كتب: محمد حبوشة
تعتبر حكاية (عرابة بيروت) تقليدية، عرفتها أجيال سابقة واكبت التحول في الحياة الليلية في بيروت، منذ الستينيات إلى اليوم، ومنها حكايات (عفاف، وماريكا) وغيرهما اللواتي عملن في بيع الجنس، وأوقعن مجموعة من رجال الأعمال والسياسة في الفخ. ومن لم يتذكر(عفاف وماريكا)، يتذكر حتما أم وليد التي ذاع صيتها خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990.
بينما بنيت قصة (عرابة بيروت) حول العلاقات الاجتماعية التي تحاكي عالم الجمال والمال والسلطة والنفوذ والفوضى والصراعات التي لا تنتهي، وتأتي لكل بطولة العمل لكل ممثلة قصة منفردة وحكاية خاصة من الماضي والحاضر بأسلوب مشوق وقاسي في لحظات كثيرة ودراما مشبعة بالواقعية والمتعة البصرية في استعراضات عالمية المستوى.
(عرابة بيروت) يحكي تجارب حياة أربع شابات اتين من أزقة الألم والظلم شاركنها مع مشاهدي منصة (شاهد) التي تبنت هذا العمل النخبوي غير التجاري الذي آمنت به بعيدا عن لعبة الرايتنغ واللهث وراء نسب مشاهدة مقابل مادة درامية عادية قد تضمن لنفسها التصدّر على حساب المضمون القيم.
من (أولد بيروت إلى جولد بيروت) تأرجح مسلسل (عرابة بيروت) بين أحلام شابات تفاوتت فيما بينها، فمرة عانقت هذه الأحلام الطموح والجشع ومرة أخرى عانقت الأمل والرغبة في تغيير المصير وفي كلتا الحالتين اخفق البطلات في تأمين سبيل آمن لأجل تحقيقها.
شرف المرأة كان العنوان العريض لهذا المسلسل، فـ (زينة/ جيسي عبدو) اغتصبت في طفولتها من قبل زوج والدتها التي سكتت عن هذا التجاوز مخلفة دمارا نفسيا مهولا في حياة ابنتها التي انتصرت لطفولتها في نهاية المسلسل.
حين أدركت أن والدتها تسببت بمقتل زوجها انتقاما لشرف ابنتها، و(باتريسيا/ رولا بقسماتي) التي هربت من حياتها الباهتة متمسكة بحلمها بالنجومية الذي دفعت حياتها ثمناً له في نهاية المسلسل.
و(مي/ نادين الراسي) التي باعها زوجها لرجل ثري واستغلها لجني المال متلاعبا بأمومتها وحياتها الذي لم يكتف بتدميرها بل تمادى الى أخذ حضانة ولديهما منها.
و(كاميليا/ نور الغندور) التي تبرأت عائلتها منها بعد محاولة تحرش مديرها بها وقتلها لمغتصبها فلاحقها كابوس الماضي حين عاد شقيقها لقتلها اعتقادا منه انه بذلك يتخلص من العار الذي الحقته بعائلتها.
(عرابة بيروت) بين الماضي والحاضر
وبين الماضي والحاضر لم يتغير كثيرا المجتمع الذي يجرم المرأة دون التبرير لها ويحملها ذنوب الدنيا فتكون وحدها المذنبة والمخطئة في حين يبرىء كل من اوصلوها الى ما هي عليه.
عالج الكاتبان (مازن طه ونور شيشكلي) هذه القضايا الحساسة في مجتمعاتنا بمسؤولية كبيرة ولم يتجاوزا الشعرة الرفيعة بين الإبداع والابتزال وساهما في غوص المشاهد في تفاصيل حياة نساء مظلومات أنصفهن المسلسل على عكس الحياة في معظم الاحيان ليشرّعا الباب على أمل مفقود ولكنه غير مستحيل.
أما اللاعب الاكبر في المسلسل فكانت (مدام جولييت/ جوليا قصار)، صاحبة كباريه (أولد بيروت) التي أخفت ابنتها غير الشرعية عن براثن أعدائها الكثر وتمسكت بجشع وعناد بالسلطة والثروة حتى خسرت في نهاية المسلسل ابنتها الوحيدة والسلطة على حد سواء.
مرسخة فكرة أن المرء لا يستطيع الفوز بكل شيء في الحياة وعليه أن يحدد أولوياته إلا أن جشعها عاد ليتربص بها فشاهدناها في نهاية المسلسل تعود الى (جولد بيروت) مشرعة الباب لجزء ثان، إما لتسترسل في روي قصة امرأة لم تستطع مقاومة طمعها وجشعها على الرغم من كل خساراتها اما لأجل الانتقام ممن سلبوها كل شيء.
