بقلم: محمود حسونة
السينما ليست فن للفرجة والتسلية فقط، ولكنها قبل ذلك إبداع وتثقيف وتوعية، وإحياء التاريخ الذي تتكرر فصوله في الحاضر، وفيلم (قتلة زهرة القمر) للمخرج العبقري مارتن سكورسيزي، يستدعي التاريخ ليكشف سر انحياز (أمريكا) الأعمى لإسرائيل.
ليس سراً أن إسرائيل صنيعة بريطانية غربية، ولا أنهم زرعوها في منطقتنا لأسباب سياسية متخذين من الدوافع الدينية ستاراً وهمياً، هدفهم الأكبر أن تكون لنا شوكة في (الحلق) العربي، فاصل بين دوله المشرقية وبين مصر ودوله المغربية.
وأن (أمريكا) اليوم تتولى رعايتها حتى ولو كان ذلك على حساب صورتها عالمياً، تقدم لها أحدث الأسلحة ولا تبخل عليها بمليارات الدولارات.
تتبنى مواقفها وهي تعلم أنها خطأ، تتجاوز القانون الدولي عندما تتعارض نصوصه مع مصالح الدولة الصهيونية، تعمى عن حقوق الإنسان الذي يخرج عن الإرادة الصهيونية.
إقرأ أيضا : (سينما صهيون) غزت القدس بالأفلام الكوميدية والرومانسية والحربية (2)
في الحرب المتوحشة على غزة، لم تسمع (أمريكا) وتابعيها لأصوات الأحرار من مواطنيهم الذين عبروا عن غضبهم من الانحياز الأعمى لإرهاب الدولة الصهيونبة في الشوارع والميادين.
بل وطاردوا بايدن ووزيري خارجيته ودفاعه مطالبين بوقف الحرب دون استجابة، ولم يستحوا من مشاهد الأطفال الذين حوّلتهم الطائرات والمدفعية والدبابات الإسرائيلية أشلاءً.
ولم تهزهم صور الخراب والدمار الذي حل بمعظم المستشفيات والمدارس والمنازل، ولم تحرك فيهم ساكناً نداءات الاستغاثة من المنظمات الأممية ومن الدول الساعية لإحلال السلام بالمنطقة.
إسرائيل هى البنت الشرعية لـ (أمريكا)
السبب وراء انحياز أمريكا الأعمى لإسرائيل ليس سراً، هو معلوم للجميع، الحقيقة التي يريدون دفنها بعدم السماح بإثارتها من حين لآخر.
وقد أثارها المخرج الثمانيني المخضرم (مارتن سكورسيزي) عن سبق إصرار في فيلمه الجديد Killers of the Flower Moon أو (قتلة زهرة القمر)، الذي بدأ عرضه على شاشات السينما والحرب الإسرائيلية على غزة مشتعلة.
ليحيي السر المعلوم، وهو أن إسرائيل هي البنت الشرعية لـ (أمريكا)، تتشابهان في الملامح والنشأة والديموغرافيا والطموح.
فيلم (قتلة زهرة القمر) لم يرد فيه شيئاً عن إسرائيل ولا عن فلسطين صراحة، ولكنهما موجودتان في مشاهده، أحداثه تدور قبل 100 عام، أي بعد نشأة دولة (أمريكا).
ولكن وأنت تشاهده تحس وكأنه يحكي قصة هذه الدولة وكيف سرقها الإنسان الأبيض القادم من أوروبا من السكان الأصليين أو الهنود الحمر، وهى أيضاً قصة إنشاء دولة إسرائيل وكيف سرقها الصهاينة من أهلها الفلسطينيين.
وكيف يسعون لتوسيعها وتهجير أصحاب الأرض قسرياً إلى الدول المجاورة، ولو رفضت استيعابهم الدول المجاورة فليتم توزيعهم على دول العالم حسب تصريحات في حكومة نتنياهو وفي ظل حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي حالياً على غزة.
إقرأ أيضا : حنان أبو الضياء تكتب: اليهود وطنوا (سينما صهيون) في وسط القدس! (3)
(أمريكا) نشأت على مؤامرات الوافدين إليها على الهنود الحمر كما يقول سكورسيزي عبر فيلمه، وكذلك إسرائيل نشأت على مؤامرات الصهاينة على الفلسطينيين.
