(حاتم على).. الذكرى الثالثة لرحيل عراب الدهشة الإبداعية في الدراما العربية
كتب: محمد حبوشة
مرت الذكرى الثالثة لرحيل عراب الدهشة الدرامية السوورية والعربية المخرج المبدع (حاتم علي)، أول أمس الجمعة 29 ديسمبر، ولعلنا نتذكر الراحل العظيم بقوة الآن في ظل الأحداث الدامية التي تعيشها فلسطين، وهو الذي جسد الكفاح الفلاحي الفلسطيني في ملحمته الرائعة (التغريبة الفلسطينية).
ويبدو مشهودا أن (التغريبة الفلسطينية) أروع أعمال (حاتم علي) على الإطلاق، حيث تبدو دهشة (التغريبة) الإبداعية في قدرة (حاتم علي) على نقل حياة الفلسطينيين في بيئاتهم المختلفة بأمانة، وبعمل جَسور على أدق التفاصيل، إلى جانب ذكاء خطاب المؤلف والمخرج بلغة امتلكت القدرة على أنسنة الفلسطيني.
وفي نقديته لمشكلات هذا المجتمع الذي ظل يقدم بصورة ذهنية ومعمّقة على الشاشة، ولنتأمل مليا المشاهد الأولى لـ (حاتم على) في (التغريبة)، فبعزف شجي حزين على إيقاع (القانون)، وفي شموخ يرقد الجسد المسجى بعد طوال عذاب، إنه (أحمد أبو صالح الشيخ يونس) والذي جسد دوره الفنان الكبير (جمال سليمان)في ارتجال مذهل.
ولنتأمل مليا أيضا براعة (حاتم علي) بعد أن سلم (أبو صالح) الروح لبارئها، حيث يدخل الأخ الأصغر (على) وقام بدوره (تيم حسن) في واحدة من أعماله الدرامية الناضجة – على صغر سنه آنذاك – ، كان حضر لتوه من عمان التي استقر بها بعد أن جسد الحلم الكبير للعائلة بحصوله على الدكتوراه من أمريكا.
يدخل (حاتم علي) في مشهد يعد الـ (ماستر سين) للمسلسل، ليجتر الذكريات التي عاشها في كنف (أبو صالح) الذي كان يمثل العمود الفقري للعائلة الريفية الفلسطينية الفقيرة، فقد ارتاح المناضل الأسطوري لتوه بعد أن ذاق مرارات الغربة والتهجير كل سني عمره، وعايش الانكسارات والهزائم الكبرى التي سبقت النكبة وما بعدها دون وصول إلى أفق قريب للعودة.
حاتم علي ومشاهد الريف الضائع
لقد عمد المخرج (حاتم علي) ومن اللحظة الأولى إلى تثبيت مشاهد الريف الضائع في الذاكرة التي لم تغاردها حتى الآن، وقد نجح بالفعل في إزاحة اللثام عن تلك السير الحية من البطولات المنسية، والتي روت بدمائها الطاهرة الذكية أرض فلسطين في بواكير الزحف الصهيوني.
في أعقاب (وعد بلفور) اللعين وهبوب الرياح العدائية لـ (الهجاناة) بأفعالهم المشينة التي استهدفت الأرض والناس حتى وقوع النكبة التي انفرط العقد الفلسطيني على أثرها بهزيمة وتراجع الجيوش العربية.
تعالوا معا نسترجع هذا المشهد: يقف الأخ الأصغر (على) أمام جثمان (أبو صالح) بشاربه الأبيض الكث والشال الأبيض الذي يعكس نورانية تلك اللحظة، وفي تلخيص غير مخل يسرد جوانب المأساة محدثا نفسه بمرارة :
(أبو صالح، يا خوي أبو صالح .. أنا على .. أخوك .. أخوك وإبنك ، هسه بدي أقولك إشي : أنا لولاك ما صرت إشي، ياحبيبي يابو صالح، ياحبيبي ياخوي)، ثم يستعرض بصوته تاريخ الأب الروحي للنضال الفلاحي الفسلطيني.
وبأسلوب الرواي يقول في آسى موجع : (رحل الرجل الكبير، وتركني وراءه أتساءل عن معنى البطولة، أخي أحمد، أبو صالح، لم تعلن خبر وفاته الصحف والإذاعات، ولم يتسابق الكتاب إلى استدعاء سيرته وذكر مآثره، وقريبا يموت آخر الشهود المجهولين، آخر رواة المسنيين).
