بقلم: مايا إبراهيم*
جميل أن يعود المسرح إلى الواجهة لطرح قضايا إجتماعيّة ومصيريّة تعالج واقعنا، وتكشف عن المستور وتحاول تقديم حلول للأزمات، والأجمل أن يعود مسرح الأخوين فريد وماهر الصبّاغ بمسرحية (مش بس عالميلاد).
وذلك بعد توقفّ دام قرابة خمس أعوام أو أكثر ، ذلك التوقفّ القسري بسبب الكورونا، وبسبب بعض الأحداث المحليّة التي أعاقت العديد من الأمور في لبنان .
عودة الأخوين الصبّاغ كانت من خلال العرض المسرحي (مش بس عالميلاد)، والتي عُرضت على مسرح جورج الخامس/ أدونيس ، وهى مسرحية قام الأخوان بتأليفها وإخراجها وتمثيلها.
وقد حضر حفل افتتاح عروض (مش بس عالميلاد)، عدد من السياسيين والأدباء والفنّانين ونخبةً من الإعلاميين، وقد حظيت أنا شخصيًا برفقة الفنّانة القديرة (جورجيت صايغ).
تلك الفنانة القديرة التي تابعت العرض المسرحي بشوقٍ وشغف وحنين كبير للمسرح فهي إبنة مدرسة الرحابنة.
وأسرّت لي القول أنّها تمنّت لو أنّ صحّتها تساعدها على التمثيل مع فريق المسرحيّة فإنّها لن تتردّد في ذلك فالأخوين (الصبّاغ) قصّة كبيرة من الإبداع كما ذكرت حرفيًا، إذ بنظرها كانت المسرحيّة رائعة وممتعة .
المسرحيّة الاجتماعيّة الكوميدية (مش بس عالميلاد) تستمرّ عروضها حتّى نهاية شهر ديسمبر الجاري.
وتمّ تقديمها من خلال فريق عمل مسرحي متكامل مبدع بدايةً من (الأخوين الصبّاغ) برفقة البيانو عدد اثنين أحدهما أبيض وآخر أسود يعكسان التناقضات ( contrasts) إلى أصغر مشترك في العمل.
اجتمعت فيه الخبرة والموهبة فتحقّق الإبداع والجمال في كلّ عناصر العمل المسرحي، نصًّا، إخراجًا وتمثيلًا، إضافةً إلى الديكور والإضاءة والملابس والرقصات والمؤثرّات الصوتيّة والضوئيّة وغيرها من العناصر الفنّية الجميلة التي حقّقت للعمل المسرحي التكامل والجاذبيّة التي أوصلت الرسالة بِيُسرٍ وسهولة .
(مش بس عالميلاد).. لم تكن معقّدة
قصّة مسرحيّة (مش بس عالميلاد)، لم تكن معقّدة ، فقد قُدّمت بكلّ بساطة ، فهى ضيعة ما في مكانٍ ما.
تميّزت بأنّها في ليلة عيد الميلاد تظهر نجمة الميلاد فوقها، وقد حباها الله بهذه النعمة، فيأتيها السوّاح من كلّ مكانٍ لمشاهدة هذا المنظر الأخّاذ والاستمتاع بأجواء العيد في هذه الضيعة.
وكإنّها تلميح مصغّر عن لبنان بأنّه جنّة الله على الأرض، ولكنّنا لم نصن هذه النعمة فالجميع يتغنّى بجماله أمّا نحن فلا تقدير لِما نملك، نحن كأهل هذه الضيعة مختلفون، متقاتلون، متنافرون، متصارعون!
إقرأ أيضا : اليوم (مش بس عالميلاد) تعيد الأخوين (فريد وماهر صباغ) للمسرح الغنائي اللبناني
لكنّهم في فترة عيد الميلاد يتّحدون، يتآلفون، يتحابّون وينسون أحقادهم ويحتفلون بالعيد فنجمة الميلاد توحدّهم حتّى الهزّة القويّة لم توقظهم إلّا في لحظتها إنتصر الحبّ بشكلٍ مؤقّت .
أهل الضيعة يتصارعون ويتقاتلون ويختلفون على كلّ شيء حتّى أتفه الأمور، الاختلاف لمجرّد الإختلاف، فصراع العائلتين جعل التناحر والاختلاف على كلّ شيء حتّى وصلت بهم التحكّم بقلبين وتحديد مصيرهما لمجرّد كلّ قلب ينتمي لعائلة.
وبما أنّ الإختلاف حول الزينة أيضًا فكلّ عائلة تنظر للمسيح نظرتها الخاصّة، هنا المسيح إبن المغارة وهناك المسيح إبن الإسطبل لذا وجب اقتسام الضيعة بالسواتر الحديديّة ورفع السلاح عند تعدّي أيٍّ من الطرفين.
فالبلديّة لعائلة والمخترة للعائلة الأخرى مصير هذه الضيعة تتحكّم به عقليّة الحجّار والنجّار، فصراعهما منذ أجيال التناحر والاختلاف بينهما على كلّ شيء دام هذا الخلاف 70 عاماً وأكثر حتّى الجيل الشبابي الذي ادّعى رفضه ل عقليّة الأهل.
