بقلم: محمد شمروخ
تتوارد لدى هذه الخواطر كلما سمعتها تشدو بها، فإذا بها ترسم لوحة عبقرية، لا بل تستدعى شخصيات من لحم ودم لتؤدى مشهداً تمثيليها متقنا تفرضه نجاة على شاشة الخيال، ولهذا كلما سمعتها تغنيها اطرح هذا السؤال وليكن ما يكون: عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة.
هل من مقارنة بين الثلاثة؟!
ربما كان طرح السؤال نوعا من العبث ولعل البعض يعتبره اجتراء، فعبد الوهاب حقق مكانة في عالم الموسيقى والغناء، لم يكد يلحق به غيره كما وكيفا، أما عبد الحليم، فلا يدانيه مطرب عربي في مكانته في جيله او فيما بعد جيله!.
ولكن لما المقارنة مع نجاة؟!
الأمر ليس فيه مقارنة بالمعنى الدقيق. ولكن يمكننى ان أزعم أن نجاة تفوقت على أستاذها الكبير موسيقار الأجيال (عبد الوهاب)، وكذلك على زميل جيلها العندليب عبد الحليم حافظ، عندما غنت (لا تكذبي).
لقد غنى الثلاثة الأغنية نفسها بنفس الكلمات لكامل الشناوي واللحن لـ (عبد الوهاب).
ومع مكانة (عبد الوهاب) واقتداره، ومع تمكن عبد الحليم وعمق أدائه، إلا أن نجاة كانت الأعلى بين الثلاثة في هذه الأغنية!
إقرأ أيضا : نجاة الصغيرة .. سيدة المشاعر الدافئة
لقد كان هذا الإحساس بتفوق (نجاة) يؤرقني كمستمع وهابي النزعة كان ومازال وسيظل مغرماً بالوهابييات كلها بداية من (فيك عشرة كوتشينة)، وحتى (دعاء الشرق)، أما عبد الحليم فقد كان الوكيل الحصري لشتى أشكال المشاعر والمتحدث الرسمي العاطفي!
لكن مع كل هذا، كان أداء (نجاة) أكثر تعبيرا في تلك الأغنية التى قيل إنها كتبت فيها شخصيا، حيث كان الشناوي يهيم بها عشقا حتى الوله!.
لقد سمعناها بأصوات الثلاثة، وما زلنا نسمعهم يشدون (لا تكذبي)، فبربك خبرنى: من الأكثر تعبيرا وعمقها وتجسيدا لمعانى الأغنية وما كان من التجربة المريرة التى تتحدث عنها؟!
كان أداء (نجاة) عبقريا
لقد كان أداء (نجاة) عبقريا في هذه الأغنية ولقد كان التحدى الأكبر لـ (نجاة) والذي أراها قد أتت به بمعجزة غنائية، هو أن الكلمات والموقف ومشاعر الصدمة المتدفقة في كلمات الأغنية.
كانت تعبر أحاسيس عن رجل خانته حبيبته التى ضبطها متلبسة بالخيانة في موقف محدد وليس مجرد كلام عام عن الخيانة يصلح للجنسين يمكن أن يغنيه مطرب أو مطربة
إقرأ أيضا : تعرف على الكوبليه الذي أخذته (أم كلثوم) من أغنية (نجاة)!
لكننا مع تأكدنا أن الموقف يعبر عنه ذكر يتحدث جرحه من أنثى خانته، إلا أن أداء (نجاة) تفوق مع ان الأغنية رجالى وليست حريمي، بل هى تمقت الحريمي وتزدريه وتصور الحبيبة الغادرة كامرأة في أبشع صورة للمرأة عندما تخون.
وهذا لا لبس فيه في لغة خطاب الأغنية (عيناك في عينيه في شفتيه في قدميه ويداك ضارعتان ترتعشان من لهف عليه).
وهكذا فالحديث موجه من رجل مصدوم إلى امرأة خائنة، فالأولى ان تليق هذه الأغنية من مطرب!.
