بقلم: محمد شمروخ
على الرغم من أننى لبيت الدعوة لحضور حفل توزيع جوائز مؤسسة (ساويرس) الثقافية، ومع أننى كنت عضواً في لجنة تحكيم القصة القصيرة والرواية (فرع كبار المؤلفين) فى إحدى دورات الجائزة (بدأت في سنة 2005).
ومع أننى كنت متابعا لما ينشر عن مهرجان الجونة السينمائى، إلا أن ميولا يمكن أسميها بالميول الاشتراكية تنتابنى حيال اهتمام كبار الأثرياء بالأمور الثقافية والفنية، فأتحسس قلبى متوجسا!
ورغم أن الاشتراكية قد انتقلت من قاموس القداسة الثقافية وألقاها السياسيون ثم المفكرون ثم المثقفون أنفسهم، بمنتهى الاستهانة والقسوة، في سلة مهملات التاريخ، وفشلت كتجربة في الحلم والواقع، اجتماعيا واقتصاديا وثقافياً.
بعد أن كفر بها دعاتها قبل أتباعها، مستسلمين لبريق الرأسمالية الجديدة بعد أن غيرت لقبها اسمها لتحسين سمعتها إلى (النيوليبرالية).
بل وصار رموز الاشتراكية السابقين هم دراويش (النيوليبرالية) في نستختها الجديدة، متلمظين أمام وعودها بالجنة الدنيوية التى عجزت عن تحقيقها شيوعية كارل ماركس!
مع كل ذلك وجدت بل ضبطت، نفسي (معجبا) باهتمام (ساويرس) بالثقافة والفن، حتى ولو كان هذا الاهتمام نوعا من الدعاية الإعلانية أو حتى على سبيل البرجماتية المباشرة!.
فما فعله آل (ساويرس) ذوو الأصول الصعيدية السوهاجية الجرجاوية يجعلنى أطرح تساؤلا أكبر:
لماذا لا ينافس آل (ساويرس) أحد من أثرياء مصر في هذين المجالين الثقافي والفني؟!
فمصر – بسم الله ما شاء الله – مكتظة بالمليارديرات ممن يملكون ثروات يمكن أن يناطحوا بها مليارات عائلة (ساويرس)؟!
والذي أعلمه أن الأموال التى تنفق على الأعمال الخيرية والاجتماعية والثقافية يمكن خصمها من الضرائب (حسب آخر معلومات متوفرة لدى).
وحتى لو لم تكن كذلك، فالدعاية لصاحب رأس المال ثقافياً وفنياً، لا تقل في أهميتها عن الدعاية التجارية!
منظومة عائلة (ساويرس)
وأعتقد أن مليارديرات مصر (وهم أكتر من الهم ع القلب) لا تختلف مبادئهم في عالم التجارة، عن مبادئ المنظومة العالمية التى تتبعها عائلة (ساويرس)، بتنويع وسائل الدعاية والإعلان لخدمة الأغراض الاقتصادية.
وهى أمور لم تعد عيبا أو مدعاة للخجل، ولم يعد معتنقوها متهمين بالانتهازية، حيث إن كثيراً من القواعد والمعايير الأخلاقية في عالم الاقتصاد والتجارة والدعاية، صارت أكثر مرونة وميوعة عن ذي قبل وتتحرك بمنتهى الحرية، من صفر إلى 90 إلى 180 إلى 360 درجة!.
وطبعاً لا أقصد بفئة (مليارديرات مصر) أولئك الذين تحسب ملياراتهم بالجنيه المصري، فهؤلاء لم يعد في الاعتبار حسبانهم في قوائم الأثرياء، بعد أن أصبح مبلغ المليار جنيه المصري، يفقد ثقله وتتناقص قوته يوميا مع تضاؤل قدرته الشرائية يوماً بعد يوم إثر هبوطات تجعلنا نبكى لأحوال مالكيه ونعزيهم في مصابهم الأليم!.
……………….
……………….
لكى تفهم الحسبة – أو بمعنى أكثر دقة (اللعبة) – يمكنك تخيل كم يفقد المليار جنيه من قيمته مع كل جنيه يزيد في قيمة الدولار!.
……………….
……………….
ثلاثة من بيت (ساوريس)
لكن أقصد بالمليارديرات المصريين – وهم كثر – الفئات الدولارية واليوروية، فعند حسبان هؤلاء يمكنك بارتياح كبير أن تتجاهل ما يتم إعلانه من قوائم (فوربس) وأخواتها.
وكذلك بنفس درجة الارتياح، أن تغمض عينك عن أن ثلاثة من بيت (ساوريس)، يحتلون ثلاثة مراكز فيها ومن بينها الأول في قائمة العشرة المبشرين بفوربس كل سنة.
ذلك أن الأخت (فوربس) تعجز عن تقدير ثروات بعض المليارديرات، لأنها ليس لها مندوب فيما يمكن ان أطلق عليه عالم (الدارك مانى)، أو (الديرتى بزنس)، أو على بلاطة… (اللى تحت البلاطة!).
وهذه الأموال تهدر كل يوم بما لا يمكن تتبعه بطرق سهله، لكنها تظهر في أسواق غسيل الأموال التى تلعب دوراً خطيراً ومؤثرا في تحريك أسعار الدولار والذهب المصابة بالجنون خلال الأيام الماضية.
