بقلم: محمد شمروخ
عندما يشتهر عمل فنى تمثيلى ويرتبط بوجدان الناس مثل (ليالي الحلمية)، يصبح كالوثائق التاريخية، فيعتمد الناس عليه كمرجع تاريخي ويحتجون بما ورد فيه وكأنه حقيقة ثابتة لا جدال في وقوعها.
لاسيما إن كان القائمون على هذا العمل من تأليف وإنتاج وإخراح ومراجعة تاريخية، من أهل الثقة.
إذن فورود معلومة خاطئة في سياق الأحداث يمكن أن تتحول الى خطيئة في مسلسل بقيمة ومكانة (ليالي الحلمية).
ولست هنا بمتنمر أو أتصيد الأخطاء الوارد وقوعها في خضم الأحداث الكثيفة والمتلاحقة، لكن لأن الخطأ الذي استوقفني في الحلقة الأخيرة من الجزء الخامس من (ليالي الحلمية).
والذي جاء على لسان (جلال شهاب) إلى ابنته وصديقتها في حضور (على البدرى)، كان متعلقاً بحدث وشخصية تاريخيين، لم يأخذ أى منهما ما يستحقه.
لا على المستوى الدرامى سواء في فيلم أو مسلسل ولا على المستوى الإعلامى عند ورود أي مناسبة تقتضي الإشارة إليه خاصة في الانتخابات.
ولنبدأ بالخطأ الذي ورد في مسلسل (ليالي الحلمية)، فقد اختلفت (جميلة) ابنة (جلال شهاب) مع صديقتها (نهلة) سكرتيرة (على البدرى) السابقة.
عندما أنكرت (نهلة) ما ذكرته لها جميلة بأن نظام ما قبل 23 يوليو 1952 كان ديمقراطياً بدليل سقوط رئيس الوزراء غي الانتخابات امام منافسه.
واستشهدت (جميلة) بأبيها المناضل المثقف والذي أكد ما ذكرته كاشفاً عن أن رئيس الوزراء المقصود هو (عبد الفتاح باشا يحيى) والذي خسر الانتخابات في دائرته أمام مرشح آخر هو والد المهندس (سيد مرعي).
(يحيى باشا إبراهيم) بطل القصة
والواقعة محور الحديث، صحيحة تماماً إلا في اسم رئيس الوزراء.
فالحقيقة أن بطل القصة هو (يحيى باشا إبراهيم) رئيس وزراء مصر الذي أجريت في عهده اول انتخابات شعبية حقيقية بعد صدور دستور 1923، في تجربة عظيمة غي بداية التجربة الديمقراطية.
حيث كان رئيس الوزراء قد رشح نفسه في دائرة (منيا القمح) في محافظة الشرقية أمام مرشح وفدى شاب لا يشغل منصباً ذا بال ويحمل لقب (أفندى) أمام دولة الباشا رئيس الوزراء، والذي كان يشغل أيضاً منصب وزير الداخلية بجانب رئاسة الوزراء!
وفي هذه الانتخابات فاز حزب (الوفد) باكتساح في 12 يناير سنة 1924: أى من قرن كامل وقد مرت ذكرى هذه المناسبة منذ حوالي عشرين يوما ولم يشر أحد إليها ولا حتى البرلمان المصري ولا اى مؤرخ في أى جريدة على ما أظن!
ولا في برنامج على أي قناة تلفزيونية فضائية أو أرضية، فقد قتلها النسيان.. وربما كان في ذكرها تقليب للمواجع وجلب لوجع الدماغ!
ففي العام الماضي لم تحتفل مصر بمرور مائة سنة على صدور دستور 1923 وقيام أول حكم نيابي ديمقراطي في تاريخ مصر، أول مرة يتوجه فيها الناس إلى صناديق الانتخابات لاختيار مرشحيهم بلا خوف أو رهبة أو طمع أو كرتونة زيت أو سكر.
هذا مع أن نسبة الأمية في فئات الشعب كانت تربو عن 90% بكثير، لكن وهى الفلاح والعامل، تحدى الملك فؤاد الأول وتحدى رئيس الوزراء ووزير الداخلية وأسقط الغالبية العظمى من مرشحيهم.
وفيهم ملآك أراض بآلاف الأفدنة وأصحاب مناصب رفيعة ومقامات عالية وعلى رأسهم (يحيى باشا) رئيس الوزراء نفسه.
هل لك أن تزهو كمصري بهذه التجربة؟!
كيف أجبر الشعب الملك وحكومته على إجراء انتخابات نزيهة كانت دلالة نزاهتها الأولى وعلاماتها الكبرى هو سقوط رئيس الوزراء ووزير الداخلية.
لك أن تزهو، لكن ليس بإرادة الشعب وحده، بل بمن استجابوا لهذه الإرادة في ذلك الوقت وعلى رأسهم دولة رئيس الوزراء بل والملك فؤاد نفسه، رغم كل ما روي عنه ان كان حقا أم باطلا!