كان أداء الممثلة المصرية عفويا ليصبح العمل الثاني لها في 2023 كبطلة رئيسية في عمل درامي، ونجح المسلسل بعد عرض الحلقة الأولى والثانية في جذب انتباه الجمهور، خصوصا أن فكرة العمل تعتمد على فكرة الاستعراض والغناء في حقبة زمنية قديمة.
حيث تجسد (نور الغندور) شخصية (كامليا) الراقصة الاستعراضية التي تعد أهم نجمات إحدى الأماكن الترفيهية، وتتعرض لمحاولة قتل لكنها تنجو منها، لتبدأ مجموعة من الاحداث ما بين التشويق والدراما، وقد حصد المسلسل إعجاب الجمهور من ناحية الاستعراضات والأفكار التي قدمها صناع العمل.
نور الغندور و(عرابة بيروت)
نور الغندور أبهرت كذلك الجمهور من ناحية الشخصية التي قدمتها وعادت من جديد لتؤكد قدرتها على تقديم كافة الأدوار الصعبة والمختلفة، وامتلاكها الجرأة في اختيار تلك الأدوار.
حيث اعتبر قطاع من الجمهور الفنانة المصرية المقيمة في الكويت، أن لديها دائما القدرة على اختيار شخصياتها وتقمصها بشكل يجذب الأنظار إليها ويجعلها محط الاهتمام الأكبر.
أما الممثلة القديرة (رندة كعدي) وعلى الرغم من صغر دورها إلا أنها أدت دورا محوريا تمثل في دور الوالدين في مجتمعاتنا الشرقية الذين يهابون أحكام مجتمعاتهم، كلامهم ونظرتهم لبناتهم على حساب سعادتهن وهنائهن وقناعاتهن فيساهمون في ظلم فلذات كبدهم ارضاءً لهذا المجتمع الجائر.
أما أبطال المسلسل (عمار شلق، رودني حداد، بديع أبو شقرا، مهيار خضور، إيلي متري، غابريال يمين) فكانوا أمناء على لعب ادوار مساندة وكانوا اعمدة قصة لم تكن لتكتمل لولا مشاركتهم بابداع في هذا المسلسل
أما فيليب أسمر فلعله كان الأوفى في هذا المسلسل حيث نقل الوجع (صافيا) في مشاهِد عملاقة إلى المشاهدين أوفت الكاتبين وبطلات المسلسل حقهم وساهم في أن يتسلل الألم إلى شاشة كل العرب، ويدخل الى كل بيت عربي تعاطف مع كل امرأة تعيش قصتها بألم وحزن كبيرين.
يبقى أن نثني على انتاج هذا المسلسل لشركة (إيغل فيلمز) الذي أنصف الورق والألم على حد سواء ونجحت (إيغل فيلمز) مرة جديدة في قلب كل المعادلات وخرق جدار المألوف والعادي بعمل نخبوي متكامل.
حرصت الشركة في إيلائه كل اهتمامها ووضعت في تصرفه كل امكاناتها فكانت أزياء البطلات وإطلالتهن وأماكن التصوير والطبيعة وكل معالم حقبة المسلسل الزمنية حابسة للأنفاس.
من جهتها، تثبت اللبنانية (نادين الراسي) مرة جديدة أنها تتقن الأدوار المعقدة، التي تتطلب مجهوداً في الانفعالات، فتظهر في (عرابة بيروت) بصورة مغايرة عن أعمالها السابقة.
كما تظهر اللبنانية (جيسي عبدو) بحرفية عالية في فهم دورها، وكذلك (رولا بقسماطي) التي تجاري دورها بطريقة سلسة ومقنعة جداً.
كما يلعب (مهيار خضور) دورا بارزا في المسلسلات القصيرة، وكذلك زميله (بديع أبو شقرا)، فالبطولة لحكايات النساء و(العرابة) التي تسيطر على الحلقات بشكل أو بآخر، فيدور الجميع في فلك المرأة اللعوب والتهافت من أجل الفوز بها.
حسنا فعل المنتج (جمال سنان) باختياره المخرج فيليب أسمر الذي رسم بعدا تقنيا جيدا للقصة وأبطالها، وبرهن أن العمل الدرامي يمكن أن ينفذ بكل هذه السرعة وكل هذه الدقة بوجود فريق عمل متخصص.
(عرابة بيروت) وسرد الزمان والمكان
ينافس الشكل المضمون في المسلسل سواء لناحية الديكور أوالإضاءة أوالأزياء التي تعود إلى حقبة الستينيات، ويمكن فهم القصة بعد الحلقة الثالثة، واعتماد أسمر على عنصر التشويق، وحياة الترف التي تسودها الشكوك، والأمن الداخلي، والسياسة والنفوذ التي امتلأت بمثل هذه الروايات على مر العصور.