وتتجلى كاميرا (حاتم علي) في رصد نبض الأنين والوجع الذي يسكن قلب (علي) حين أضاف للمشهد السابق قائلا: أولئك الذي عرفوه أيام شبابه جوادا بريا لم يسرج بغير الريح، فمن يحمل عبئ الذاكرة ؟، ومن يكتب سيرة من لاسير لهم في بطون الكتب، أولئك الذين قسموا جسومهم في جسوم الناس.
وخلفوا آثارا عميقة تدل على غيرهم، ولكنها لاتدل عليهم، وللحقيقة فإن كاميرا (حاتم على) مخرج العمل حلقت ببراعته المعهودة لتغوص بليونة خاطفة تحت جلد القضية، وفي عمق هذا الجرح الغائر يفور الدم الفسطيني فواحا برائحة المسك والعنبر.
مخلوطا بطعم المجد والخلود الأبدي لأولئك الذي فنوا في سبيل القضية التي ماتزال تشكل وصمة عار على جبين العرب والعالم إلى يومنا الحالي، وكأنها تعيد من عام إلى عام ووصولا للانتفاضة الثالثة التي تدقت أبواب التارخ معلنة (أسطورة سيزيف) الذي يعاود الكرة من جديد دون جدوى الصعود الهبوط.
(حاتم علي) ومرارة اللحظات المأساوية
ارتعاشات الرعب ومرارة اللحظات المأساوية التي اعترت مجمل القضية تجلت بفضل كاميرا (حاتم علي) في أداء بارع لكل من (باسل خياط – حسن، خالد تاجا – أبو أحمدالشيخ يونس، جوليت عواد – أم أحمد، يارا صبري – فتحية، نادين سلامة – خضرة، قيس الشيخ نجيب -صلاح، مكسيم خليل – أكرم السويدي، سليم صبري – أبو أكرم السويدي، حسن عويتي – أبو عايد).
فضلا عن أداء استثنائي لحورية الدراما العربية نسرين طافش بدور (جميلة) والتي عبرت فيه بصوت شجي عن تلك الأنثى المسكونة بالعفة والعفاف، على رقة حالها وغلبتها على أمرها، مقهورة بتخلف عشيرتها، وبمزاج من عفوية وتلقائية الموهبة التي تفوق سنها وخبرتها – آنذاك – كممثلة شابة.
استطاعت (نسرين طافش) في 4 حلقات فقط أن تبكينا بكاءا حارا يدمي القلوب على تلك الفتاة، رمز فلسطين سليبة الإرادة، ضائعة الهوى والهوية، ناهيك عن عذوبة أداء حاتم على نفسه في دور (رشدي)
المخرج السوري العظيم (حاتم على) الذي رحل عن عالمنا 29 ديسمبر 2020، تاركا كما من الإبداع الذي سيخلده إلى الأبد، ولم يكن (حاتم على) مبدعا فحسب بل هو عراب الدهشة الإبداعية في الدراما السورية على مر تاريخها.
من خلال تقديمه مايزيد عن 50 مسلسلا تنوعت في أهدافها ومراميها، فمن خلف الكاميرا استطاع أن يعزف على أوتار المشاعر الإنسانية بحس مرهف وشاعرية دافئة بروح تواقة إلى الحرية، حرية التأمل والبحث عن مفردات من قلب الشارع ومن بطون الكتب ليصوغ لنا عوالم سحرية عبر صورة فائقة الجودة للحياة.
تارة على المستوى الوطني والاجتماعي والسياسي، وتارات أخرى على جناح (الفنتازيا) التاريخية الغارقة في الخيال الطامح نحو مناطق الروعة في تاريخنا العربي القديم، كم جاءت في روائعه الكثيرة في هذا المجال الذي بدأه عملاقا وانتهى به موثقا مدهشا لتاريخ أمته.
المسلسلات التاريخية قبل (حاتم على)
كانت المسلسلات التاريخية قبل (حاتم على) يتم تصوريها بالاستديوهات الصماء وتأتي بقالب معلَب، لكنه كسرتحاجز النمطية والتخفي وراء الديكور المبالغ فيه لتغطية ضعف النص، واستقطب كبار الفنانين العرب والاستفاد من شعبيتهم وحضورهم في رفع تنافسيتها وأدائها.
