بقلم: محمد شمروخ
مع أن قضية تبليط الهرم الثالث (هرم منقرع) التى باتت تشغل الرأي العام في مصر وربما في العالم كله، لم تزل قضية غامضة وخطيرة، إلا أنه تم التعامل مع تخريب (أهرامات مصر) على المستوى الإعلامى معاملة سطحية ومتسرعة.
بل يمكن أن نصفها بأنها (معاملة تبريرية) أى أن طرحها إعلامياً يعطى الفرصة للجهة المسئولة لتبرير أفعالها.
ثم ماذا؟!.. ثم.. لا شيء.. ثم…ودمتم!.
ويتم بعدها إقفال باب المناقشة مع الانتقال إلى جدول الأعمال.. وإلى اللقاء في أعمال أخرى!
لكن ذلك الغموض الذي يجرى فوق هضبة الأهرام تخريب (أهرامات مصر) لم يكن وليد اليوم ولا الأمس القريب.
وقد تعلم الإعلام المصري الآن – بشقيه الرسمي وشبه الرسمي- ألا يثير أو يتتبع أو حتى يسأل عن أشياء إن تبد له تسوءه، ولو مجرد سؤال ساذج برئ، فلأنه إعلام هادئ ووديع وشطورة، التزم الأدب.. والأدب فضلوه على العلم!
وبما أنه بالمناسبة جاءت سيرة العلم، فإن القاعدة في علم ترميم الآثار تنص على أن (الأثر لا يكمل ولا يجمل)، فالقيمة الحقيقية لأى أثر هو الإبقاء على ما يظهر عليه من عوامل الزمن وآثار الماضي والتي تؤكد أصالته وتثبت في عبق التاريخ.
ما أيسر أن تبنى دول مثل (أهرامات مصر).. وقد حدث ان تم بناء نماذج طبق الأصل حجمها وشكلها لونها.. لكن من ذا الذي يمكن أن يعطيها البعد الرابع؟!
قلناها مراراً وتكراراً، يمكنك أن تغير في المكان.. أن تزيل جبالا او تبني على شاكلتها، تحفر أنهارا جديدة أو تطمر أنهارا قديمة.. تفعل اي شيء.. دون أن تخترق الزمن؟!
ستجد تشوهات وتهشمات وندوب وشقوق وطمس اجزاء، لكن الذي لم تصبه الندوب ولا التشوهات ولا التهشمات ولا الطمس، هو حقيقة مرور الزمن!
فلماذا إذن سمى بالأثر؟!
فالحال التى وجد عليها هذا الأثر، لهى جزء أساسى من قيمته، ما لم تهدد بقاءه عوامل أخرى وتشكل خطراً على سلامته أو سلامة زائريه.
تخريب (أهرامات مصر) اليوم
لكن القصة كما قلت لك في تخريب (أهرامات مصر): ليست قصة اليوم ولا الأمس القريب!
فلنعد بالذاكرة إلى حقبة السبعينات. وبالتحديد ما بين عامى ١٩٧٧ و١٩٧٨، حينما قادت الدكتورة نعمات أحمد فؤاد، حملة شرسة ضد مشروع تقدمت به شركة أجنبية لتأجير هضبة الهرم من الدولة المصرية وإقامة منشآت سياحية وترفيهية فوق الهضبة.
وبالفعل جاء وفد من الخارج وقام بمعاينة الهضبة مع وضع تصور لما ستكون عليه، حيث كان من المقرر أن يتم حفر بحيرة صناعية عملاقة تبنى حولها الفنادق والشاليهات والملاهي وكل ما هو منتسب الى الترفيه.
لكن العظيمة (الدكتورة نعمات)، فتحت نيران قلمها عبر جريدة الأهرام المشروع، مع الوضع في الاعتبار أن الدكتورة نعمات وكذلك معها المسئولون عن الأهرام حينئذ، لم يخف عنهم أن مشروع تخريب (أهرامات مصر) المزمع إقامته يتم الإعداد لتنفيذه بعلم رئيس الجمهورية وربما برعاية منه شخصياً!
ثم ما لبثت (الدكتورة نعمات) أن وسعت من دائرة المواجهة لتشرك جريدة الأخبار في الحملة بمقالاتها الصريحة في الهجوم على مشروع تخريب (أهرامات مصر)، وكشف مواطن الخطورة المترتبة عليه في حال التنفيذ.
وما لبثت أيضاً أن اتسعت الدائرة بدخول آخرين على خط المواجهة ومساندة (الدكتورة نعمات أحمد فؤاد) في معركتها وانضمت مجلة روز اليوسف إلى كتيبة الدفاع عن تاريخ مصر المعروض للبيع.