لكن عندما غنتها (نجاة) وكان هذا قبل تصوير الأغنية ضمن أحداث فيلم (الشموع السوداء) وجدنا أنفسنا نعيش الموقف بكل مشاعر الصدمة من الخيانة، ونلمس بأيدينا جروح الشاعر العاشق ونبكى معه وعليه.
لكن مع صوت (نجاة) التى جسدت بصوتها العبقرى المشهد بكل ما فيه من مباغتة وطعنة غدر وذهول وانكسار وآلام وبكاء ويأس وتعذيب للنفس عقاباً على فرط ثقة العاشق في معشوقته الخائنة!.
لكن (نجاة) الأنثى، لها صوت يمتاز بأنه ذو مداخل سرية إلى الروح يسرى فيها كالدم في العروق، وسرعان ما تتسلل نبراتها إلى أعماقك وتتمكن من الدخول الناعم الدافئ بصوت ثلاثى الأبعاد!
البعد الرابع في صوت (نجاة)
وبسبب نجاح الأغنية المبهر، إذا بـ (عبد الوهاب) الذي أضاف بألحانه البعد الرابع إلى صوت (نجاة)، يعيد غنائها بصوته وبعزفه هو نفسه على العود، لكن الأداء الوهابي لم يؤثر قيد أنملة على أن الأغنية قد صارت تاريخا وحاضرا ومستقبلا، نجاتية الهوى والهوية!
وإذا بعد الحليم حافظ – هو كمان – فيما يبدو أنه قد تملكته الغيرة الفنية، يغنى (لا تكذبي)، فكأنه رأى أنه أولى بها، (وهو من هو في التعبير عن الانكسار والدليل: تخونوه).
لكنه لم ينافس (نجاة) التى أغضبها فعله هذا بلا مبرر، وكانت محقة في ذلك.
وحاولت مرارا تفسير التفوق النجاتى، ولعل اعتقاداً رسخ لدي بأنه بسبب ذيوع قصة قصيدة (لا تكذبي) بأن (نجاة) نفسها كانت هى بطلة الموقف الذي تولدت عنه القصيدة الشناوية.
إقرأ أيضا : سرعدم ظهور أغنية “خلي للحزن نهاية” لنجاة
لكن ربما كانت هذه القصة ضربا من الخيال أو ذكرت على سبيل النميمة العاطفية أو الثرثرة الشعورية أو ربما الدعاية الفنية.
غير أنه على أي حال، فإن (كامل الشناوى) نفسه كان شخصية حادة المشاعر في مواقفه وكتاباته وقصائده، الوطنية والعاطفية في الحب والكراهية والسخرية.
كذلك مشاعره دائما جياشة ومتدفقة في كل شيء، الضحك، المرارة، التدخين، الصداقة، الإنفاق، العشق، حتى أنه نظم قصيدة في فتاة جميلة تعمل بكافيتريا فهام بها عشقا ونظم قصيدته التى ختمها بقوله: “فافتر ناظرها ومبسمها.
وقصيدتى مازلت أنظمها..
وأظل طول العمر أنظمها!
مع أننا على ثقة أن (كامل الشناوى) لم ير، أو حتى اهتم ثانية بأن يرى، هذه الفتاة المجهولة ربما مع مغادرته الكافيتريا بعد دفع الحساب!
لكن مثل هذه المواقف قد أخرجت لنا أرق القصائد التى كتبها (الشناوى) ومنها عدة قصائد تحولت إلى أغنيات وطنية وعاطفية لأم كلثوم وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ.
لكن ظلت (لا تكذبي) هى درة التاج بصوت (نجاة) تثبت في كل مرة تذاع فيها الأغنية أنها فاقت الجميع بمداخل صوتها السرية، والتي مكنت لها أن تحفر مجراها المتدفق بين عمالقة الموسيقى والغناء في العصر الذهبي للفن!