بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
فاجأنى صديقى الغاضب من كل شيئ وأي شيئ بثورته العارمة ضدى بعد مقالتى عنه الأسبوع الماضى بخصوص حرب (غزة)، وحاولت مراضاته بكل الأشكال و الحجج، بما فيها الاعتراف بأننا كلنا مثله غاضبون.
ولكننا نحاول ألا يعمينا الغضب عن رؤية الحقيقة، و لكن كل محاولاتى لتهدئته ذهبت هباء، فقد كان غضبه أقوى من كل مرة، هنا أدركت أنه لابد وأن هناك موضوعا أكبر أغضبه فراح يصبه على مقالى.
وبعد طول أخذ ورد ومناقشات ومجادلات أفصح في ثورة غضبه عن السبب الحقيقى، فقال وسط كلامه دون أن يدرى: لقد خدعتنا حماس بالحديث عن قوتها الضخمة، واستعدادها الرهيب للمعركة في (غزة).
فقد كنت أتصور أن قوات الكيان الغاصب لن تقوى على اجتياح (غزة)!، وإذا دخلت إليها فسوف تُسحق في شوارعها، وسنرى الكيان يصرخ متألما مطالبا بوقف القتال – أو على الأقل بقبول هدنة – ويتوقف عن قصف المدنيين ويوافق على دخول المساعدات بل وتدفقها.
قلت له: وبالمرة يعيد الحق لأصحابه ويقيم دولة فلسطينية!، يا صديقى إنها حرب طويلة لن تنتهى كما رسمت لها في خيالك، فلا ترفع سقف توقعاتك ولا تستمع للدعايات التي يطلقها كل طرف من أجل التأثير في معنويات الطرف الآخر.
إقرأ أبضا : مجازر إسرائيل في (غزة) توخز ضمير العالم!
وأيضا لا تستمع لدعايات الأطراف المغرضة أو الأطراف الموهومة، و لكى تعرف كيف تسير هذه الحرب في (غزة) لابد أن تعرف ما هى الدراما؟
قال: مالى ومال الدراما الآن؟، قلت: لأن الدراما صراع بين إرادتين و لوفهمت الدراما لفهمت طبيعة الصراع.
أمامنا طرفين للصراع كلاهما يتهدده الموت، طرف المقاومة التى صمدت حتى هذه اللحظة في (غزة) برغم محدودية إمكاناتها بالنسبة للطرف الآخر الذى يتفوق عدديا ويتفوق في المعدات و التكنولوجيا.
وهذا الصمود في حد ذاته يعتبر انتصارا مادام الطرف الآخر لم يستطع القضاء عليه، ولم يفرض عليه إرادته، فيدفعه للاستسلام أو الإفراج عن الرهائن بلا مقابل كما يريد العدو.
كما أن القضية الفلسطينية حققت مكسبا ضخما بعودتها الى الواجهة واكتساب تعاطف شعبى من معظم دول العالم قد يضغط على الحكومات لتغيير مواقفها، وهذا نصر لا يستهان به وسحق للآلة الإعلامية الصهيونية.
معركته الأخيرة في (غزة)
أما طرف الكيان الغاصب فيجلس على رأسه رئيس وزراء يدرك أن تلك معركته الأخيرة في (غزة) ولو لم يكسبها فسوف يحاكمه شعبه ويلقى به في السجن، فهو في مأزق ولابد أن ينتصر بأى طريقة سواء عن طريق مجازر أو مجاعات أو أوبئة.
الوسيلة عنده لا تهم، المهم أن ينتصر ليظل في موقعه، ووراءه حكومة متطرفة تدعم تلك المجازر، لأنها تتمنى اختفاء الفلسطينيون من على وجه الأرض.
وعلى طريقة الدراما كان لرئيس الوزراء خطأ قاتل، فوضع في بداية المعركة هدفان هما القضاء على حماس واستعادة الأسرى، وحتى الآن لم يحقق أياً منهما.
وفي الحقيقة إنه لايهتم بمسألة استعادة الأسرى – عكس ما ظنت حماس وبنت استراتيجية هجومها عليه – بل كل اهتمامه أن يقضى على المقاومة في (غزة) التي أذلت جيشه الذى يفخر به وأثبتت فشل كل أجهزة استخباراته.
قال صديقى في سرعة: إذن هو قد انهزم، قلت له في ثقة: ربما كان مهزوما في الوقت الحالي، ولكنه ربما ينتصر على المدى الطويل، قال صديقى في دهشة: كيف؟ بالقضاء على حماس؟
قلت: ربما لا يستطع التخلص التام من حماس، وربما لا يستطيع الوصول الى الأنفاق ولكنه في سبيله لتحقيق هدف أكبر وهو تهجير أهالى قطاع (غزة) كله قسريا.
فبعد اجتياح العدو لشمال قطاع (غزة) بدأ مرحلته الثانية بتهديد جنوبه بالإخلاء تمهيدا لاجتياحه أيضا، و الآن وقد انتقل أغلب أهالى شمال (غزة) إلى الجنوب، إلى أين يتجه الجميع؟، ليس أمامهم سوى الحدود المصرية للجوء إليها.
إقرأ أبضا : مواقع التواصل تفضحهم.. إنهم يقتلون (أطفال غزة) في المهد بدم بارد!
