بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
مع بداية إرسال التليفزيون المصرى في أوائل الستينات، بدأ عصر جديد للدراما تتزاوج فيه الكلمة مع الصورة ، وتصلك الى البيت دون مشقة و دون عناء الذهاب الى السينما بفضل وجود (أشرف عبد الغفور) وأمثاله من النجوم الكبار.
إنها التمثيلية التليفزيونية التي سرعان ما اقتحمت البيوت لتحتل مكانة التمثيلية الاذاعية التي كان ينتظرها الجميع بعد نشرة الخامسة ، لتتردد أصداؤها في كل مصر لأن جميع من يملكون (راديو) يستمعون إليها أحيانا بأعلى صوت ممكن.
حتى يسمعها الجيران الذين لا يملكون تلك الأجهزة الساحرة، ومع تلك النوعية المختلفة من التمثيليات دخلت إلى بيوت المصريين وجوه جديدة سرعان ما أصبحت نجوما يعرفها الجميع.
فمن خلال مسلسل هارب (من الأيام) تعرفنا على الموهبة الطاغية لعبد الله غيث، و من خلال مسلسل الساقية عشقنا صلاح السعدنى، أما مسلسل (القاهرة والناس)، فقد كان أحد الدرر التي حرص الجميع على مشاهدتها من أجل متابعة مجموعة من الممثلين الشباب.
منهم نور الشريف و(أشرف عبد الغفور)، وغيرهم كثيرين لا يسع الوقت لحصرهم، وهكذا صنع التليفزيون نجومه ليظلوا مضيئين الساحة حتى الآن.
أحد هؤلاء النجوم كان الفنان القدير (أشرف الغفور)، الذى عرفه الجمهور من خلال مسلسل (القاهرة والناس)، برغم أن بدايته كانت أسبق بعدة سنوات من خلال مسرح التليفزيون.
فلقد قدم في بداية حياته مسرحية (جلفدان هانم) التي كانت السبب في نجومية الفنان محمد عوض، ولكن يبدو أنه لم يسترح لنوعية الأعمال التي تَغلُب على مسرح التليفزيون فتركه ليلتحق بالمسرح القومى.
وهناك قدم عدة أعمال منها (سليمان الحلبى، وليلة مصرح جيفارا، والنار والزيتون)، ولكن مسلسل (القاهرة و الناس) الذى بدأ عام 1968 كان طريقه إلى النجومية والتي ربما جعلته يغير اسمه من (عبد الغفور محمد) إلى (أشرف عبد الغفور).
وبرغم تلك الشهرة المبكرة ، واشتراكه بأدوار هامة في عدة أفلام سينمائية في بداية السبعينات لم يغادر (أشرف عبد الغفور) المسرح، بل ظل دائما وأبدا مرتبطا به.
وخاصة في مسرحه القومى فقدم عدة أعمال هامة مثل (حدث في أكتوبر، ولعبة السلطان، والملك لير) و عشرات من المسرحيات التي تميزت بالرصانة.
التزام (أشرف عبد الغفور) الشديد
فلقد حرص المخرجون على مشاركة (أشرف عبد الغفور) لأعمالهم لالتزامه الشديد سواء في تنفيذ تعليمات المخرج أو في مواعيد حضور البروفات.
أذكر أن تعاملنا الأول كان في عام 1988 عندما قدمت على المسرح القومى عرض (حكايات صوفية) الذي شارك في الدورة الأولى لمهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى.
و كان العرض مأخوذا عن كتاب (المثنوى) لجلال الدين الرومى، وكتاب (نهج البلاغة) للإمام على بن ابى طالب، و من أشعار الحضرة الزكية لفؤاد حداد، ومن إعداد الصديق محمد الشربينى وألحان الموسيقار سليمان جميل.
وكان (أشرف عبد الغفور) يقوم بدور الراوى أو شيخ الحضرة الذى يستقبل الجمهور في الساحة الداخلية للمسرح القومى، ثم يقودهم بفانوس يحمله ليعبروا ممرا مظلما تماما ليجدوا أنفسهم على خشبة المسرح ليجلسوا في دائرة بينما المشاهد تجرى وسطهم .
وبعد انتهاء ليلتى العرض في المهرجان تقدم منى الأستاذ (أشرف عبد الغفور) قائلا : لو هتعيد العرض ابقى شوف ممثل غيرى!
أصابتنى الدهشة فلقد كنا نقف ساعتها نتلقى تهانى وفود عديدة من المهرجان استمتعت بالعرض ومدحت فيه وفي (أشرف عبد الغفور) مدحا كثيرا.
وقبل أن أسأله لماذا؟، كانت الإجابة أنه عندما اكتشف أن العرض و الجمهور على خشبة المسرح كان الوقت قد تأخر على الاعتذار.
