بقلم: كرمة سامي
نهار- خارجي، مشهد صامت، إضاءة ساطعة، المكان: (الطنطورة – 1948): يخرج من بحر يافا فتى جميل يافع مبتل الشعر، تتساقط قطرات الماء على كتفيه وذراعيه يرى الكاميرا فيقترب منها رويدًا ويبتسم ثم تذوب صورته وابتسامته.
تنزل التترات بخط ثلث مزخرف:
(الطنطورية).. عن رواية الكاتبة رضوى عاشور
تتتابع مع توزيع شجي لموسيقى موال فلسطيني قديم مشاهد من بحر (الطنطورة) وبيادرها وحقولها وبساتينها المزينة بنوار اللوز والمشمش المحيطة ببيوتها ذات الحوائط الحجرية.
إقرأ أيضا : كرمة سامي تكتب: شبابيك فيروز مضوية
فيما نقرأ اسم المخرج xxx يلي اسم المؤلفة ويتبعه اسم كاتب السيناريو xxx وأسماء ممثلين أغلبهم من فلسطين وسوريا والأردن ومصر وباقي فريق العمل، ثم تبدأ الحكاية من الحلقة الأولى حتى الثلاثين.
يومًا بعد يوم سيتابع المشاهدون في الوطن العربي وفي المهجر مسلسل (الطنطورية) بعد الإفطار في رمضان، منهم من قرأ العمل وساعدته الحلقات على اكتشاف قدراته القرائية على التخيل أو مدى قصورها.
ومنهم من لم يقرأ العمل ويتابع تطور الأحداث بقلب مضطرب ولا ينتظر نهاية المسلسل فيبحث عن الرواية على شبكة المعلومات.
حكاية رقية (الطنطورية)
ولكنه يفضل أن يحتفظ بنسخة ورقية منها يكتب عليها تاريخ العام ويهديها إلى أول أحفاده الذي لم يأت بعد لتكون له حافظة لتاريخه حتى لا تنسى حكاية رقية (الطنطورية) وحكاية الطنطورة التي هى حكاية فلسطين.
ستثار في البداية أسئلة مثل هل سيتزوج (يحيى) ابن قرية (عين غزال) رقية ابنة الطنطورة؟ هل ستتأثر حياتهما الزوجية بالنكبة والنكسة والشتات؟
الحكاية في المستهل قصة جميلة، تنويعة عربية لتيمة وحبكة عالمية شائعة: فتى يقابل فتاة boy meets girl! ربما لو كان فيلمًا أمريكيًا من الخمسينيات الذهبية في هوليوود بطولة (روك هدسون ودوريس داي)، لسمعنا أغنيتين وشاهدنا تطور قصة حبهما مع استعراض الكاميرا لشوارع نيويورك ومانهاتن، لكن هذه المرة القصة ليست من نوعية (وعاشا في تباع ونبات وأنجبا بنينا وبنات!)، لهذا يتصدر اسم كاتبة العمل (رضوى عاشور) التترات.
اجلس وتعلم يا سيدي: قصة (الطنطورية) ليست عن الحب بين الذكر والأنثى، القصة عن حب الوطن وحلم العودة للجذور، عن التاريخ والجغرافيا، عن أثر خطوات الإنسان في المكان والزمان.
في ثلاثين حلقة عبر ثلاثين يوم.. يحفظ المشاهدون كلمات الموال الفلسطيني ويرددوه في الشارع وعلى القهوة وتمشية ما قبل الإفطار، وتصبح نغمته رنة هواتفهم المحمولة.
الأهم أن حكاية (رقية) وزوجها وأبنائهما من (الطنطورة) ستصبح همهم الذي لن يفارقهم حتى بعد انتهاء عرض حلقات المسلسل.
ثلاثون حلقة من (الطنطورية)
ثلاثون حلقة كاملة تتخللها إعلانات عن سلع استهلاكية عبر ثلاثين يوم.. تدخل فيها مفردات المطبخ الفلسطيني قاموس المرأة العربية اليومي وتكشف محركات البحث عن محاولات لمعرفة وصفة إعداد خبز الطابون والمجدرة والنسخه والمقلوبة.
ثلاثون حلقة من (الطنطورية) تعني ثلاثين درسا مسائيا في جغرافيا الوطن.. تتعلق فيها قلوب المشاهدين بحكاية الطنطورة وقيسارية وعين غزال، أماكن حقيقية على الخريطة، تقاوم النسيان والاسم العبري الذي فرض على كل قرية منها.
ثلاثون حلقة في ثلاثين تغريبة مسائية.. سيتنقل أفراد الأسرة داخل حدود شتاتها القسري من (الطنطورة) وصيدا وبيروت ونابلس واللد وأبو ظبي وكندا، قدر ومكتوب على الفلسطيني بعد أن استولت عصابات الصهاينة على أرضه.
