بقلم : فراس نعناع
يتساءل الباحث والمفكر فراس السواح في كتابه (تاريخ أورشليم والبحث عن مملكة اليهود) فيقول:
(إن أي معتقد ديني، بالغا ما بلغت بدائيته، يترك آثارا تدل عليه، ونحن الآن نستطيع تلمس الخطوط العامة لمعتقدات وطقوس إنسان العصور الحجرية، اعتمادا على ما تركه من بقايا مدافن ومن تماثيل صغيرة وأمكنة عبادة بسيطة.
أما معتقدات الثقافات العليا فتعلن عن نفسها في ما تركته لنا من أناشيد دينية وصلوات، إضافة إلى الآثار المادية المتجسدة في الفنون التشكيلية وفي المعابد والهياكل والمقامات الدينية فيما يسمى بـ (أورشاليم).
ولكننا حتى الان لا نستطيع تلمس أي أثر للمعتقد التوراتي خلال الفترة المفترضة للمملكة لتوطين العبرانيين في المناطق الهضيبة الفلسطينية (1200- 1000.م)، وخلال الفترة المفترضة للمملكة الموحّدة (القرن العاشر ق.م) فالنصوص الكتابية مفقودة تماما، وكذلك الشواهد الاركيولوجية في (أورشاليم).
فهل يُعقل أن شعبا كثير العدد قد حل في الهضاب الفلسطينية مدة قرنين من الزمان وبنى لنفسه مملكة كبرى بعد ذلك دامت حوالي قرنا تقريبا، وضمت اليها معظم المناطق الفلسطينية، لم يترك لنا اثراً واحداً على ثقافته الدينية).
وتجيب الباحثة (كينيون) على هكذا تساؤل بوصفها معابد موقعي(لخيش) في سهل (شفلح وبيت شان) في وداي يزرعيل بقولها: إن استمرار هذه المعابد مستخدمة في القرن العاشر وما بعده يشكل واحداً من أهم المظاهر الشاذة في مملكة (أورشاليم) يُفترض أن دينها يتركز حول عبادة (الإله يهوه) وحده.
إقرأ أيضا : فيلم القضية 23 .. مزراب التطبيع
وتقول بعد وصفها لمعابد كنعانية في مواقع أخرى بأن الديانة القومية للمملكة كانت تلقى منافسة من قبل عبادات الخصب القديمة والمتأصلة ، والتي كان يشجعها قبول البلاط الملكي لعبادات الثقافة الكنعانية.
ويقول الأركيولوجي الهولندي (هـ. فرانكين) في غياب الشواهد الآثارية على وجود الجماعات الإسرائيلية التي شكلت المملكة الموحّدة مايلي: (إذا وضعنا النص التوراتي جانباً، فإنَّ علم الآثار لم يتوافر لديه سبب واحد يدفعه إلى القول بوصول شعب جديد إلى فلسطين، تحول الى أمةٍ مع نهاية القرن الحادي عشر قبل الميلاد.
إنه لمن المتعذر على تقنيات علم الآثار أن تكتشف الشواهد على وصول جماعات إثنية جديدة إلى مكان جغرافي ما (أورشاليم)، إذا لم تترك هذه الجماعات مخلفات مادية تدل عليها. وهذا ما لم نستطع التوصل إليه فيما يتعلق بالجماعات العبرانية.
لا يوجد مايدل على (أورشاليم)
إن العنصر الثقافي الوحيد الذي يمكن أن نعزوه، بأية درجة من الثقة، للجماعات العبرانية، هو ديانتها المتميّزة، ولكن هذا العنصر قد بقي حتى الآن غير واضح من الناحية الأركيولوجية، ولا يوجد مايدل عليه في (أورشاليم).
ويؤكد (وليام ديفر) عالم الأركيولوجي الأمريكي المحافظ والمختص بالحقل الفلسطيني ،ان كل ما اكتشفناه من بقايا مادية وخصوصا فيما يتعلق منها بالفخاريات، يدل على أنهم ابتدأوا هنا ككنعانين لا كغرباء.
واذا كانت فئة منهم قد جاءت من مصر، فإن الدلائل الأثرية التي يمكن أن تؤكد هجرتهم معدومة تماماً، شأنها في ذلك شأن الدلائل على الخروج من مصر، والدلائل على فتح بلاد كنعان.
