بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
منذ بدء الحرب في (غزة) اتجه المصريون إلى سلاح المقاطعة و اعتبروه (أضعف الإيمان) لنصرة شعب فلسطين الذى يواجه نكبة ثانية تتمثل في التهجير أو الإبادة.
ولكن سعت الأصوات المنادية بالمقاطعة الى وصم جميع ما يأتينا من الغرب بأنه الى جانب الكيان الغاصب، لم تفرق تلك الأصوات بين جهات دعمت ذلك الكيان ماديا – أو حتى معنويا – و بين جهات أخرى لم يثبت عليها ذلك الدعم.
بل قررت أن كل ما هو غربى أو أمريكي من الواجب مقاطعته من أجل (غزة)، وكانت تلك الأصوات قد دعت الى مقاطعة المنصات العالمية مثل (ديزنى ونتفيلكس)، وقد كنت أنوى بالفعل إلغاء عضويتى بهما.
إلا أن ولدى أحمد – المتخصص في فن السينما – قد نبهنى لأمر هام ، و هو أن منصة نتفيلكس هى المنصة العالمية الوحيدة التي تعرض حاليا فيلما تسجيليا هاما عن الصراع العربى الإسرائيلى.
إقرأ أبضا : مجازر إسرائيل في (غزة) توخز ضمير العالم!
هو الفيلم الاسبانى: (مولود في غزة)، و هنا قررت التريث، فلقد قاطعت من قبل شركة (ديزنى) أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية لدعمها الاحتلال وتوقفت عن العمل معها بعد أن أخرجت النسخة العربية لأشهر أعمالها في بداية تعاملها مع الوطن العربى، ثم أتضح لى فيما بعد أن ذلك الدعم كان شائعة رائجة .
اتجهت الى منصة نتفيلكس التي يشاهدها حاليًا حوالى 204 مليون مشترك في أكثر من 180 دولة، لأجد على المنصة – التي نقول عنها أنها صهيونية وأنها تسعى لتدمير عاداتنا وتقاليدنا ومحو أخلاقياتنا – عدة أفلام عن فلسطين.
منها: (أطفال شاتيلا، وعالم ليس لنا، ومولود في غزة)، وهى أفلام لا يوجد مثلها على المنصات العربية للأسف الشديد، وحتى لو وجدت فلن تحظى بمثل هذا العدد من المشاهدات.
(مولود في غزة) وحروب 2014
أما فيلم (مولود في غزة)، فقد تم إنتاجه بعد حرب عام 2014 في غزة التي دارت ما بين (7 يوليو إلى 26 أغسطس)، وراح ضحيتها 1475 من الفلسطينيين (لاحظ العدد بالنسبة للحرب الحالية التي راح ضحيتها ما يفوق 15 ألف شهيد).
وكان منهم 70 % من الأطفال دون سن الثانية عشر كما هو مدون على بطاقة عنوان الفيلم الذى أخرجه هيرنان زين (مواليد 1971)، وهو صحفى حر كتب في عدة جرائد و مجلات هامة منها نيويورك تايمز.
وهو أيضا مراسل حربي ومنتج ومخرج أفلام يقيم في أسبانيا، ولكن أصوله ترجع إلى إيطاليا و الأرجنتين.
في البداية تخصص (زين) في موضوعات الفقر وقضايا البيئة وحقوق الإنسان، وفي عام 1994 انتقل الى الهند ليصور أول فيلم وثائقى له عن أطفال الشوارع، وهناك أنشأ في (كلكتا) منازل لإيواء هؤلاء الأطفال.
إقرأ أبضا : مواقع التواصل تفضحهم.. إنهم يقتلون (أطفال غزة) في المهد بدم بارد!
ويبدو أن قضايا الطفولة استحوذت على اهتمامه فتتبع شبكات استغلال الأطفال الأوروبية و الأمريكية، وأدت الموضوعات التي نشرها في جريدة (لو موندو) وجمعها في كتاب بعد ذلك الى سجن كثيرين من أعضاء تلك الشبكات.