وفي تلك اللحظة ستقوم قوات حرس الحدود المصرية بواجبها بمنع دخول أراضيها، ليصيح الغاضبون من أمثالك: افتحوا المعبر، وبذلك يحقق العدو ومن يقف وراءه بالقوة صفقة القرن التي رفضناها من قبل.
قال صديقى في دهشة: أيمكن للكيان الغاصب أن يخطط لهذا ويعتبره انتصارا؟، قلت له: لقد خطط له بالفعل منذ زمن وحماس وفرت له السبب القوى للتنفيذ.
فلقد كشفت الوثائق البريطانية أن الكيان الغاصب قد وضع خطة سرية قبل أكثر من 50 عاما لترحيل الآلاف من فلسطينيي (غزة) إلى شمال سيناء وذلك بعد حرب 67 نتيجة لأعمال المقاومة ضد قوات الكيان.
فحسب تقديرات البريطانيين، فإنه خلال الفترة بين عامي 1968 و1971، قُتل 43 وأصيب 336 جنديا من قوات الاحتلال في (غزة).
توطين أهل (غزة) في سيناء
ويقول السفير البريطاني لدى الكيان أن الإسرائيليين يرون أن أي حل دائم لمشكلات قطاع غزة (يجب أن يتضمن إعادة تأهيل جزء من السكان خارج حدوده الحالية) وأكد السفير أن هناك خطة سرية تسعى لتوطين أهل (غزة) في سيناء.
وفي تقرير عن الموضوع، قال رئيس إدارة الشرق الأدني في الخارجية البريطانية إنه (يجري الآن اتخاذ تدابير صارمة لتقليص حجم مخيمات اللاجئين وفتحها – وقُصد بهذا النقل القسري للاجئين من منازلهم الحالية – وإجلاؤهم إلى العريش في الأراضي المصرية).
وبعد شهر، أبلغ جيش الكيان في لقاء رسمي، عددا من الملحقين العسكريين الأجانب بتفاصيل إضافية عن خطة ترحيل الفلسطينيين من (غزة)، وكان ذلك في عام 1971، ولم يوقف تلك الخطة سوى انتصارنا في حرب أكتوبر.
و الآن وصل طرفى الصراع الى طريق مسدود: فرئيس الوزراء السفاح أقنع شعبه بالانتظار عليه حتى يصل الى عمق (غزة) حيث (مستشفى الشفاء) التي ادعى بأن قيادة حماس والرهائن متواجدون تحتها.
وأمام فشله الجديد بدأ يقنع شعبه بأنه لا دليل على أن باقى الأسرى أحياء فالرهينتان اللتان عثر جيش الكيان على جثتيهما ادعى أن حماس قتلتهما.
إقرأ أبضا : حرب (المستشفيات) تعري العدو الصهيوني أمام العالم!
وبالتالى فقدت حماس ورقة الضغط التي بيدها – أي الرهائن – بعد أن اقنع السفاح شعبه أن من حقه الاستمرار في مطاردة حماس في جنوب (غزة).
أما حماس فهى في مأزق، فالحصار يخنقها والمجاعة والمجازر تصيبها أيضا، وتحتاج لهدنة لتنظيم الصفوف، ولكن الكيان لن يسمح لها بهذا وسيطيل أمد الحرب بقدر ما يستطيع حتى يحصل على أي نصر.
وهكذا لو تحقق ذلك التهجير فإن الكيان سيعتبر نفسه منتصرا، بل ضرب عدة عصافير بحجر واحد وهى ابعاد المقاومة عن أرضه، وتوسيع رقعة مستوطناته وشغل مصر بصراع على حدودها أو داخلها.
قال صديقى: هل لهذه الحرب من نهاية؟، قلت له: أظن أنها اقتربت من النهاية، فنحن الآن في مرحلة عض الأصابع.
عض الأصابع في (غزة)
قال صديقى: وما مرحلة عض الأصابع؟، قلت اسمع للكاتب والمفكر الكبير عبد الرحمن الشرقاوى ماذا يقول عنها في مسرحيته وطنى عكا:
سألوا عنترة العبسى: بماذا كنت البطل الفرد وأنت العبد؟
فقال لهم: انا لست بعبد، أنا أكثركم حرية.
أنا في فقرى أغناكم، أنا في ضعفى أقواكم، أنا لم يستعبدى شيئ، خوف أو طمع أو جاه، وأنا أكثركم صبرا بعد.
وحين يلاقينى خصمى ألقاه بأعظم من صبره.
ونضرب حتى ينكسر السيفان معا، فيصارعنى.
ويأخذ في فمه إصبعى وآخذ إصبعه بفمى.
وأعض عليه ويعض.
وليوشك أن يلقينى أرضا، إذ أنا أستمسك بالأرض.
وأوشك أن أصرخ من ألمى، لكنى أعتصم بصبرى
وأقول لنفسى لن أصرخ من ألمى أبدا.
فلماذا لا يصرخ خصمى؟
فليصرخ هو من قبلى.
وإذا بغريمى يصرخ قبلي، ثم يميل على قدمى يستعطفنى.
فمن يصرخ قبل الآخر؟، تلك هي المسألة فحسب.
من منا أصبر من صاحبه؟ تلك هى العبرة في الحرب.