وليس من تفسير لما يحدث سوى ما يضخه مليارديرات مصر، في النور أو في الظلام أو ما بينهما (يمكن لك تبديل حرف الضاد بحرف آخر من بين حروف الأبجدية)!
فالبلاد المصرية مفعمة بمليارديرات لا يعرفون (فوربس) ولا تعرف قوائمها سبيلاً للوصول إليهم، وكله بيطلع في الغسيل!
……………….
……………….
إقرأ أيضا : (مهرجان الجونة) على قدر من مسئولية مساندة الشعب الفلسطيني في محنته الحالية
المهم في الحوار.. أن هناك الكثير ممن لديهم القدرات المالية على إنشاء مؤسسات على نسق مؤسسة (ساويرس) الثقافية، بل وتنظيم مهرجانات تنافس (مهرجان الجونة) ويمكن أن تستقطب عدداً من نجوم الفن في مصر والعالم المتلهفين للأموال السائلة والمجمدة!
لكن رجال الأعمال المصريين عموا عن هذه الوجهه رغم أهميتها والتى ظهرت في التفاف عدد من رموز مجالات الثقافة والفنون حول أبناء (ساويرس).
بل وحتى نكون أكثر صراحة، كان هناك سباق محموم إليهم ومحاولات للوصول وربما الاستحواذ.. بس على مين؟!
في النهاية: كسبت مؤسسات (ساويرس) الاقتصادية واستفادت من هذا الدور الثقافي والفنى إيما استفادة تنم عن ذكاء شديد لتحسين صورة الليبرالي الجديد راعى الثقافة والمثقفين.
كما أثبتت أن هناك اهتماماً رأسماليا بالثقافة والفنون، لا يقل عن الاهتمام الاشتراكى السابق.
(فين أيام الجناح الروسي في معرض الكتاب؟!).
مؤسسة (ساويرس) الثقافية
وأعتقد أنه من الذكاء أيضاً، أن مؤسسة (ساويرس) الثقافية حتى الآن، اقتصرت على الجائزة دون أن تقتحم أو تقحم نفسها، في عوالم النشر أو الإنتاج السينمائي والفنى مباشرة.
وأظنها تحرص على ذلك، كى تحافظ على حيادية الاختيارات ولا تصبح منافسا من داخل المجالين، ومن ثمّ تظل محتفظة بمكانها عاليا فيما وراء منصات توزيع الجوائز بالتشجيع والتمويل فقط!.
كما أنها تثبت كذلك، أن هناك تصالحا قد تم ما بين المثقف ورجل الأعمال، فإن كان المثقف المتمثل في المبدع يمكن أن يكون على يسار السلطة، مراقباً لها متصيدا لأخطائها، إن لم يشد النكير عليها كمعارض.
إلا أن وضعه قد اختلف مع مانحى الجوائز لما لها من قيمة مالية كبرى – في زمن ترتفع في الأسعار لحظيا – فهو ذا يرنو إلى نيل الجائزة في أى من مجالاتها المعلنة، فلا مجال هنا إلا للجلوس على يمين الداخل إلى قاعة الاحتفالات!
وهو ذا ثقب الإبرة قد اتسع إلي درجة تسمح بمرور الجمل المحمل بالجوائز إلى ملكوت الثقافة والفنون!
ولاغرو أن تستفيد المؤسسة الاقتصادية الساويرسية من هذه الدعاية، بل ولعلها تقدم نموذجاً يجب أن يحتذي به كثير من الأثرياء المصريين من أصحاب المليارات الحقيقية.
إقرأ أيضا : محمود حسونة يكتب: في (السينما).. مهرجانات لها مواقف سياسية
كما أن المنافسة الثقافية سوف تحسن من سمعة كثير من رجال الأعمال المصريين وتذهب عنهم رجس الاتهام بغسيل الأموال، ذلك لأن الثقافة الإبداعية في مجال الكتابة ليست من المشروعات المربحة.
يعنى بصريح العبارة (ما بتجبش همها) لكنها تصلح لإجراء عمليات تجميل اجتماعى وعمليات التجميل أفضل مليون مرة من شبهة عمليات الغسيل!.
فالمجال مفتوح أمامهم، على الأقل، سيساهم منافسوا مؤسسة (ساويرس) في المستقبل، في حل العقد المشتركة ما بين عالمى المال والثقافة المتخاصمين، حيث إن الصلح سبق له أن أثبت بالتجارب المتلاحقة، نجاحا مبهرا على الأقل في مجال التمثيل.
حتى صار عالم الفن التمثيلي؛ سينما ومسرح وتليفزيون؛ مرتبطاً ارتباطا كاثوليكيا بعالم المال!
لكن عيب الثقافة – وربما ميزتها في الوقت نفسه حسب شطارة المستثمر – أنها لا تتبع هذا النموذج الكاثوليكى أو حتى الأرثوذكسي في الارتباط، بل ربما لا تعترف بمبدأ الارتباط على أى مذهب دينى أو دنيوي.
فلعل هذا هو السبب الذي جعل بقية كبار رجال الأعمال، ولو من بينهم العشرة المبشرين بفوربس، يتحسسون جيوبهم خشية الهدر الثقافي، تماماً كما كان وزير الدعاية الشهير (جوبلز) يتحسس مسدسه كلما سمع كلمة (مثقف!).