بقلم: بهاء الدين يوسف
أبرز حدث لفت انتباهي في الأسبوع الماضي هو اعتذار المؤلف والكاتب الكبير (محمد جلال عبد القوي) عن التعاون مع (الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية) لتقديم أعمال درامية جديدة في رمضان.
كتب (عبد القوي) على صفحته منشورا يوضح فيه أسباب رفضه بعدما اتصلت به الزميلة (علا الشافعي) المسؤولة عن المحتوى الدرامي في المتحدة، للقاء وبحث سبل التعاون، وقد حمل المنشور رسالة مهمة وجهها المؤلف بالنيابة عن أغلب المبدعين المنسيين.
رسالة (عبد القوي) حملت عتابا ضمنيا من صاحب (المال والبنون، ونصف ربيع الآخر) للمسؤولين عن الإنتاج الدرامي في مصر في السنوات الأخيرة بسبب التجاهل التام له ولغيره من المبدعين الذين أثروا الحياة الدرامية العربية..
وليس فقط المصرية طوال العقود الماضية بالكثير من الأعمال التي لا تزال تحتفظ بتأثيرها في نفوسنا رغم مرور عشرات السنوات على إنتاجها.
لكن منشور (عبد القوي) حمل في طياته أيضا رثاء موجعا من رجل قدم الكثير من الأعمال الدرامية الملهمة والمحترمة على مدى عقود سابقة.
رثاء موجع لكل من يهتم بحال الدراما المصرية ويراها على حقيقتها كواحدة من أهم عناصر القوة الناعمة المصرية.
نجح (عبد القوي) في منشوره المختصر في تلخيص حالة التراجع التي تعيشها الدراما المصرية في غيبة (الخبازين) المحترفين عن التواجد أمام (فرن) الإنتاج التليفزيوني ما نتج عنه تهميش وتسطيح لكثير من المبدعين الحقيقيين.
صارت الأعمال الفنية حاليا يتم إسنادها بطولة وإخراجا وتأليفا بناء على عوامل بعيدة غالبا عن المعايير المهنية والموضوعية المتعارف عليها، وصارت تعتمد بشكل شبه كلي على درجة القرب والاستلطاف من هذا المسؤول أو ذاك.
المبدع الحقيقي لا يستطيع المداهنة
ولان المبدع الحقيقي لا يملك عادة القدرة على التملق ولا يستطيع في الغالب المداهنة وإجادة فن العلاقات العامة، فكان على الكثيرين منهم دفع ثمن ذلك بالدخول الإجباري في غياهب النسيان.
ظنا من البعض أن صناعة المبدع ممكنة وسهلة مثل صناعة السيارة مثلا، وتجاهل مقولة (مورجان فريمان) أن الحصول على مبدع واحد أصعب من الحصول على سلاح نووي.
كانت النتيجة المنطقية لما سبق أن فقدت مصر الكثير من قوتها الناعمة، في مواجهة منافسة شرسة وممنهجة من دول لم يكن لها وجود قبل 20 عاما في سوق الدراما العربية مثل تركيا وقبله سوريا والآن سارت بعض دول الخليج العربي على درب المنافسة وأحيانا التفوق على الدراما المصرية.
كذلك أتوقع أن تختفي قريبا اللهجة المصرية من ألسنة وأذهان الأشقاء العرب بعدما ظلت لسنوات طويلة جدا وسيلة لإذابة صعوبات التفاهم بين اللهجات العربية المختلفة، وذلك بفضل أعمال لمبدعين بقيمة (أسامة أنور عكاشة، صالح مرسي، محمد جلال عبد القوي، صفاء عامر، يسري الجندي، محفوظ عبد الرحمن) وغيرهم كثيرين.
بجانب الخسائر السابقة غير المحسوسة فقد خسرت مصر أيضا ماليا بسبب تراجع إيرادات مهمة وغير قليلة بالعملات الأجنبية اعتادت أن تجنيها من حصيلة بيع أغلب الأعمال الدرامية لقنوات عربية مختلفة في سنوات (العز الدرامي) المصري.
المنشور يقود إلى الرثاء
وبدلا من أي يستمر الإنتاج الدرامي كما كان مصدرا للدخل تحول إلى عبء مادي على الجهات المنتجة دفع بعضها الى تخفيض أجور الممثلين وطواقم العمل.
وهو ما قد يؤدي في المستقبل القريب إلى ابتعاد النجوم في التمثيل والإخراج والتأليف عن المشهد، وتحولهم إلى العمل في إنتاجات دول أخرى منافسة.
كذلك قادني المنشور إلى رثاء على الحال الذي وصل إليه حال الإنتاج الدرامي المصري في الفترة الأخيرة من تسطيح في الأفكار وسذاجة في المضمون.
حتى تحول الأعمال الفنية الجديدة إلى ما يشبه (ستاندات) الدرامية التي تقدم في الورش الفنية لتدريب الطلبة على الأداء، دون أن تحمل العمق والقيمة الفنية والفكرية التي كانت تحفل بها الأعمال القديمة.
سؤال أخير أتمنى لو يجتهد القراء في التفكير بحثا عن إجابة له، علما بأنه ليس مقدمة او تمهيد لأي شيء:
هل لو وجهت دولة ما دعوة للمؤلف لتقديم عمل درامي جديد بشروطه الكاملة الفنية والمالية، وقبل هو الدعوة ستقوم الدنيا ولا تقعد مجددا في مصر ضده بدعوى الجري وراء المال وضعف الانتماء للبلد الذي قدمهم؟!
هل يجب على مبدع مثل (عبد القوي) أن يقبل التجاهل والعيش في غياهب النسيان وانتظار (أي لقمة) تلقيها له أيدي القائمين على الأمر حتى يكتسب شرف الوطنية من وجهة نظر (الزاعقين) في الإعلام ووسائل التواصل ممن باتوا يشبهون لعب الأطفال التي لا تنطق ولا تتحرك حتى تضع فيها عملة معدنية؟!
وفي النهاية لابد لي أن أشيد بموقف الزميلة (علا الشافعي) مسئولة المحتوى الدرامي بالشركة المتحدة، في إصرارها الدؤوب على عودة (عبد القوي) إلى حضن الدراما المصرية في إطار إثراء الشاشة باعماله الإبداعية المشرقة.