وجدناهم يتوارثون الخلاف بعد موت الأهل ويتجدّد الخلاف من جديد وكأنّ الرسالة تقول لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهليّة.
(مش بس عالميلاد).. قدّم الواقع
والجميل في هذا العمل المسرحي (مش بس عالميلاد)، أنّه قدّم الواقع بشكلٍ كوميدي محبّب ، فرغم العتمة والإفلاس الاقتصادي وكلّ الظروف المحيطة، فإنّ الأخوين الصبّاغ صبغو العتمة التي يعيشها اللبنانيون ليس فقط باللون الأرجواني بل بألوان قوس قزح ألوان الفرح في هذا الزمن القاتم.
يقال لكلّ امرئٍ من اسمه نصيب وهذا ما ينطبق على (فريد وماهر الصبّاغ)، ففريد الفريد في عمله وماهر الماهر في عمله والصبّاغ علبة الألوان الزاهية التي تحوّل الواقع للوحة فائقة الروعة.
فمنحوا الناس الأمل والفرح من خلال صورة كوميديّة من قلب الواقع، لامستنا بالفعل، فالواقع المرّ هو حقيقتنا، إلّا أنّ هذه الحقيقة المُرّة قُدمّت إلينا كجمهور بأسلوب كوميدي محبّب.
حتّى تلك القفشات الاجتماعيّة والسياسية قُدّمت بأسلوبٍ مَرِن لا يُسيء إلى أحد ولا يتجاوز المقبول، فجاءت المسرحية بقالب إجتماعي واقعي وزرعت الأمل ودعت إلى السير نحو الإتفاق والسلام وإفشاء المحبّة.
وإلى التآلف الدائم وليس التآلف المؤقت، وإلى استغلال لحظة الحبّ والوئام لتصبح لحظة دائمة طوال العام.
(مش بس عالميلاد).. عُقد دراميّة جذّابة
مسرحيّة (مش بس عالميلاد)، بكلّ ما فيها من عُقد دراميّة جذّابة وموسيقى ورقصات إستعراضيّة وازداد جمالها بديكورها والإضاءة المعبّرة والملابس الجميلة حقّقت النجاح وأوجدت عناصر الجذب.
طرّزها جمالية الأداء من الفريق المتوافق والمنسجم مع بعضه فجعلت الوقت يمضي دون أن نشعر به ، فهذه الإنسيابيّة في الأداء والطرح والإخراج والفنّ الأنيق تدهشك وتأخذك إلى أماكن جميلة وتدعوك إلى السمو نحو السماح والمصالحة .
كنت أرى في الضيعة (لبنان) بحجم الضيعة، فنحن هكذا نختلف ونتصارع وعلى أمور تافهة أحيانًا، فهل نرمي تلك الإختلافات وتلك الصراعات خلف ظهورنا ونتطلّع إلى مستقبل مشرق نتماسك فيه لنبني الوطن.
لعلّ نجمة الميلاد ترتقي فعلًا فوق أرضنا، فتنير سماءنا وتعيد لنا البريق الذي نكاد نفقده، فلبنان كان قبلة السوّاح والزائرين، وسبب خلافاتنا بدأ يهجره أهله ومحبّيه، والضيعة في المسرحيّة شرحت الكثير.
لا أريد الغوص في تفاصيل العرض المسرحي (مش بس عالميلاد)، حتّى أترك للمشاهدين استكشاف كلّ ما هو جميل في هذه المسرحيّة التي ما زالت تعرض على خشبة المسرح.
لكنّني أشيد بعودة (الأخوين الصبّاغ) إلى تقديم مثل هذه العروض المسرحيّة الغنائية الإجتماعيّة المعبّرة، فكانت خير عودة بعد طول غياب وانتظار، فكما كان للزمن الجميل الرحابنة في زمننا الحالي مدرسة الصبّاغ.
وأشيد بالحضور المسرحي المميّز، كما أشيد بأعضاء العمل المسرحي الذين قدّموا لنا وجبةً من الأداء الممتع..
وهم: (يوسف الخال، كارين رميا، ريمون صليبا، أنطوانيت عقيقي، جوزيف آصّافز، پولين حدّاد، رفيق فخري، آلان العيلي، سبع البعقليني، طارق شاهين، ماريا الصبّاغ، جاين الصبّاغ، سارة الصبّاغ، سيلين المرّ).. ومجموعة من الفنّانين الآخري .
أدعو إلى الإستمرار في مثل هذه الأعمال الفنيّة المعبّرة عن أوجاعنا وهمومنا، تعكس واقعنا، وبهذا الأسلوب الشيّق والمحبّب، فهي التي توصل لنا عيوبنا بطريقةٍ أنيقة لعلّنا نتّعظ ونحمل أحلامنا إلى غدٍ مُشرق، يعيد لنا نجوم سمائنا لنزرع الأمل في قلوبنا وقلوب كلّ محبٍّ لنا .
* إعلامية وناقدة لبنانية