عكس أحداث (ليالي الحلمية)
أذكر أننى سألت المؤرخ الكبير صاحب ديوان الأهرام، الدكتور يونان لبيب رزق، عن وزير الداخلية الذي أشرف على تلك الانتخابات، فقرر أنه هو نفسه (يحيى باشا إبراهيم) نفسه الذي تولى منصب وزير الداخلية على عكس أحداث (ليالي الحلمية). وأنه أشار في نص خطاب استقالته إلى اعتزازه بإدارته هذه الانتخابات التاريخية وكان سقوطه فيها مدعاة للفخر.
وهذا سجلته سطور خطاب الاستقالة الذي قدمه إلى الملك فؤاد، فلم ينل مرشح في انتخابات مجدا بسبب سقوطه مثلما نال ذاك الرجل العظيم (يحيي باشا إبراهيم)!
المهم على أثر نتيجة تلك الانتخابات، تولى (سعد زغلول) رئاسة الوزراء كأول رئيس وزراء منتخب في تاريخ البلاد التى نص دستورها على ان نظامها ملكى دستورى ديمقراطي.
إذن فصاحب هذه التجربة قد طواه النسيان حتى لما ذكر عرضا اسم غيره في مشهد عابر بحوار جانبي، أخطأوا في اسمه ونسبوا ما صنع إلى غيره لتشابه في الاسمين.
لكن للأسف رغم أهمية تلك التجربة تاريخياً وسياسياً، لم يذكر بطلها إلا في لافتة على شارع فرعي لا يليق باسمه حيث كان قصره في حى الزمالك.
والشارع متفرع من شارع 26 يوليو (ذكرى تنازل الملك فاروق الأول عن العرش) وينتهى في شارع (عزيز باشا أباظة).
ربما كان التباس اسم (يحيي باشا إبراهيم) بسبب تولى رئيس وزراء آخر اسمه (عبد الفتاح يحيى) في سمة 1933، غير أن (عبد الفتاح يحيي باشا) لم يسقط قي انتخابات أمام مرشح وبالتالي ليس هو صاحب الواقعة.
أخطاء في (ليالي الحلمية)
العجيب أننى راجعت ما نشر عن أخطاء وردت في (ليالى الحلمية) بأجزائه الخمسة (إذ لا يمكن حسبان جريمة إضافة جزء سادس إلى هذا المسلسل التاريخي العظيم.
بل ليتهم اكتفوا بالأجزاء الأربعة فقط لأن مط الأحداث وافتعال المواقف للتطويل بدأ مع الجزء الخامس.
إذ يبدو لن إنهاء مسلسل (ليالي الحلمية) كان قرارا صعباً أمام مغريات النجاح وارتباط المشاهد المصري به، بل ومتابعته مع الإعادات المتكررة بنفس الشغف الذي لازم العرض الأول!
وبالفعل هناك من اكتشفوا أخطاء كثيرة من عدة نواح، لكنها لم تكن مؤثرة على تسلسل الدراما في الحلقات أو بالأجزاء، لكنها ليست بالأخطاء الفادحة.
ولم يلفت التباس اسم (يحيي باشا إبراهيم) بطل الانتخابات الأولى، مع (عبد الفتاح باشا يحيى)، لكن لأهمية مسلسل (ليالي الحلمية)، واعتماد كثير من الناس عليه تاريخياً شأن أى عمل فنى يتناول حقبا ما في التاريخ، كان لابد من التنبيه.
ليس فقط للتصحيح، ولكن لكى لا نشارك التاريخ الرسمي أو التاريخ الشعبي، في جريمتها المشتركة بنسيان حدث عظيم ورجل عظيم أيضاً، لم ندرس ما فعل في أى من سنوات الدراسة التى تناولت تاريخ مصر المعاصر.
لكن خطأ تجاهل – أو جهل – الدراما لبعض الأحداث التاريخية العظيمة، أكثر خطورة من جهل وتجاهل الكتب الدراسية، لأن الغالبية ينسون ما درسوه في كتب التاريخ مع نهاية كل سنة دراسية.
لكن الدراما أوسع تأثيرا وأكثر رسوخا من كتب التاريخ الدراسية أو العامة لدى كل من الدارسين والمثقفين، فلعلنا بهذه السطور نتدارك مثل هذا الخطأ، وننبه على ضرورة ودقة المراجعة التاريخية للأحداث.
وعند ذكر شخصيات معلومة أو مجهولة لدى عامة المشاهدين.
ولعل في هذا المقال تذكير للقائمين على الأمر بضرورة تذكيرهم أن مرور مائة عام على حدث تاريخي كبير، يستحق الاحتفال به، خاصة لو كان أمراً يستحق أن نسجله بحروف من نور.
بدلاً من تلك الترهات التى تفرض علينا بجهل أو بغفلة أو بسوء نية، فاللهم نجنا من شر أصحاب هذا المثلث الأسود، خاصة بعد انتشارهم كالوطاويط في ظلمات البلاتوهات!