وبداية من عام 2006 عمل مراسلا حربيا ليتجول بين الحروب المنتشرة في الكونغو والصومال وأفغانستان وأوغندا والبوسنة والهرسك والسودان ولبنان و(غزة) والبرازيل وكينيا.
وكان هدفه طوال تغطيته لتلك الحروب إعطاء الفرصة لسماع صوت ضحايا تلك الحروب، لذا تم ترشيحه للفوز بجوائز عديدة، وفي عام 2011 عمل في إحدى القنوات لإنتاج الأفلام الوثائقية، ليقدم عدة أفلام وثائقية تم ترشيحها لأكبر الجوائز.
يركز فيلم (مولود في غزة) الذى تم تصويره بأقل الإمكانات وبلا ميزانية تقريبا على الأطفال الفلسطينين الذين تقل أعمارهم عن 15 عاما، والذين يمثلون أكثر من ثلث سكان (غزة).
ليقدم لنا نماذج منهم هم عشرة أطفال ولدوا فيها وأصبحوا من مواطنيها، و تتجول كاميرا الفيلم مع الأطفال العشرة لتصور أنشطتهم اليومية أو مقابلات معهم ليتحدثوا عن واقعهم بعد غارات العدو الجوية على (غزة).
والتي قتلت العديد من المدنيين وأصابت الكثيرين بجروح، ووسط الركام والحطام الذى خلفته حرب 2014 – والتي كانت أقل قسوة بكثير من مذابح 2023 – يقدم لنا الفيلم أطفالا يحتاجون للطعام و المأوى المناسب وأيضا للإحساس بالأمان.
(مولود في غزة) يفوق التوقعات
ولكن للأسف لن يحصلوا على أى فرصة لحياة سوية أو مستقبل ناجح بسبب ظروفهم الحالية أو بسبب الصدمات التي تعرضوا إليها، ويستعرض الفيلم كيف تغيرت حياتهم إلى الأسوأ بسبب الصراع المستمر بين غزة والاحتلال.
لن أروى الفيلم بالطبع، ولكن يكفى هنا أن أستشهد ببعض المتابعات والتقييمات التي كتبت عن الفيلم ووصفته بأنه أحد أهم الأشياء الضرورية التي يمكنك مشاهدتها في الوقت الحالي:
(مولود في غزة) يفوق حقا التوقعات لفيلم وثائقي عادي، ويركز على الأشخاص المتضررين أكثر من أي شيء آخر، من المستحيل مشاهدة هذا الفيلم وعدم الشعور بالكسر نتيجة لذلك.
مع استمرار محنة فلسطين، يعد هذا الفيلم بمثابة نافذة على تاريخ المنطقة، فليس عليك بالضرورة معرفة الكثير عن الصراع قبل مشاهدة فيلم (مولود في غزة) وستخرج بفهم أفضل للحياة في فلسطين نتيجة لذلك.
من الصعب مشاهدة الفيلم دون أن تتساءل عن الأشخاص الذين ظهروا على الشاشة هل ماتوا الآن وسط ما يحدث من إبادة؟
إقرأ أبضا : حرب (المستشفيات) تعري العدو الصهيوني أمام العالم!
والحقيقة أن الأحداث الحالية قد دفعت كثيرين لمشاهدة الفيلم كى يفهموا طبيعة الصراع بعد أن اهتزت ضمائرهم واكتشفوا زيف آلة الإعلام الصهيونية.
أما المخرج (هيرنان زين)، فقد أعلن عن نيته العودة لإنتاج جزء ثانى من الفيلم (مولود في غزة) بعد عشر سنوات ليبحث عن أطفال قابلهم منذ عشر سنوات في أعقاب الحرب ليحاول العثور عليهم بعد إبادة تتم الآن.
من منهم مازال على قيد الحياة؟ وماذا صنعت الحياة والحرب والعدوان؟، كيف يعيش هؤلاء الأطفال حياتهم الشابة في وطنهم المضطرب سياسيا.
ويبقى سؤال أخير: ماذا قدمت منصاتنا العربية من أفلام تخص القضية؟