بقلم النجم الكبير: جمال سليمان
عندما تخرجت الدفعة الأولى من منتسبي المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1981 وكنت من عدادها، كان الإنتاج التلفزيوني السوري محدودا جدا، أما الإنتاج السينمائي فقد كان أكثر محدودية
.كما أن المؤسسة العامة للسينما، وهى مؤسسة حكومية تنتج في سنة الخير فيلما واحدا، أما القطاع الخاص فقد كان ينتج حوالي فيلمين، غالبا ما يكونا دون المستوى.
وفي هذين المجالين الضيقين كان الزحام شديد والتنافس على فرصة العمل بين نجوم ذاك الزمن قاسيا جدا فما بالك بالقادمين الجدد!.
إقرأ أيضا : جمال سليمان : لا يوجد كاتب عربي ارتقى إلى مستوى كتابات وليد سيف في الأعمال التاريخية
أما الحركة المسرحية – متمثلة بالمسرح القومي والمسرح التجريبي – التي كانت تعيش آواخر فصول مجدها فكانت الفرص فيها ارحب نسبيا، وخاصة بالنسبة للشباب.
لم يكن استقبال تخريج الدفعة الأولى من المعهد حارا، فقد نظر لنا الوسط الفني بعين من الريبة وعدم الترحاب.
البعض شعر أن دخول ممثلين أكاديميين إلى المشهد هو انتقاص من مكانتهم باعتبار أنهم صعدوا، ووصلوا إلى ما وصلوا إليه عبر التجربة المديدة، خاصة في المسرح.
وليس عبر الدراسة الأكاديمية، والبعض رأى أننا مجرد قراء كتب نظرية تنقصنا التجربة، وربما الموهبة أيضا، ولا يرتجى منَا الكثير، إنها سنة الحياة بين القائم المستقر، والجديد القادم، وخاصة إذا كانت الفسحة ضيقة.
السينما كما أحببتها
بالنسبة لي وأنا الشاب الخريج الفقير، كانت السينما كما أحببتها في أفلام (فيللني، وكلود لولوش، وبرغمان، وسيدني لوميت) بعيدة المنال.
وقائمة نجومي المفضلين لم تقتصر على نجوم هوليوود فقط، مثل (براندو، وهنري فوندا، وجيمس دين، وداستن هوفمان، وأنتوني كوين).
بل شملت نجوم فرنسيين مثل (إيف مونتان، وجاك بريل)، وإنجليز مثل (لورانس أوليفييه، وجون جيلجود، وبيتر أوتول)، و طليان مثل (مارسيلو ماستورياني).
وروس مثل (باندرتشوك، وسموكتونوفسكي) ممثلين عظام تسرح مواهبهم الفذة في سهول و جبال من الإبداع، والفرص التي تثير شهية أي ممثل شاب و تثير فيه الإحباط أيضا لأنها فرص يعز شبيهها في بلده.
مقابلة أسعد فضة
وباعتبار أن التلفزيون بإنتاجه القليل لم يكن المجال الذي أتوقع لنفسي فيه فرصا، كما لم تكن النجومية شيئا يداعب خيالي، كنت أريد أكون مسرحيا ناجحا و فقط.
إلا أن الأقدار شاءت أن تكون تجربتي الاحترافية الأولى لا مسرحية ولا تلفزيونية بل سينمائية!.
وعندما أقول احترافي فأعني بذلك أول عقد وضعت توقيعي عليه، وأول أجر تقاضيته مقابل تمثيلي للدور الموكل لي.
كان قد مضى على تخرجي أسابيع قليلة، عندما علمت أن استاذي في المعهد العالي للفنون المسرحية المخرج والممثل الكبير (أسعد فضة) قد أرسل لي كي أراجعه في مكتبه.
وكان يومها مديرا للمسارح والموسيقى، ومن بيتنا في (بستان الحجر إلى مديرية المسارح والموسيقى في ساحة النجمة مرورا بمحطة الحجاز كانت خطواتي تسبقني لأنني تخيلت أن الأستاذ أسعد ربما يريدني في عمل مسرحي من إخراجه.
قيس الزبيدي
عندما وصلت مكتب الأستاذ الذي لم يدعوني للجلوس بل أبلغني سريعا بأن (قيس الزبيدي) يريدني أن أذهب إليه في مكتبه.
والأستاذ (قيس الزبيدي) سينمائي عراقي كان ككثير من الشعراء والموسيقيين والفنانين والسياسيين العراقيين اليساريين المناهضين لحكم البعث العراقي يعيشون في سوريا ولبنان.
وكثيرون منهم يعمل مع التنظيمات الفلسطينية خاصة اليسارية منها، والتي كان لها مقرات في دمشق، وحضور وأوزان في الحياة الفكرية والثقافية السورية.
كنت أعرف أين سأجد الأستاذ (قيس الزبيدي)، لقد كان مقره في دائرة الإعلام التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية في ساحة (عبد الرحمن الشهبندر) أحد رموز الحركة الوطنية السورية.
كنت قد زرت الأستاذ (قيس الزبيدي) في مكتبه هذا مرات عدة أثناء تحضيرنا لمشروع تخرجنا.
إقرأ أيضا : مين قال .. روعة جمال سليمان في الدراما الاجتماعية الهادفة
لم يكن (قيس الزبيدي) سينمائيا و حسب، بل دارسا عميق المعرفة بالمسرحي والشاعر الألماني الكبير (برتولد برشت)، ومترجما ضليعا لأعماله التنظيرية.
