الإذاعات المحلية تشبع الرغبات في معرفة ما يجري بعيدا عن المنطقة بل وما يجري داخلها في غالب الأحيان.
مؤشر جهاز الراديو كان الدليل رغم أن تحريكه يتطلب دقة بالغة للوقوف على المحطة الهدف، الصوت يرتفع وينخفض، يظهر ويغيب، الموجة القصيرة أو المتوسطة، سبب للخذلان أحيانا، إلى أن أتيحت الفرصة لموجات (أف أم) لتحل محلهما وتزيد صوت (هنا لندن) وضوحا.
بدأ القسم العربي في بي بي سي بإذاعته التي سرعان ما ملأت أصوات مذيعيها الأثير وانتشرت شهرة برامجها الإخبارية والثقافية والترفيهية في أصقاع عالمنا العربي.
كانت الإذاعة آنذاك سيدة المشهد بعد أن ولجت كل مكان، أما الصحف فلنخب المدن، ثم دخلت الشاشات إلى البيوت محلية محدودة قبل أن تنتقل إلى مرحلة الانتشار عبر الفضاء الشاسع والزمن المتسع.
خدمة بي بي سي باللغة العربية، التي انطلقت عام 1938، لم تقتصر على الصوت بل تعاملت مع الكلمة المكتوبة أيضا، ذلك عبر مجلاتها الشهيرة: (المستمع العربي، وهنا لندن، والمشاهد السياسي).
وعبر ثمانية عقود هى عمر القسم العربي لبي بي سي، قيل عنها الكثير، ولمعت من خلالها أسماء كثيرة في عالم الصحافة والإعلام، واتفق البعض واختلف البعض الآخر على التزامها بمبادئها الأساسية في المصداقية والدقة والحيادية والاستقلالية.
لكن ما لا يمكن لأحد الاختلاف عليه هو الحضور المميز للمرأة الذي حرصت بي بي سي عليه عبر مشوارها المهني.
عدم وجود أرشيف الإذاعة)
من المحزن عدم وجود أرشيف يرصد بدقة كل مشاركة نسائية منذ بدايات القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية، والعزاء الوحيد هو أصوات بقيت في الذاكرة لا يمكن نسيانها.
عبارة يذكرها الكثيرون (نشرة الأخبار من هيئة الإذاعة البريطانية تقرأها عليكم مديحة رشيد المدفعي) ونبرة صوت محفورة في ذاكرة الكثيرين.
منذ بدايات العقد السادس من القرن الماضي، حين كانت قراءة نشرات الأخبار، وتقديم البرامج السياسية حكرا على الرجال في (الإذاعة)، خاضت (مديحة رشيد المدفعي) هذا المضمار وحققت نجاحا وشهرة تضاهي ما حققه زملاؤها الذكور.
وبدأت مديحة قراءة نشرات الأخبار في القسم العربي لهيئة (الإذاعة) البريطانية قبل إدخال الخدمة العالمية الأم الناطقة باللغة الإنجليزية للعنصر النسائي في قراءة الأخبار بخمسة عشر عاما.
لم يكن سهلا ذلك التحدي الذي أخذته على عاتقها، وكأول مذيعة أخبار في (الإذاعة) أرادت أن تثبت أن الكفاءة والجدارة لا ترتبط بجنس ولا تقتصر على جنس دون الآخر.
وهكذا حين قررت إعداد برنامج وثائقي في أواسط الثمانينيات، أرادت التجهيز له بشكل كامل، مدفوعة بهاجس التميز والتفوق.
البرامج السياسية في (بي بي سي)
وقدمت (مديحة المدفعي) مسلحة بالمعرفة الواسعة والبحث الدقيق برنامج النقاش الساخن (الرأي الآخر)، الذي يعد من أهم البرامج السياسية في تاريخ (الإذاعة).
كما قدمت سلسلة وثائقية في برنامج (بانوراما) تميزت بتنوع مواضيعها ولاقت حظوة كبيرة لدى المستمعين حينها.
اجتمع كل من أسعفه الحظ بالعمل معها في (بي بي سي) قبل تقاعدها على تميزها، وشخصيتها القوية وحرصها الشديد على عملها، لتقدمه للمستمعين بالصورة المثلى. وتدين لها الكثيرات ممن تبعنها بكسر القالب النمطي الذي يضع المذيعات الإناث في إطار البرامج الترفيهية فقط.
وبطبيعة الحال فكرة التأطير في حد ذاتها تجعل تلك البرامج في (الإذاعة)، بصورة أو بأخرى، تبدو وكأنها أقل أهمية، لكن ذلك بالتأكيد ليس دقيقا.
وهذا بالتحديد ينقلنا لتجربة نسائية أخرى لرائدة أخرى، تركت بصمة مهمة، وأثبتت أن البرامج الترفيهية يمكنها أن تحمل قيمة ثقافية عالية.
إنها (ليلى طنوس) التي قدمت برنامج (الدراما) الذي نقلت فيه كمخرجة مختارات من عيون الأدب الإنجليزي إلى اللغة العربية، ولقي البرنامج إقبالا واسعا وكان يتمتع بشعبية كبيرة طيلة سنوات بثه.
لم يقتصر تميز (ليلى طنوس) في (الإذاعة) على الصعيد المهني، وإنما أيضا على المستوى الإنساني، فقد شغلها حفاظ المغتربين على لغتهم الأم، في وقت كان يعاني أبناء الجالية العربية من صعوبة الحفاظ على لغتهم.