وتعاون (حاتم علي) مع كتاب مبدعين مثل (وليد سيف، هاني السعدي، ممدوح عدوان، ريم حنا، وزوجته دلع الرحبي) كون فريقا مميزا برعا في ترتيب أفكارهما فيما يتعلق بالحبكة الدرامية وتصاعد المشهد وتعقيده وطرق الحل وعدم الاستناد إلى أن الدراما تستند إلى قصة واحدة يبنى عليها مسلسل من ثلاثين حلقة؛ فيها من التمطيط والتطويل ما يدعو للملل.
ومن هنا تمكن (حاتم علي) من دمج أكثر من قصة في الموضع وربطها بمتانة؛ حتى تبدو للمشاهد أنه يتابع قصة واحدة بأكثر من مشهد في مسلسل واحد، وهذا ما يبدو ملحوظا الآن في الأعمال التركية التي لا تخلو حلقة من حلقاتها من تصاعد المشهد الدرامي لذروته.
ولو تحدثنا عن الدراما التاريخية الأندلسية، فسيبرز لك على الفور اسم (حاتم علي) الذي أدرك في شبابه المبكر تعطّش شديد من الجمهور العربي لتلك الحقبة التي يجهلها الكثيرون، فقُدم لهم بطريقة مرحة أشبه بالعمل المسرحي بعيدة عن التكلف، مثال ذلك (ربيع قرطبة) فنانون شباب بحيويتهم كاملة.
(حاتم علي).. مشقة كبيرة خلف الكاميرا
تحمل (حاتم علي) مشقة كبيرة في رحلته من خلف الكاميرا حيث كان يقوم بالتصوير في مواقع تاريخية وبيئة طبيعية بسحر المنظر كاملا ومدلولاته؛ ليقدم لنا نصا سهلا ممتنعا؛ لغة سهلة غير مبالغ في فصاحتها قريبة من القلب سهلة البيان مرحة الوقع على المتلقي.
فضلاً عن إشراك فنانين مخضرمين استطاعوا أن يجعلوا المشاهدين يعيشون مع الشخص الحقيقي، وذلك بفضل امتلاكه أدوات صناعة الدراما التاريخية السوريون وأدواته في ذلك: (النص الجيد، الممثلون الأكفاء، والإخراج العبقري، البيئة المناسبة لأجواء الأحداث الدرامية).
بحيث لبت الدراما التاريخية التي صنعها بعينه الخبيرة هموم المواطن العربي المثقل بتفاصيل الحياة المحبط من حاضره المتخوف على مستقبله، فوجد في أعمال (حاتم علي) التاريخية انتصاراته التي أصبحت بمثابة تفريغاً لشحنة الانكسار التي يعيشها.
وربما لأنه لم يجد في الحاضر ما ينفس عنه كربه فتلمس هذا التعطش إلى الانتصار والمجد في قصص التاريخ وحكايات المجد التليد، في طبق درامي جمع بين الرزانة والفخامة وسحر البيان وكوميديا الموقف، دون تكلُّف أو تصنُّع مبالَغ فيهما.
ولم يكن (حاتم على) عاشق الكاميرا بحكم موهبته يتعامل مع أي عمل توثيقي مكتمل الأركان، فمهمة المخرج الدرامى التشويق وجذب الجمهور من خلال استخدام المحسّنات الصوتية والبصرية وبعض الديكور، بل كان سعيه حثيثا ليؤكد لنا في كل مشهد تخيُّل الكاتب لما كانت عليه تلك الحقبة التاريخية من نمط عيش وأسلوب اللباس.
وكيف كانت تدور أحداث تلك الحقب، لكن ليس بطريقة توثيقية، ومن ثم كان ذلك دافعا قويا جداً وراء شريحة واسعة من المتابعين للدراما التاريخية والدينية للانخراط أكثر في صناعتها أو متابعتها، وكثيرا ماتناول في مشواره الكثير من الأعمال التاريخية التي ساعد بها على نشر الثقافة بين مشاهديها، ويكون البطل فيها الفكرة وليست الشخصية.
نقاط مضيئة في مسيرة (حاتم على)
مامضى ليس نقاطا مضيئة فحسب في مسيرة (حاتم على) في مجال الدراما التاريخية، بل هنالك سجل كامل يضعه في مصاف عظماء إخراج الدراما التليفزيونية العربية وفي منطقة الشرق الأوسط بكاملها.