وباعتبار أن مشروع تخرج دفعتي كان مسرحية برشت الشهيرة (السيد بونتيلا وتابعه ماتي)، فقد كلفني الأستاذ (أسعد) بتحضير المادة المرجعية للعرض.
وكان الأستاذ (قيس الزبيدي) أغنى مصدر للمعلومات، فلديه صور العرض الذي قدمه برشت في مسرحه (البرلينر انسامبل)، وكذلك الموسيقى التي كتبها للعرض الموسيقي الألماني (بول ديسو).
والديكور المسرحي الذي صممه (غاسبر نيهر)، وملاحظات إخراجية لبرشت، ومواد أخرى شكلت ملفا مرجعيا للعرض الذي سيقدمنا للجمهور.
قاسم حول
عندما دخلت مكتب (قيس الزبيدي) لم أجده وحده، بل كان بصحبته رجلا أسمرا ضئيل الجسد، رحب بي (قيس الزبيدي)، وقال للرجل الأسمر: (هذا هو الشاب الذي حدثتك عنه)!.
تأمل بي الرجل الأسمر بعينيه الواسعتين ثابتتي النظر، ثم قال (قيس الزبيدي): (هذا صديقي (قاسم حوَل)، وهو مخرج سينمائي يصور فيلما جديدا مأخوذا عن رواية غسان كنفاني (عائد إلى حيفا).
وهو يبحث عن ممثل موهوب ذي ملامح عربية، وفي مطلع العشرينات من عمره، وأنا رشحتك له).
قفز قلبي من مكانه، وقبل أن أشكره سألني (قاسم حوَل) بجدية واقتضاب: (تتحدث الإنجليزية؟)، يومها كنت من أسوأ طلاب دفعتي باللغة الإنجليزية.
ولكن لا أعرف كيف تملكتني الجرأة لأقول (نعم أتحدثها) توقعت أن هناك بعض الجمل الحوارية بالإنجليزية، ولا أريد أن أفقد الفرصة.
فالمخرج عربي يبحث عن ممثل ذي ملامح عربية، والكاتب عربي، ولابد أن الفيلم سيكون كذلك، لحظات قليلة ثم سألني المخرج و لكن بالإنجليزية (Fluently): لم أكن قد سمعت بهذه الكلمة من قبل و لكن أسعفني حدسي و توقعت أن معناها: (بطلاقة؟) فأجبت بسرعة وثقة (yes)!
أول عقد وأول أجر
لم يمض وقت طويل حتى كنت في غرفة أخرى مع مدير الإنتاج (محمد سالم) – رحمه الله، أوقع أول عقد، حيث لم أوقع من قبل عقد من أي نوع في حياتي، أذكر أن أجري كان خمسة آلاف ليرة لبنانية.
وكان هذا يعادل يومها حوالي ألف ومائتين وخمسين دولارا، وهو مبلغ جعلني أتساءل هل أنا بعلم أم بحلم!.
وأنا الذي أتيت للمقابلة سيرا على الأقدام، لأنه لم يكن في جيبي أي نقود لأركب أي وسيلة مواصلات!، وقعت العقد وأخذت سلفة مقدارها خمسة مائة ليرة، وتأبطت السيناريو وأسرعت الخطى.
في الطريق من ساحة (الشهبندر) إلى بيتنا في (بستان الحجر) لابد من المرور بساحة (المحافظة) التي منها يبدأ شارع (الصالحية) الذي كان أيامها بالنسبة لدمشق بمقام (الشانزيليزيه) بالنسبة لباريس.
حيث تتراص محلات بيع الألبسة والأحذية واحدا بكتف الآخر، ويحلو للشباب والصبايا أن يتمشوا به يتأملون واجهات محلاته الأنيقة والبراقة.
بعضهم يدخل ويشتري، ومعظمهم يحلم بيوم يستطيع فيه أن يفعل ذلك، من ناحيتي كنت من النوع الثاني، من الأكثرية التي تحلم!، لطالما مررت به ولطالما وقفت أما واجهات محلاته.
إقرأ أيضا : الماضي الأسود .. (ظل) يجمع جمال سليمان بعبد المنعم عمايري !
ولطالما تمنيت أن يكون في جيبي ما يمنحني حق دخول أحدها والاستمتاع بالاستقبال المزركش الذي يتقنه الباعة فيها، وكأن كل زبون هو سلطان (بروناي)، والخروج منها بكيس أو اثنين.
وهكذا قررت، وقد أصبح بمقدوري أن أجعل أمنيتي حقيقة فدخلت أكثر من محل، وأشتريت لنفسي بنطالا، وقميصا، وحذاء، ولوالدتي اشتريت معطفا أسود اللون بدل ذاك الذي ارتدته لسنوات وسنوات.
وهكذا لم أعد إلى بيتنا سالما فقط، وإنما غانما أيضا، في يميني الأكياس الأنيقة من شارع (الصالحية)، وفي يساري السيناريو وفي جيبي أكثر من نصف السلفة التي قبضتها.
استقبلتني أمي متفاجئة بما أحمل!، فأخبرتها بما جرى فكانت فرحتها تفوق فرحتي، وسألتني أن تضع لي الطعام لأنني خرجت من البيت بلا إفطار، وأصبح وقت الغداء؟! فأخبرتها أنني لا أشعر بالجوع.
وأريد أن أغلق باب الغرفة لأقرأ السيناريو دون أن يزعجني أحد من أخوتي الثمانية، دخلت الغرفة، وأوصدت الباب، وفتحت السيناريو، وكانت المفاجأة الصادمة!.
غدا نستكمل باقي التفاصيل..