بقلم: محمد حبوشة
انتشرت خلال الأيام القلية الماضية مطالبات بحصول رواية (الشوك والقرنفل)، لقائد حركة حماس في غزة (يحيى السنوار)، والمكنى بـ (أبو إبراهيم)، والتي انتهى من كتابتها في سجن بئر السبع/ إيشل، في ديسمبر 2004.
والحقيقة عندما قرأت الرواية التي يسرد (يحيى السنوار) فيها سيرته الذاتية وسير أخرى لمعاناة اللاجئين الفلسطينين من خلال حكايات مؤلمة حول الحياة في المخيمات، أرى أنها لاتستحق فقط (جائزة نوبل)، بل إنها تصلح لتجسيدها في مسلسل تلفزيوني.
هنالك جوانب درامية في رواية (يحيى السنوار) المطلوب لإسرائيل حيا أو ميتا، ترصد التراجيديا الإنسانية، وهو يسرد تاريخ حياته وتاريخ أسرته المرتبط بتاريخ الشعب الفلسطيني، حيث يحدثنا على لسان الراوي، الذي هو (يحيى السنوار) نفسه.
يحكي (يحيى السنوار) عن زواج خالته (فتحية) بعد حرب 1967 من رجل من بلدة (صوريف) اسمه (عبد الفتاح)، كان (عبد الفتاح) هذا كثيرا ما يحكي لفتحية عن تاريخ (صوريف) والمنطقة.
ويبدو أنه كان يتحدث عن تاريخ ما قبل 1948، أي قبل النكبة حيث ساهمت صوريف مساهمات واسعة في الثورات الفلسطينية ضد الانتداب البريطاني والعصابات الصهيونية.
ومن المواقف الدرامية الفارقة التي رصدها (يحيى السنوار) قوله: كثيرا ما وقف (عبد الفتاح) على سقف منزلهم وهو يشير لخالتي غرب البلدة إلى خربة (علين) حيث كان يعسكر رجال الجهاد المقدس قبل احتلال عام 1967.
وأن السكان كانوا يقدمون لهم كل ما يلزمهم من احتياجات، وأن أحد سكان (صوريف) واسمه (محمد عبد الوهاب القاضي) كان يرعى غنمه في أحد الأيام في منطقة قريبة تدعى (صناحين).
فشاهد قافلة من اليهود قادمة من جهة (بيت شيمش) إلى (عتصيون) فأبلغ المجاهدين الذين سارعوا فنصبوا لهم كمينا في منطقة تسمى (ظهر الحجة) وحين وصلوها هاجموهم وقتلوهم جميعا وكان عددهم (35) من الضباط والجنود والأطباء.
التراجيديا الإنسانية عند (يحيى السنوار)
وتأتي قمة التراجيديا الإنسانية التي صورها (يحيى السنوار) في قوله: فامتلأت قلوب اليهود حقدا على بلدة (صوريف)، وحين حدث الاحتلال عام 1967 قام اليهود بقصف بلدة صوريف بالمدفعية ودمروا العديد من المنازل، فقط بدافع الانتقام لما كان في ذلك الحادث (ص 44).
ويستطرد (يحيى السنوار) في تصويره المأساة الفلسطينية: لقد حدثت معركة (ظهر الحجة) أو معركة (صوريف) أو معركة (وادي السر) على مدى أكثر من يوم ما بين 16 – 18 يناير 1948 أي قبل النكبة بعدة أشهر.
وقد كان (إبراهيم أبو دية) المناضل الشهيد المعروف هو القائد العسكري المسؤول في (صوريف)، يقول (يحيى السنوار)، ومعظم الروايات الشفوية تؤكد أنه هو من قاد تلك المعركة.
على أن هناك روايات شفوية مختلفة عن المجموعة اليهودية، وكيف وصلت إلى المنطقة، وما هو هدفها، ومن اكتشف وجودها هل هو الراعي المذكور ام امرأتان كانتا تحتطبان.
إقرأ أيضا : فلسطين.. الدراما التلفزيونية تجسد سجل المرارة والألم (1)
الحديث عن رجال الجهاد المقدس في صوريف ومعركة ظهر الحجة ليس دقيقا، بحسب رواية (يحيى السنوار)، التي تأتي تحت عنوان (الشوك والقرنفل)، وهو بالمناسبة عنوان موحي لمسلسل تلفزيوني يأتي على غرار (التغريبة الفلسطينية).