حيث وضع الأسس والمعايير الدقيقية في صناعة هذا الفن حتى أن مخرجي الدراما التركية تأثروا بأسلوبه فائق الجودة، حين اتجهوا مؤخرا إلى إنتاج الدراما التاريخية لتمجيد الدولة العثمانية، بالسير على خطى (حاتم علي) في تمجيده للتاريخ العربي عبر(ثلاثية الأندلس) التي عرض من خلالها سير وبطولات يشهد لها التاريخ الإنساني.
ومن أشهر أعمال (حاتم على) التي تعتبر علامات في تاريخ التلفزيون السوري والعربي (الفصول الأربعة، أحلام كبيرة، أهل الغرام، فارس في المدينة، مرايا، صلاح الدين الأيوبي، عصي الدمع، صراع على الرمال، عمر – وهو أضخم إنتاج تلفزيوني عربي.
فضلا عن (الملك فاروق، قلم حمرة، أهو دا اللي صار، كأنه إمبارح، تحت الأرض، حجر جهنم)، ولوحته الفنية البديعة (العراب)، التي غير بها وجه الدراما السورية بمحاولته الدمج ما بين شكل المافيا الإيطالية المقتبسة من الفيلم العالمي الشهير (العرّاب) وعقلية المسؤول السوري الكبير الفاسد التي يتناولها العمل.
حيث قدم (هارموني) متيناً لمتلازمة السلطة الفاسدة والمال الأسود، بروح الرواية المعروفة لتجميل المشهد الذي لم يكن ينقصه إرخاء ظلّ الفيلم العالمي عليه لتقديم الفكرة عن واقع معقد.
(حاتم علي) ممثل رائع الأداء
ورغم سجله المكدس بإخراج روائع الأعمال الدرامية فائقة الجودة، فقد بدأ (حاتم علي) حياته الفنية كممثل مع المخرج هيثم حقي في مسلسل (دائرة النار)، توالت مشاركاته في الأعمال الدرامية جسد شخصيات مختلفة تتنوع بين الأدوار التاريخية والبدوية إلى الشخصيات المعاصرة بأنماط متعددة،.
ولـ (حاتم علي) لوحات كوميدية مع الفنان ياسر العظمة، فضلا عن أدوارا تلفزيونية ما زالت عالقة في ذاكرة المشاهد العربي في الكثير من الأعمال وقد وصل عددها إلى أكثر من 30 عملًا تلفزيونيا.
وكان أهمها (هجرة القلوب إلى القلوب) للمخرج هيثم حقي، و(الخشخاش) لبسام الملا، و(قصة حب عادية جدًا) لمحمد عزيزية، و(الجوارح) لنجدة اسماعيل أنزور (فنتازيا تاريخية)، و(العبابيد) لبسام الملا، ومن الأدوار التي برز فيها دوره في (التغريبة الفلسطينية)، ومسلسل (العراب) بجزئيه (نادي الشرق، وتحت الحزام).
عرف (حاتم علي) بتهذيبه الشديد وصوته المنخفض، مجموعتين قصصيتين هما: (ما حدث وما لم يحدث، وموت مدرس التاريخ العجوز)، أما على صعيد عمله في كتابة النصوص الدرامية فقد ألف فيلم (زائر الليل) الذي أخرجه محمد بدر خان.
كما كتب مسلسل (القلاع) الذي أخرجه مأمون البني، وألف فيلم تلفزيوني بعنوان (الحصان) أخرجه بنفسه، وشارك في كتابة فيلم (آخر الليل) مع الكاتب عبد المجيد حيدر، وفي عالم المسرح له عدة مسرحيات بالتعاون مع المخرج المسرحي (زيناتي قدسية) بعنوان (الحصار).
وكما كتب (حاتم علي) مسرحية (حكاية مسعود) التي أخرجها (زيناتي قدسية) لصالح فرقة القنيطرة، وكتب أيضا في المسرح (مات 3 مرات، والبارحة – اليوم – وغدًا، وأهل الهوى) .. رحم االله المخرج العظيم الراحل بجسده باقيا بروحة التواقة للحرية، وخالدا حتى النهاية بروائع أعماله المذهلة (حاتم على).