ثلاثون حلقة تحكي ثلاثين حزنا.. ومن (حرب تسلمنا إلى حرب) يتحول المشاهدون إلى شاهدي عيان لمجازر اعتمدتها الكاتبة من مصادر موثقة: مجزرة (الطنطورية) وصبرا وشاتيلا وملجأ مدرسة الأطفال في صيدا وعمارة جاد.
وغيرها من مجازر أخرى لم تؤرخ كانت أبشع مما سمعنا عنها كان فيها الدم العربي قربانًا لها.
وتعلمنا منها أصول تكريم شهداء المجازر للدفن في المقابر الجماعية وننثر المسحوق الأبيض ثم وضع الجثث متجاورة وتغطيتها بغطاء بلاستيك، ويتكرر العمل كل مرة ولا تتوقف المجازر.
ثلاثون حلقة من (الطنطورية) على ثلاثين يوم.. يألف المشاهدون فيها أسماء شخصيات تاريخية وأعلام مثل معروف سعد، والدكتور (نزيه البري)، والدكتور (أنيس صايغ)، و(ناجي العلي)، وغيرهم.
رقية (الطنطورية) لا (تخسر السبيل)
ثلاثون حلقة من (الطنطورية) في ثلاثين يوم.. سينتظر المشاهدون العرب ماذا ستكتب رقية في دفترها عن سيرتها منذ النزوح عن الطنطورة وانتظار العودة التي تبتعد مع مرور السنين.
لكن رقية (الطنطورية) لا (تخسر السبيل)، ويحاول المشاهدون أن يخمنوا كيف ينتهي العمل وفقًا لقواعد الدراما المعاصرة نهاية حاسمة لحيرتهم؟ كيف والكاتبة لا تستطيع أن تغير التاريخ الذي نظن أننا نعرفه؟
لكن الكاتبة المبدعة المدربة تعطينا خاتمة نبدأ بها تاريخًا جديدًا، بمفتاح حديدي كبير قديم معلق في رقبة بطلتها، تمد أصابعها لتتحسسه من آن لآخر لتتأكد من وجوده فيهب روحها طاقة استمرار وإصرار حثيث على السعي، كي لا نموت كمدًا ولا تضيع دماء شهدائنا هباء.
توشك الحلقة الثلاثون من (الطنطورية) على الانتهاء، تنقل السيناريو من زمن إلى آخر ولم يستقر على سرد تقليدي للحكي.
ومع نهاية المشهد الأخير في الحلقة الثلاثين الذي تمد فيه رقية يدها عبر السلك الشائك بمفتاح الدار لحفيدتها وسميتها يكتب على الشاشة: البداية! ثم يتكرر مشهد الفتى اليافع الذي يخرج من بحر يافا تتساقط قطرات المياه على كتفيه وينظر للكاميرا ويبتسم.
…
(الطنطورية) على غرار (التغريبة الفلسطينية)
نجلس صامتين، لم نكن نريد لمسلسل (الطنطورية) أن ينتهي، نريد أن تمتد الحكاية، مع (رقية الحفيدة)، لا نريد لمشهد طوابير النازحين حاملين متاعهم أن يكون الراسخ في أذهاننا.
نريد مشهد العودة في سيارات وسط زغاريد وأفراح، كل يذهب إلى مكانه ويخرج مفتاح الدار ليفتحها ويفتح نوافذها لشمس الله ونوره وهوائه!
لا نريد لمسلسل (الطنطورية) أن يتركنا للواقع وعذاب ضميرنا مع كل خبر يأتينا عبر الفضائيات أو وكالات الأنباء عن فجور الصهاينة وعنصريتهم مع أشقائنا الفلسطينيين.
سنستغرق وقتًا تنحسر عنا فيه المأساة الساكنة في الحكاية ثم يتدخل الوعي ليعبر داخلنا عما كان وما سيكون.
عشنا ثلاثين يومًا مع التغريبة (الطنطورية)، ومثلما سنتذكر الشقيقين (أبو الصادق وأبو الأمين) وزوجتيهما وأبناءهما وأحفادهما، سنتذكر بكل محبة وامتنان سيدة الحكايا (رضوى عاشور) التي من غرفة معيشتها ببيتها بشارع هدى شعراوي، كتبت سيرة القرى الفلسطينية وحياة المخيمات والمجازر وانتزاع الفرحة من يوميات الشجن، وسخرت صرامتها البحثية لقواعد الحكي لتقدم لنا نصًا غير قابل للشك في صدقه، معرفة صافية أكثر قربًا لنا ومصداقية من حكايات كليلة ودمنة الرمزية.
بهذا النص وضعت (رضوى) في كف كل منا مفتاح الدار، سر العودة، فهل نرى هذا العمل ثلاثين حلقة في ثلاثين يوم من (الطنطورية) على شاشات الوطن العربي لتصل رسالة رضوى إلى مستحقيها قبل فوات الأوان؟!
هل يتحقق الحلم ومثلما شاهدنا (التغريبة الفلسطينية)، تأليف وليد سيف وإخراج حاتم علي في رمضان 2004 نرى (الطنطورية) لرضوى عاشور عملًا دراميًا في أي رمضان قادم؟