بقلم النجم الكبير: جمال سليمان
استقبلتني أمي متفاجئة بما أحمل فأخبرتها بما جرى فكانت فرحتها تفوق فرحتي وسألتني أن تضع لي الطعام لأنني خرجت من البيت بلا إفطار وأصبح وقت الغداء. فأخبرتها أنني لا أشعر بالجوع وأريد أن أغلق باب الغرفة لأقرأ السيناريو دون أن يزعجني أحد من أخوتي الثمانية.. دخلت الغرفة و أوصدت الباب و فتحت السيناريو و كانت المفاجأة الصادمة.
رغم أصله العربي إلا أن الشخصية الموكلة لي لا تنطق كلمة واحدة بالعربية، فـ (دوف) الضابط الشاب في الجيش الإسرائيلي هو أصلا طفل فلسطيني اسمه خلدون وهو بكر أبويه الشابين الفلسطينيين.
ولم يكن قد تعدى الأشهر الأولى من عمره عندما قصفت عصابات الهاغاناه الصهيونية بالتواطؤ مع قوات الاحتلال البريطاني في آواخر نيسان عام 1948 مدينته ومدينة أهله وأجداده (حيفا) بعد أن أغلقت كل الشوارع ما عدا تلك التي تفضي إلى الميناء.
كانت خطة لئيمة لإفراغ المدينة من سكانها، تركته أمه في سريره الصغير وخرجت تبحث عن الأب في وقت كان الأب يكافح تحت القصف كي يصل إلى بيته حيث زوجته و طفله.
إلا أن كثافة القصف وتدافع أمواج البشر الهاربين من الموت حالت دون عودة الأبوين إلى منزلهما و طفلهما، ولم يلتقيا إلا في الميناء حيث كانت الزوارق حاضرة في انتظار أهل (حيفا) كي تحملهم إلى صيدا و صور في جنوب لبنان.
عام 1968 أي بعد عشرين عاما سمحت إسرائيل للفلسطينيين بزيارة تفقدية لمنازلهم ومن بقي من أهليهم في فلسطين.
لم يكن الأب راغبا في مواجهة الماضي لكن الأم أصرت على أن تقوم بهذه الزيارة علها تعرف مصير طفلها الرضيع الذي تركته في مهده الأبيض قبل عشرين عاما، وكان لها ذلك.
عندما وصل الأبوان إلى (حيفا)
عندما وصل الأبوان إلى بيتهما في (حيفا) اكتشفا أن الوكالة اليهودية التي استولت على بيتهما أسكنت فيه سيدة بولونية يهودية أقامت فيه مع زوجها الذي قتل فيما بعد أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
ليس هذا وحسب، بل إنها كانت سعيدة عندما قدمت لها الوكالة اليهودية الطفل إلى جانب البيت، عندما دخل الأبوان إلى البيت وجدا أن لا شيء تقريبا قد تغير به، نفس الأثاث و نفس و الألوان، كل شيء كما تركاه عام 1948.
وفوق ذلك علما أن طفلهما الذي بقي في مهده لنهما لم يتمكنا من العودة إليه ما زال حيا، وأن هذه السيدة التي لا تنجب قد أخذته كما أخذت البيت، وربته إلى أن أصبح شابا في العشرين من عمره بعد أن غيرت اسمه من خلدون إلى (دوف).
لم يكن (خلدون) أو (دوف) في المنزل ساعة وصولهما.. انتظر الأبوان عودته بقلق وشوق، لكن انتظارهما انتهى بصدمة كبيرة عندما عاد ابنهما و هو في لباسه العسكري الإسرائيلي، لا يتكلم العربية بل العبرية و الإنكليزية.
لم يبق من فلسطينيته إلا تلك الملامح السمراء، و الصدمة الأكبر أنه عندما قابل أبويه الفلسطينيين لم يعترف بأبوتهما له، واعتبر أن السيدة التي ربته هي أمه الحقيقية.
وهنا نشأ بين الأب والأبن جدل أشبه بمرافعات إدانة رفعها كل منهما في وجه الآخر، الأب أدان ابنه لأنه يخدم في الجيش الإسرائيلي، و الأبن أدان الأب لأنه لم يفعل ما كان يتوجب عليه فعله كي لا يتركه وحيدا في المهد و تأتي مستوطنة يهودية وتحتضنه وتربيه.
جدلية جعلت هذه الرواية من أكثر الأعمال الأدبية الفلسطينية إشكالية وفرادة.
الموضوع بالنسبة لي كان آسرا، والفرصة عظيمة، إنها فرصتي الأولى بعد التخرج، والفرص كانت عزيزة حتى بالنسبة لأولئك الذين قطعوا أشواطا و أثبتوا حضورهم.