فما يرويه (عبد الفتاح) عن رجال الجهاد المقدس ومعسكرهم، فالوقائع التاريخية تؤكد أن ذلك كان فبل احتلال 1948 وليس قبل احتلال 1967، وفي هذه المعركة أنشد سليم حجازي:
في يوم وادي السر قد سقطوا كأوراق الخريف، لما مضت (صوريف) بالأب طال في زحف عنيف
وقد أشار (يحيى السنوار) على لسان عبد الفتاح أن إسرائيل قد قامت بالانتقام من أهل (صوريف) بعد 1967، وإن كانت الاعتداءات الصهيونية لم تتوقف عن كثير من القرى الفلسطينية القريبة من الحدود حتى في زمن الهدنة ما بين النكبة والنكسة ولعل أشهر اعتداءات إسرائيل ما حدث في السموع عام 1948.
وأعتقد أن هذا اللبس الذي وقع فيه ( يحيى السنوار) بخصوص تاريخ المعركة أنه ينقل عمن روى له، فلم يكن معايشا لذلك الزمن بل كان ما زال طفلا ويقيم في غزة، وربما أن خالته (فتحية) قد نقلت له الخبر، ولم يتمكن من التدقيق فيه حين كتب روايته وهو في الأسر، وانعدام وسائل التدقيق ربما، وهذا بدوره يصنع نوعا من التشويق والإثارة.
كتبها (يحيى السنوار) في ظرف معقد
وأوكد أن (الشوك والقرنفل) التي كتبها (يحيى السنوار) في ظرف معقد عندما كان أسيرا في سجن بير السبع عام 2005، تصلح لعمل درامي ضخم، يرصد جوانب من المأساة الفلسطينية.
فـ (يحيى السنوار) يسرد في روايته سيرته الذاتية وسير أخرى لمعاناة اللاجئين الفلسطينين، ويرصد بدقة متناهية الحياة في المخيمات، ولهذا أحبيت روايته لأنها ببساطة تسرد أيضا جزء من سيرة أهل المخيمات، قسوة هذه الحياة عندما، مثلا: يتحول المطر إلى نقمة.
في وصف دقيق لمعاناة الإنسان الفلسطيني يرصد (يحيى السنوار) حالات الفقر والجوع والبرد والمصير المجهول، والماضي الذي كان، بالنسبة لنا، مجرد تاريخ شفوي.
فنحن لم نعش ولم نر فلسطين ولم يكن لنا فيها ذكريات، وكل ما نعرفه عنها كان سرديات الجيل الذي سبقنا وعاش فيها وترك لنا ذكريات أو ذاكرة قرى ومدن وبيارات كما رصدته (التغريبة الفلسطينية).
كانه، أي الجيل السابق، أدرك بدون وعي أو بوعي هدف إسرائيل الأول والأخير، ألا وهو إبادة الذاكرة، إبادة ذاكرة المدن والقرى كما يصفها المؤرخ (إيلان بابيه) بهدف: (محو الفلسطيني كشعب وهوية).
إقرأ أيضا : (التغريبة الفلسطينية).. أيقونة دراما (فلسطين) بلا منازع (2)
هنا يكتب (يحيى السنوار) عن المخيم وقسوة اللجوء، يكتب عن الجيل الثاني للفلسطينيين الذين لم يعاصروا القضية، وقد تكون الرواية بسيطة في مبناها، لكنها قصة حقيقية مكتوبة بقلب مفتوح وغاضب أيضا.
وما أثارني في رواية (الشوك والقرنفل)، وجعلني أرشحها لعمل مسلسل، هو اختيار (يحيى السنوار) للمقدمة، حيث بدأ بمشهد بسيط، يعيشه كل من سكن المخيمات، وهو شيىء كفيل بأن يدفع أي إنسان لم يجرب اللجوء إلى الجنون.
واستوقفني كم أن هذا المشهد حاضر في ذاكرته، ليبدأ به، وكيف أنه نقل للقارئ، هذا القلق، والتوتر، كما أن وصفه له كان تفصيليا، لأنه عاشه ألف مرة.
هذا المشهد البسيط إذا كثفناه ندرك كيف يتحول الناس إلى التطرف بمثل هذه المعاناة أو كما يقول الأجانب Radicalizing مرارا وتكرارا، تدفقت مياه سيول الشتاء إلى ساحة دارنا الصغيرة، ثم تدفقت الى داخل هذه الدار التي تسكنها عائلتنا.
وذلك منذ بدأ الحال يستقر، يقول (يحيى السنوار): بعد أن هاجرت من بلدة الفلوجة في الأراضي المحتلة عام 1948، وفي كل مرة يدب الفزع بي وبإخواني الأربعة وأختي.