الفيلم يتناول قصة حقيقية حدثت في العشرينات من القرن الماضي لقبيلة (الأوسيدج) من الهنود الحمر، عندما تفجر النفط في أراضيهم، فجاء الرجل الأبيض والذي يجسده روبرت دي نيرو ليسطو على أراضيهم ويستحوذ على ثرواتهم.
ولم يجد وسيلة لذلك سوى إبادة القبيلة وقتل أفرادها تباعاً بالمؤامرات الخبيثة، مستغلاً زواج ابن أخيه ويجسده (ليوناردو دي كابريو) من إحداهن وتجسدها (ليلي جلادستون) وهي من الهنود الحم.
ورغم الحب الذي يحمله لها إلا أنه يقبل بقتلها من خلال حقن الأنسولين المسمومة، فالحب ليس له مكان في قلوب القادمين من وراء البحار للاستيلاء على الأرض وتكوين امبراطوريات صناعية وزراعية.
والتخلص من أهلها بالقتل تارة وبتفجير منازلهم تارة وبتسميمهم تارة، كل الوسائل ممكنة وكل الأدوات متاحة لتنفيذ المؤامرة.
(أمريكا) وتهميش السكان الأصليين
ولعل هذا السيناريو الذي حدث في (أمريكا) حتى تم تهميش السكان الأصليين وانتزاع كل حقوقهم هو نفسه الذي يحدث منذ العام 1948 في فلسطين.
لتأتي الحرب الحالية وقد سقطت ورقة التوت عن الإسرائيلي الذي لا يهتز له جفن وهو يقتل المستقبل ممثلاً في الأطفال الذين استهدفتهم آلات الحرب لتفجر براءتهم، والحاضر من خلال قتل النساء والمدنيين، والذاكرة من خلال قتل الشيوخ والسطو على التراث.
متوهمين أن التاريخ الفلسطيني يحمله فقط كبار السن الذين تستهدفهم الطائرات الحربية والمدفعية الإسرائيلية، وغير مدركين أن هذا التاريخ محفور في الوجدان العربي وفي كتب التاريخ التي أبت التزييف الأمريكي والغربي والصهيوني.
(أمريكا) تشكلت من مهاجرين جاؤوا من قارات الدنيا المختلفة يتقدمهم الأوروبي الأبيض، الذي استباح السكان الأصليين، وناهض السود وتعامل معهم كعبيد وتنمر على اللاتينيين ووضعهم في درجة أدنى، وصنع التطرف ليلصقه بالعرب والمسلمين.
والأمر ذاته ينطبق على اسرائيل التي وعد بها البريطانيون ودعمها الأوروبيون وتبناها ودللها الأمريكيون حتى تكون ممثلهم، حارس مصالحهم، وصانع مشاكل في المنطقة حتى تظل منطقتنا وثرواتها وحاضرها تحت سطوة أمريكيا.
الفرق بين الهنود الحمر والفلسطينيين أن الهنود الحمر قبلوا التهميش وتركوا البلاد للقادمين من مشارق الأرض ومغاربها وقبلوا بالحياة بعيداً في محميات خاصة بهم بعد محاولات إبادتهم.
ولكن الفلسطينيين أخطأوا مرة واحدة عندما قبلوا بالتهجير بعد نكبة 1948، وليس لديهم أدنى استعداد لتكرار الخطأ، سيتمسكون بالأرض ولن يتركوها ولن يكونوا مثل الهنود الحمر مهما كان الثمن.
إقرأ أيضا : (سينما صهيون).. (كيرك دوجلاس) وإسرائيل (4)
فيلم (سكورسيزي) تتجاوز مدته الثلاث ساعات، ورغم ذلك لا يحس مشاهده بأي ملل، إبداع فوق المعتاد من مخرج كبير لا يصنع فيلماً إلا إذا كان يحمل رسالة مباشرة ورسائل غير مباشرة، ومباراة في الأداء بين اثنين من أهم نجوم هوليوود، دي كابريو ودي نيرو.
وتدخل معهم الحلبة في هذا الفيلم الأمريكية الأصلية (ليلي جلادستون)، لتؤكد أن الأصلي أصيل في مواهبه مرهف في مشاعره مختلف في أدائه.
الأمريكيون القادمون من أوروبا قتلوا (زهرة القمر)، وارتكبوا أفظع الجرائم في حق السكان الأصليين، والاسرائيليون القادمون من أوروبا وأمريكا وغيرها قتلوا الجغرافيا وزيفوا التاريخ ولكن المستقبل سيكون لهم بالمرصاد.
mahmoudhassouna2020@gmail.com