من أهم المؤشرات الجيدة في مسلسل (عرابة بيروت) تكمن في السرد هى الزمان والمكان، وهو ما يشجع المشاهد ويساعده على تخيل الأحداث بدقة.
خمسون دقيقة من مسلسل (عرابة بيروت) كفيلة بأن توقف بك الزمن وتخترق خوارزمية حياتك وتسجنك بين جدران ذاكرة جميلة، حتى وإن لم تعش في زمن قديم و(عتيق).
إلا ان هذا المسلسل قادر على سحبك إلى داخله، فتسأل نفسك كيف لمسلسل أن يخترق عالمك ويقفل الباب وراءه على حداثة اعتدت عليها والتصقت بك، لكنك تكتشف أنها لا تضاهي الماضي عبقرية وجمالاً وسحرا.
كيف لمسلسل أن يوقظ فيك الحنين إلى زمن لم تعشه وحياة ليست موجودة إلا في مخيلة حاكها المسلسل بجمال ودهشة، لدرجة أن تبتلعك الشاشة وتعبث بذهنك الذي يستسلم لها أخيراً.
يفتح الانتاج الضخم ولكن غير المستبعد عن (إيغل فيلمز/ جمال سنان) شهيتك على الماضي فتسلبك الأماكن والأزياء والسيارات والمباني وحتى الطبيعة رغبتك في البقاء في الحاضر، فتغدو ضحية هلوسة جميلة بالماضي.
لمسلسل (عرابة بيروت) القدرة على تجريدك من الوقت الذي يتوقف مع بدء كل حلقة، فتنسلخ عن حاضرك وتلتصق بشاشة تمارس كل طقوس السحر عليك.
وإن تغاضيت لبرهة عن الانتاج الخيالي للمسلسل وقاومت سحره، قد تجدك تغوص بعمق القصص التي حاكها كل من (نور شيشكلي ومازن طه)، والتي وإن صنفت لمن هم فوق الـ 18 عاما.
قصص (عرابة بيروت) حزينة
تبقى قصص حياة مؤلمة لم تتغيّر ولم تتبدل مع الزمن، توارثتها الأجيال ووقعت تحت ثقلها وأعبائها، فلا قصص الحب تغيرت ولا النزوات ولا الشهامة ولا الخيانة ولا المبادىء تغيّرت.
حتى مفهوم الشرف والعرض والكرامة لم يتغير في مجتمعات توارثت تعنتها في التمسّك بها والدفاع عنها .
قصص هذا المسلسل حزينة مهما تنوعت وتعددت إلا انها بقيت جروحا مفتوحة معرضة للتجرثم وآيلة للنزف من جديد وفي أي وقت أو ظرف.
قصص هذه المسلسل ربما لا تكون جديدة، إلا أن المستجد فيها هو ترجمتها المبهرة من قِبل نخبة من الممثلين وتحديداً الممثلات اللواتي استعرضن في المسلسل ليس فقط اجسادهن الفاتنة، إنما أيضا استعرضن جراحهن النافرة بكل ما أوتيت من ألم وحسرة وخيبة وندم أحيانا.
تتأرجح جائزة أفضل أداء في المسلسل بين غرف أبطال وبطلات هذا المسلسل، وتكاد تُمنح الجائزة لأحدهم قبل أن تنتقل إلى سواه، فالبطولة الجماعية في هذا المسلسل بلغت ذروتها ونجح المخرج العبقري (فيليب أسمر) في إيفاء كل ممثل حقه من الإبداع، فاستحقوا جميعا التقدير والثناء والإعجاب.
بالطبع هذا المسلسل ليس تجاريا ولا يندرج تحت خانة (المادة الترفيهية)، فهو عميق المعالجة وجريء الطرح يبحث بين سطور الكاتب عما لم يكتب وما أبقاه طي الكتمان خوفاً من حظر المسلسل او بعض المشاهِد.
ومن اعتاد على مسلسلات (النم، والعن، واللعي، والسطحية)، فننصحه بألا يقترب من حدود هذا المسلسل (المختلف) بمضمونه وحواراته التي ترسل رسائل حياة لمشاهديه.
في النهاية، تحية حب وإعجاب كبيرين لممثلي مسلسل (عرابة بيروت)، نذكر منهم (نور الغندور، مهيار خضور، جوليا قصار، نادين الراسي، جيسي عبدو، كارول عبود، عمار شلق، رودني الحداد، بديع أبو شقرا، رولا بقسماتي، رندة كعدي، غابريال يمين، إيلي متري، ريان الحركة) وآخرين .