وخمستهم كانوا يكبرونني سنا، فيهب أبي وأمي إلينا ليرفعونا عن الأرض ولترفع امي الفراش قبل أن تبلله المياه، التي اقتحمت علينا بيتنا البسيط.
(يحيى السنوار) وتصوير الأسرة البسيطة
ويبرع (يحيى السنوار) في التصوير الحي لحال تلك الأسرة البسيطة قائلا: ولأني كنت الأصغر كنت أتعلق برقبة أمي الى جوار اختي الرضيعة التي كانت في العادة على ذراعيها في مثل هذه الحالات.
مرات عديدة استيقظت ليلا على أيدي أمي تزيحني جانبا وتضع على فراشها الى جواري مباشرة (طنجرة) من الالمنيوم أو (صحنا) من الفخار الكبير لتسقط فيه قطرات الماء، التي تتسرب من التشقق في سقف الكرميد الذي يغطي تلك الغرفة الصغيرة.
إنظر إلى واقعية المأساة الفلسطينية هنا بوصف (يحيى السنوار): (طنجرة هنا، وصحن هناك، وإناء ثالث في مكان آخر، أحاول في كل مرة النوم، فأفلح أحيانا، ثم استيقظ على صوت قطرات الماء وهي ترتطم بما تجمع من مياه في ذلك الإناء، بصورة منتظمة..
وعندما يمتلئ الوعاء أو يشارف على الامتلاء يصبح رذاذ الماء يتراشق عليه مع كل قطرة، فتهب أمي لتضع عليه وعاء جديدا مكان الذي امتلأ وتخرج لتسكبه خارج الغرفة، كنت في الخامسة من عمري).. ياله من تصوير رائع لـ (يحيى السنوار).
وبعد كل ما مضي أرشح النجم الكبير (جمال سليمان) ليقوم بالبطولة على غرار التغريبة الفلسطينية) وتبدأ الأحداث بقوله: (أنا يحيى السنوار، لن نتعرض لكم بسوء وأنتم في أمان هنا)، كانت تلك رسالة زعيم (حماس) للأسرى الإسرائيليين المحتجزين في أنفاق غزة.. أطلق كلماته المطمئنة باللغة العبرية، التي يتقن الحديث بها.
وظني أن أول مشهد في المسلسل يأتي بتلك الوتيرة في التوثيق الحي، حيث (بقوة الصور والحقائق تبددت أية محاولات لشيطنة (يحيى السنوار) ودمغه بالإرهاب..
وتتكشف بالوقت نفسه الفوارق الشاسعة بين الطريقة التي عومل بها الأسرى والرهائن الإسرائيليين وحفلات التعذيب والتنكيل التي يشتكي منها الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية.
(يا رجل، أي والله، حياة دقيقة بعزة وكرامة ولا ألف سنة زي الزفت تحت أحذية جنود الاحتلال).. بدت تلك العبارة، التي وردت في النص الروائي (الشوك والقرنفل) أقرب إلى كشاف يضيء العمل كله.
إقرأ أيضا : تحفة الدراما السورية “حارس القدس” .. الفن في خدمة الدين
عندما نشرت الرواية لأول مرة عام 2004، لم يكن المؤلف اسما معروفا في الحياتين الأدبية والسياسية، عرّف نفسه على الغلاف الخارجي لروايته شبه المجهولة بـ (الأسير يحيى السنوار- أبو إبراهيم)، ومن ثم لابد لمثل هذا المسلسل أن يشرق بالنور.
ولابد لي في النهاية أن أذكر: من أجمل ما قراته في تلك الرواية الرائعة المفعمة بالحزن والأسى، أبدى الراوي محبة غامرة للجنود المصريين.. بدا ذلك التفاتً رمزيا لحضور الجندي المصري في ذاكرة غزة.
بقى لي القول: أن الرواية كتبت تحت أقبية السجون الإسرائيلية، حيث قضى (يحيى السنوار) 23 عاما متصلة منذ العام 1988، حتى الإفراج عنه عام 2011، من ضمن 1200 أسير فلسطيني محرر مقابل الجندي الإسرائيلي (جلعاد شاليط).
هل من شركة إنتاج واعية لخروج مسلسل (الشوك والقرنفل) في رمضان القادم، أو حتى في المواسم الموازية، حتى يتسنى لنا الوقوف أمام جوانب من تلك الملحمة التي تحكي عن مأساة فلسطين؟.. أتمنى الانتباه!