بحث (فراس السواح) وتقصى في كتابه هذا حول ثلاثة آلاف عام من تاريخ (أورشليم)، في السياق العام لتاريخ فلسطين، وتشابكاته مع تاريخ بلاد الشام والشرق القديم عامة. وقد قاده هذا التقصي والبحث، الى نتيجة مفادها أن كل الوثائق الأثرية والتاريخية المتوفرة حتى نهاية القرن العشرين ، تنفي وجود اليهود كأثنية، واليهودية كدين، قبل القرن الخامس قبل الميلاد.
إقرأ أيضا : حارس القدس وحراس الدراما السورية
وفي مقاطعة يهود الفارسية تحديداً، وحليفتها مقاطعة اليهودية الهيلينستية والرومانية، أما ما سبق ذلك من تاريخ فلسطين ومملكتي يهوذا وإسرائيل الكنعانيتين، فهو ملك لتاريخ وثقافة سوريا القديمة.
ويضيف فراس السواح في تقصيه، بأن الغموض يحيط بأصول الجماعات التي أُسكنت في مقاطعة يهود الفارسية، مثلما يحيط أيضا بالظروف التي أحاطت بصياغتها لديانتها وتدوينها لأسفارها المقدسة ، ففي مطلع القرن الخامس قبل الميلاد لم يكن هناك يهود ولا يهودية.
وفي مطلع القرن الثاني قبل الميلاد كان في مقاطعة اليهودية إثنية واضحة وديانة يهودية محورها أسفار التوراة، أما ما جرى خلال هذه القرون الثلاثة فغير قابل للتقصي التاريخي بسبب انعدام الوثائق التي تعين المؤرخ في عمله.
الدولة السلوقية واستقلال (أورشليم)
بقي اليهود يعيشون في عزلتهم تحت الحكم الفارسي فالبطلمي فالسلوقي حتى عام 142 قبل الميلاد، عندما استغل (سمعان المكابي) تفكك الدولة السلوقية فأعلن استقلال (أورشليم)، وأنشأ دويلة يحكمها الكاهن الأعلى، تحولت هذه الدويلة في عهد خلفاء سمعان إلى مملكة وتوسعت على شكل مدٍ استعماري شمل كامل فلسطين وشرقي الأردن.
وتميز بالعنف والإرهاب، وتهويد السكان بقوة السلاح ، دامت دولة الكابيين حتى استيلاء الرومان على سوريا، ودخولهم أورشليم عام ٦٣ قبل الميلاد، حيث تم تجريد أورشليم من كل ما استولت عليه بالقوة وأعادتها مقاطعة رومانية ضمن مساحتها التقليدية السابقة، وعاد السكان الذين تهودوا بالقوة الى معتقداتهم التقليدية السابقة حول (أورشاليم).
وساعدهم الرومان على إعادة ترميم المعابد وإعادة الآلهة القديمة إليها، وعلى رأس هذه المدن مدينة السامرة، ومدينة سقيثوبوليس (بيت شان)، ولم يبق خارج (أورشليم) سوى جيوب يهودية صغيرة، أهمها الجماعة الجليلية التي نعرف من الأناجيل بأن يسوع قد ابتدأ رسالته التبشرية بينها، ويبدو أن أسرة يسوع كانت من هؤلاء المتهودين الجدد من ذوي النزعة الهيلينستية البعيدة عن التزمت وعن الأصولية الأورشليمية.
لقد دامت دولة اليهود في فلسطين مدة ثمانين سنة، وذلك من عام 142الى 63 قبل الميلاد، وهي الفترة الوحيدة التي كان لليهود فيها كيان سياسي على جانب الأهمية، وفيما عدا الفترة المعترضة التي أعطى خلالها الرومان حكم فلسطين وسوريا الجنوبية للملك (هيرود العربي – ٣٨-٤ ق.م).
فقد استمرت اليهودية مقاطعة رومانية صغيرة ولكن مزدهرة اقتصادياً بسبب ما أفاءه عليها حكم هيرود من ثروات وخيرات، ولكن النزعة الأصولية الانتحارية التي قادت ثورتي ٦٦ و١٣٢ ق.م قد أودت بـ (أورشليم) ومحتها من الخارطة الجغرافية والتاريخية.
أما اليهود فقد اختفوا من مقاطعتهم نفسها بسبب المذابح الرومانية والنزوح الجماعي، وابتدأ ما يدعى بالنسبة إليهم بتاريخ الشتات، وهو شيء لا يعني أحداً سواهم.