فما كان منها إلا أن دشنت مشروع مدرسة اللغة العربية، التي تعلمت فيها أجيال من المغتربين العرب لغتهم الأم على مدى أكثر من ربع قرن.
جيل الأوائل في (الإذاعة)
كثيرات كن اللاتي تركن بصمات من جيل الأوائل في (الإذاعة) ومنهن (عبلة خماش) واسعة الثقافة التي عرف عنها إجادتها للغة الإنجليزية كإجادتها للغة العربية، و(أولغا جويدة) التي اشتهرت بتقديم البرامج الثقافية خاصة برنامجها (نصف ساعة مع أولغا جويدة).
وشهدت فترة آواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات انضمام مجموعة كبيرة من النساء للقسم العربي في (بي بي سي) في تلك المرحلة كان يبدو أن هنالك رغبة متزايدة في بي بي سي للتجديد والتحديث ومواكبة روح العصر.
وهكذا امتازت تلك الفترة بتنوع وغنى كبيرين في المشاركات النسائية، وبرزت أسماء مثل (سلوى الجراح وهالة صلاح الدين وسامية الأطرش ونادية صالح وعفاف جلال ونجوى الطامي)، وغيرهن كثيرات من صاحبات الأصوات العذبة التي طبعت تلك المرحلة من عمر بي بي سي.
(هدى الرشيد).. و(لإذاعة) السعودية
من الأسماء التي انضمت أيضا في تلك المرحلة (هدى الرشيد)، التي كانت أول مذيعة للأخبار من المملكة العربية السعودية، وكان انضمامها لهيئة الإذاعة البريطانية ينطوي على الكثير من الجرأة.
وهى القادمة مجتمع محافظ إلى حد كبير، لتثبت بدعم من أسرتها، أن المرأة قادرة على تحدي المفاهيم البالية التي تهدف إلى تكبيلها وتحجيم إمكاناتها.
ومع تلك التغيرات بدأت موجة جديدة من البرامج في (الإذاعة) التي بدت مواكبة لروح العصر، وظهر لأول مرة برنامج يعنى بموسيقى البوب، تحت عنوان (توب أوف ذي بوبس).
وبدأت أشكال جديدة من البرامج تقدمها في الغالب نساء، مثل برنامج (ساعة حرة، والبرنامج المفتوح).
اللذين تميزا بالكثير من الارتجال والابتعاد عن الجدية التامة والرصانة الشديدة التي لطالما تبنتها (بي بي سي) مع الحرص على المستوى العالي دون ابتذال أو إسفاف.
لا شك أن تلك البرامج قد نقلت تلك الإذاعة إلى أسلوب أقل تزمتا وأكثر مرونة خاصة مع بداية تجربة التفاعل المباشر مع المستمعين عبر الهاتف.
حين نتحدث عن التغيير والتجديد في تلك المرحلة، لا يمكن أن نغفل اسما بعينه، ولا يمكننا المرور به مرور الكرام، فإذا كان لمديحة المدفعي فضل تحدي التنميط وكسر القوالب الجاهزة منذ بدايات مشاركة المرأة في بي بي سي، فلسلوى الجراح حتما الفضل في التصدي لأحد أعقد تابوهات العالم العربي.
(سلوى الجراح).. وبي بي سي
ففي التسعينيات قدمت (سلوى الجراح)، برنامجا من أكثر البرامج جرأة في (الإذاعة) تحت عنوان (عن الجنس بصراحة)، تناولت سلوى في هذا البرنامج الكثير من القضايا والمشاكل الجنسية المسكوت عنها في العالم العربي، وقدمت نصائح مفيدة مستعينة بخبراء وأطباء بكفاءات عالية.
البرنامج كان جريئا وفريدا بكل المقاييس، إذ أنه قد طرح قضايا لم يكن حتى الإلماح لها مقبولا في ذلك الوقت، كالمثلية الجنسية والتحول الجنسي.
وتقول (سلوى الجراح) التي انضمت إلى (بي بي سي) وآخر سبعينات القرن الماضي، إنها راضية تماما عن أداء النساء في (بي بي سي) من بنات جيلها وممن سبقنهن.
لكنها لم تخف عدم رضاها عن واقع عدم شغل أي امرأة، إلى أن غادرت هى (بي بي سي) على الأقل، لمنصب إداري.
لـ (سلوى الجراح) كل الحق في عدم الرضا ذاك، لكن مما لاشك فيه أن كل اللاتي شغلن مناصب مهمة في القسم العربي لبي بي سي بعد ذلك، لم يكن ليحققن أيا مما حققنه لولا الرائدات ومواجهتهن لكل التحديات.
فضلا عن عملهن الدؤوب وإنجازاتهن التي أحدثت فرقا ومهدت الطريق لتمكين بنات جنسهن وإيصالهن لما وصلن إليه وحققنه اليوم.
وفي اليوم العالمي لـ (الإذاعة) لابد لنا أن نشكر رواد ورائدات (الإذاعة) والذين وضعوا اللبنات الأولى لـ (الإذاعة) التي عادت تنافس كل وسائل الإعلام المرئية والمنصات الرقية في محاولة لإثبات وجودها في عصر التكنولوجيا.