إقرأ أيضا : محمد شمروخ يكتب: (أشرف عبد الغفور).. رحيل نجم حقيقي
ولأنه شديد الالتزام وأعطى لى كلمة، ولا يمكن أن يتراجع عنها قرر تقديم العرض، وهو متخوف من التجربة بل كاره لها، فهو مقتنع بوجوب الفصل بين المسرح والصالة، ولا يعتبر مثل هذا الدمج عرضا مسرحيا.
ولذا عندما أحس انها من الممكن أن تستمر بعد المهرجان آثر الانسحاب، لكن هذا الموقف لم يدم طويلا فبعدها بشهور إلتقينا..
ليقول لى في سعادة بالغة: تصور أن بأعمل عرض في قاعة و الجمهور قاعد حوالينا!!، وبعدها صارت بيننا صداقة لاتنقطع برغم أحداث الحياة وانشغالاتها، وبرغم تباعدنا الذى تفرضه ظروف العمل أحيانا.
إن القصص عن التزام (أشرف عبد الغفور)، وارتباطه بتنفيذ كلمته مهما كلفه الأمر كثيرة، ستجد كل من تعامل معه يملك كما كبيرا منها، و لكن القصص الأكثر هى عن التزامه بمواعيده الذى ربما سبب لزملائه الحرج.
حتى أنه في عرض آخر كان يشاركنى فيه قرر الممثلون أن يجتمعوا به ليطلبوا منه ألا يحضر يوميا في موعده لأنهم يصابون بالحرج من التزامه ودقته لو تأخر أحدهم.
و عندما صارحوه ضحك بشدة وقال: (ما اعرفش أجى متأخر.. اتعودت على كده)، وحتى عندما طلبت من بعض الممثلين الحضور مبكرا لإعادة بعض المشاهد قبل حضوره بساعة، كان هو موجود قبل موعده !!
ميزة (أشرف عبد الغفور) الوحيدة
لم يكن الالتزام الصارم هو الميزة الوحيدة في (أشرف عبد الغفور)، بل كان صارما أيضا في الحق ، لا يهادن فيه و لا يجامل و ينفذ ما يعتقد أنه الصح و الصواب و لو على حساب نفسه أو أقرب الأقربين.
ولذا عندما تولى (أشرف عبد الغفور) منصب نقيب المهن التمثيلية بعد ثورة يناير، و برغم أنها الفترة الأصعب في تاريخنا المعاصر بسبب الانفلات الأخلاقى و السيولة السياسية ، كانت بالنسبة للنقابة فترة ذهبية رُدت فيها الحقوق الى أصحابها وتعامل فيها الكل على قدم المساواة.
سواء كان نجما أو وجها جديدا، فلم يجامل وقام بتنفيذ القانون واللوائح بمنتهى الدقة، ولم يسمح بأى خروقات أو استثناءات مما أغضب منه البعض، ولكنه لم يتراجع ولم يبحث عن (نجاح انتخابى)، ولهذا أسماه بعض أعضاء النقابة (الأشرف).
أما على المستوى المهنى فلم نسمع أنه تسبب في مشكلة مع زميل خلال العمل بسبب التنافس أو لإثبات أنه (النجم)، بل كان يساعد الجميع ويقف إلى جوارهم، خاصة لو كان العمل باللغة العربية، فهو أحد المراجع المعتمدة في اللغة نحوا وتصريفا ونطقا.
يرجع إليه الجميع حتى لو كانت من المعضلات، ويكفى وجوده لكى تطمئن أن اللغة منضبطة فلن يسمح بأى خطأ وبلا تفاخر أو مشاحنة، بل إنه قادر بهدوئه المعروف على تسيير الأمور بمنتهى الدقة، ولذا تجد أن معظم أعماله هي مسلسلات تاريخية أو دينية أبدع وتفوق فيها.
الذى لا يعرفه كثيرون عن (أشرف عبد الغفور)، أنه يملك خفة دم نادرة ناتجة عن سرعة بديهة فائقة برغم قلة كلامه.
و لكن عندما يطلق تعليقا فلابد أن يصيب لتجد الجميع يضحكون بشدة ربما لأنهم لا يتوقعون أن تلك التعليقات تصدر عن هذا الشخص الهادئ الوقور الذى صنعت له الشاشة وجها جادا و لكنه في الحياة لا تفارق الابتسامة وجهه الا فيما ندر.
و لم تفصح عروضه عن موهبته الكوميدية إلا في عرضين هما: (اللهم اجعله خير)، من إخراج الصديق محسن حلمى، وفي (بيتنا شبح) من إخراجى، وكلا النصين للكاتب الكبير لينين الرملى,
و في اعتقادى أن نجاحه فيهما كان بسبب أن الضحك يتفجر فيهما من خلال الجدية الشديدة في أداء الشخصية وهذا ما نجح فيه (الأشرف) ببراعة.
.. رحم الله الصديق الغالى والفنان المتفرد خلقا وفنا.