ولكن كيف لي أن أجسد هذه الشخصية وأعبر عن كل تلك المشاعر وأرافع بكل تلك الأفكار باللغة الإنكليزية التي كانت معرفتي بها بدائية للغاية؟.
(فواز) كان مثقفا موسوعيا
لم أنتظر اليوم التالي، ففي نفس اليوم ذهبت للمسرحي الكبير الراحل (فواز الساجر) وكان يومها أمين سر نقابة الفنانين وأستاذي في المعهد العالي للفنون المسرحية وعرضت عليه ورطتي.
(فواز) كان مثقفا موسوعيا وصاحب رأي ومشورة سديدين، نصحني أن أذهب لراحل آخر كان علما من أعلام المشهد الثقافي والمعرفي السوري وأستاذ لغة إنكليزية شهير هو الراحل (برهان بخاري).
قابلت الراحل (بخاري) في معهد اللغات الشهير يومها (لينغوا) الواقع في حي (أبي رمانة) الراقي، استقبلني بترحاب واستمع لقضيتي التي رويتها له بكثير من القلق فسألني: متى التصوير؟
أجبته بعد شهر من الآن، فأجابني بثقة إن الوقت كاف إذا كنت مستعدا لمقابلته كل يوم ساعتين، في الحقيقة كنت مستعدا للنوم في المعهد مقابل أن أخرج من هذه الورطة.
كان (البخاري) أستاذا رائعا، إلا أنه لم يسعى إلى تعليمي كيف أقول الكلام باللغة الإنكليزية فقط، بل أيضا كيف أمثل الشخصية، إلا أن مفهومه عن التمثيل كان مسرحيا قديما، يقوم على المبالغة والتفخيم وهو مالم أكن أريده إطلاقا.
الاحتفاظ بحماس (الأستاذ بخاري)
ورغبة مني بالاحتفاظ بحماس (الأستاذ بخاري) واهتمامه سايرته في كل ملاحظاته وتعليماته، وفعلت كما يريد بالضبط، لكن عندما كنت أعود للبيت كنت أعيد تدريب نفسي على أداء أكثر حياتية و واقعية.
كانت مهمة شاقة إلا أنني مع الوقت كنت استمتع بها وأكتسب مزيدا من الثقة بنفسي.
بعد شهر عاد فريق العمل من لبنان إلى دمشق وكانت الحرب الأهلية اللبنانية في أوجها وزاد من مأساتها الاجتياح الإسرائيلي الذي صعد شمالا حتى وصل بيروت.
وبالكاد وبكثير من المغامرات استطاع فريق العمل استكمال تصوير الجزء المقرر تصويره في لبنان ليستكمل تصوير الجزء الأخير من الفيلم، والذي يدور في بيت الأسرة الفلسطينية في حيفا حيث ستحصل المواجهة بين الابن وأبويه.
أذكر أنني ذهبت إلى البلاتوه دون أن أحمل السيناريو معي مما أثار استغراب المخرج ومساعديه، لم أكن اعرف يومها أن ممثلي السينما لا يحفظون السيناريو عن ظهر قلب كما يفعل الممثل المسرحي.
وأنهم يصورون أدوارهم في لقطات كثيرة يفصل بينها وقت طويل للتحضير يتيح للممثل وقتا كافيا للاستعداد للقطة التالية.
كانت السينما بالنسبة لي سحرا، ولكني لم أدخل يوما إلى غرفة الساحر السرية، كانت المرة الأولي التي أرى فيها الكاميرا السينمائية وأسمع كل تلك المصطلحات التي تدور بين مدير التصوير والمخرج والشخص الذي يركب الشريط الخام على الكاميرا.
إنها بالفعل فن وعلم ومهارات تقنية كثيرة تتفاعل لتنتج سحرا.
سار التصوير بيسر، أذكر أنني كنت شديد التأهب، ولكني غير مرتبك، إنها فرصتي الأولى، ولكنها أيضا امتحاني الأول في عالم الاحتراف.
المخرج أعطاني الكثير من الثقة التي ساعدتني على التركيز على ما أقوم به رغم غرابة كل شيء حولي، وبعد انتهاء التصوير أعطوني باقي أجري مضافا إليه ألف ليرة لبنانية أمر بها المخرج مكافأة لي على أدائي وتحضيري المكثف.
(عائد إلى حيفا) لم يكن فرصتي الأولى في عالم الاحتراف فقط بل كان أيضا أول فيلم روائي فلسطيني، وما زال حتى يومنا هذا يعرض في مناسبات مختلفة في مدن العالم.
شكرا قاسم حول على إعطائي فرصتي الأولى.
شكرا قيس الزبيدي على ترشيحي لنيل لتك الفرصة.