وهبطت المقالات النارية والرسوم الكاريكاتورية التى تسخر من مشروع تخريب (أهرامات مصر)، قذائف نيران على الشركة صاحبة العرض، فماذا كان عن موقف السادات؟!
قبل أن تعرف موقف (السادات)، لابد أن تنتبه إلى المنابر الإعلامية التي صارت منصات لإطلاق الصواريخ وتبت موقف الدكتورة نعمات، كانت تابعة للدولة وظلت تفتح لها الصفحات، حتى وصل الأمر إلى مجلس الشعب والنقابات وافردت لها جلسات ما بين قاعات المجلس والنقابات.
فقضية مشروع تخريب (أهرامات مصر) تناولتها صفحات تذكر ثانية وثالثة ورابعة أن مؤسسات (الأهرام والأخبار وروز اليوسف) الصحفية، تابعة للدولة.
ومع ذلك دعمت (الدكتورة نعمات) في قضية ضد فريق يلقى رعاية من رئيس الجمهورية!.
(آه يا قلبي يا كتاكت.. ياما شايل وساكت)، على رأي عمنا (حسن حسني)!
لكن السيد رئيس الجمهورية وقتها، سمع وجهة نظر (نعمات أحمد فؤاد) ومن وقفوا بأقلامهم معها، وغير موقفه إلى العكس تماماً عندما استشعر الخطر على أهم منطقة أثرية في العالم!
(السادات) وتخريب (أهرامات مصر)
وكان يمكن أن يتجاهل السادات كل هذا فالمعركة نخبوية لا تهم الشارع كثيراً، بل ربما كان يمكن كسب موقف الشارع عند الحديث عن مكاسب المشروع الهائلة وفتخ شهية الجماهير نحو توفير فرص عمل للشباب الذي أشعل مظاهرات يناير 1977!
لكن السادات ذا النظرة الثاقبة المتحاوزة للزمن، وصاحب الثقافة الواسعة والتجربة السياسية العريضة، اقتنع بضرورة رفض مشروع تخريب (أهرامات مصر)، وإلغاء أى خطوات يمكن ان تتخذ نحو تحقيقه، مهما كانت العقبات والتبعات القانونية وغير القانونية المترتبة على إلغاء العقد الموقع مع الشركة!
فعلها إذن بطل العبور، عندما استشعر بماورائيات الأمور:
فمن ناحية ستتعرض الأهرامات حتما لخطر تسرب المياه الجوفية الناتجة عن المنشآت السياحية والترفيهية ومن ناحية أخرى، سيؤثر بناء هذه المنشآت على مشهد الأهرامات الثلاثة ولن يستكمل أبو الهول مهمته الأبدية في حراسة أعظم آثار الإنسانية قاطبة!
وتعال معى إلى ثالثة الأثافى: ذلك أن الشركة كانت بالضرورة ستضع يدها على 4 آلاف فدان فوق هضبة الهرم كمرحلة أولى في مشروع تخريب (أهرامات مصر) سيمتد إلى 10 آلاف فدان مستقبلا وقد يزيد!
وبالطبع ستحفر الشركة الأرض لوضع أساسات الأبنية وشق الطرق وما يستتبع عمليات تطوير وتحديث منطقة الهضبة التاريخية، وحينئذ ستخرج الأرض أثقالها من كنوز أثرية من حضارات مصر المتعاقبة عبر آلاف السنين.
ويا عالم، هل كانت ستزمع الشركة إبلاغ الحكومة المصرية بما سيتم العثور عليه من آثار، أم أنها كانت ستعتبر هذه الآثار غنيمة لها؟!
ولا من شاف ولا من درى!.
وفي النهاية: سجل التاريخ انتصار (نعمات أحمد فؤاد) التى لم تكن تثير قضية إلا وترفع في نهايتها راية النصر، ذلك لأنها لم تدخل قضية قط، إلا بهدف مصلحة البلاد والحفاظ على هوية وتاريخ مصر، مهما كانت التحديات وصعوبة كسب هذه القضية!
فعلتها إذن (الدكتورة نعمات – رحمها الله) صاحبة الشخصية قوية الشكيمة والتى عندما رأيتها لأول مرة في الأهرام، لم أصدق أن هذه السيدة ذات الجسم النحيف الضعيف والابتسامة الهادئة، هى التى كسبت أهم وأخطر القضايا التاريخية.
وذلك دون أن تحصل على أتعاب سوى أنها سجلت اسمها بحروف من نور في الدفاع عن تاريخ مصر وهويتها ضد المتربصين!.
ولعمرك.. إنه لفوز مبين!.
وفعلها إذن (أنور السادات) وتدارك الأمر ولم تأخذه زهوة الكرسي الرئاسي، ولم يستسلم لشهوة العناد الملازم للجالسين على هذا الكرسي- مع أنه كان عنيدا جدا في مواقف كثيرة- وكسب احترام التاريخ والمستقبل بأن ضرب بما يمكن أن يحققه مشروع تخريب (أهرامات مصر) بتأجير هضبة الهرم من مكاسب عرض الحائط ولم يهتم بالتبعات القانونية.
خاصة ان الشركة قامت برفع دعوى أمام محكمة دولية للحصول على تعويض من جراء إلغاء المشروع العملاق الذي كانت ترتجى من ورائه مكاسب خيالية، لكن مصر مسبت القضية في النهاية في عهد الرئيس مبارك.
ما يحدث على الهضبة نفسها
على أى حال لابد من التذكير بهذا الموقف التاريخي العظيم، حيال ما يحدث على الهضبة نفسها والتى لا يخفى أن هناك من يتربصون بها لأنهم يظنون – وخاب ظنهم – أن أجدادهم هم الذين بنوا الأهرامات!
** هل رأيت وسمعت كيف كانت ضحكات السادات عالية وطويلة عندما سمع مناحم بيجن يذكر أمامه في مؤتمر علنى، أن أجداده هم الذين بنوا الأهرامات؟!
كأنما أراد السادات أن يقول له بأن ما يردده مجرد نكتة جديدة تستوجب الضحك بصوت عالٍ!.
** هل تذكر منذ عدة سنوات كيف قام خبراء ينتسبون إلى إحدى الدول الأوروبية، بالعبث بالخرطوشة المدون فيها اسم الملك خوفو في جوف الهرم الأكبر، بحجة أنهم يأخذون منها (عينات) رغم أنهم لم يخطروا أحدا من المسئولين بهذا الإجراء ولم يفصحوا عنه؟!
ستعرف فداحة هذا الفعل عندما تنتبه أن هذه الخرطوشة المحفورة على أحد حجارة الهرم، هى النقش الوحيد الباقي وبقيت كصك مادى وملموس باسم الملك خوفو.
بصراحة هم أرادوا طمس هذا الصك.. لكن ماذا فعلنا نحن؟!
** وهل تذكر هذا النصاب العالمى الذي خرج على الناس في بدايات عصر انتشار الإنترنت ودعا إلى التصويت لإعادة اختيار عجائب الدنيا السبع واستبعد عامدا متعمدا الأهرامات الثلاثة من بينها.
لأن مصر – لم تقم له اعتبارا- حتى أن بعض الجهال صدقوا ترهاته، لكن بصراحة يحسب للدكتور (زاهى حواس)، كشف حقيقة ذلك النصاب الدولى واداه من المنقى خيار!
الخلاصة: أن الأمر ليس في مشروع تخريب (أهرامات مصر)، بتبليط هرم منقرع اتباعا للقاعدة التى تحكم عالم البلطجية في معاركهم (ابدأ بالأصغر والأضعف لتنتهى بالأقوى والأكبر).
لا يخفي ما يحدث من إجراءات غامضة خاصة بعد إغلاق الهرم الأكبر لفترة طويلة والحجة دائما هى (الترميم).
إن مجرد طرح هذا الأمر بهذه الطريقة المستفزة يستوجب تقديم المسئولين عنها إلى المحاكمة الجنائية والشعبية – فضلا عن محكمة التاريخ، بوضع الدولة والهيئات المحلية والدولية أمام الأمر الواقع بعد إتمام العبث بأعظم آثار العال..
** أين لنا بمثل العظيمة الدكتورة نعمات أحمد فؤاد ومن ساندوها في معركتها المظفرة؟!
والغريب أن المقاومة الحقيقية لمشروع تخريب (أهرامات مصر) بالتبليط جاءت على صفحات السوشيال ميديا بينما استهون الإعلام الأمر، بل ربما حاول دفع الجماهير لقبول الأمر بعد أن يقرر (العلماء المختصون مصير تبليط الهرم),
وتلك هي المصيبة، لأن المر قد يؤدى إلى تكرار المشهد الكوميدى بين العملاقين (فؤاد المهندس وحسن مصطفى) في فيلم (أرض النفاق) توهان القصة ما بين لجنتى القطة وحرامى الحلة!