لا ترهق ذاكرتك فلن تعرف من هو (فوزي ناشد)؟
لأنه ليس من الصحفيين نجوم الفضائيات ولم يتخذ من وصف (إعلامي) له لقبا ولا كان من الكتاب الصحفيين من محتلى صفحات الرأى في الصحف اليومية ولا يعد من نجوم مهنة الصحافة من الأساس
لكنك ممكن أن تعده هو الأساس نفسه!
اصبر قليلا.. فسأشرح لك كيف هو الأساس؟
(فوزى ناشد) عمل لمدة 40 سنة أو يزيد كمحرر صحفي فى جريدة الأهرام كواحدة من كبريات المؤسسات الصحفية فى مصر والعالم العربي، لكنه لم يشتهر ولم يسع إلى الشهرة ولا اهتم بها.
مع أنه بشهادة رؤسائه وزملائه طوال تلك الفترة، كان واحدا من أكفأ وأخلص محررى قسم الأخبار وهو القسم الذي يعد من أهم الأقسام في الصحف اليومية.
وطوال مدة خدمة (فوزي ناشد) منذ التحاقه وحتى قرب رحيله، لم تؤخذ عليه هفوة ولا تأخر عن موعد، حتى أنه كان يقدم نفسه ليعمل في العطلات الرسمية ليستمتع بقية زملائه بأوقاتهم مع أهليهم!
ولم يكن عمل (فوزي ناشد) الصحفي سهلا، فهو ليس محرر أخبار تقليدى يجلب الخبر من مصادره ليمليه على الجريدة، لكن مهمته أكثر دقة فهو الذي يتلقى الأخبار ليقوم بأكثر الأعمال الصحفية حساسية وهو إعداد الخبر في صورته النهائية التي يتلقاها القارئ وهو عمل يطلق عليه في عرف الصحافة (ديسك مان)
فتلك أهم وآخر المراحل التى يمر الخبر الصحفي، لو كانوا يشعرون.
فغير مسموح في جريدة كالأهرام كانت لوقت قريب وربما حتى الآن، تعرف (بجريدة الدولة).
إقرأ أيضا : محمد شمروخ يكتب: نقيب الصحفيين.. بين 2 كيلو لحمة وبسلة (أورديحي)!
لكن خلال الفترة التى عرفته فيها حيث كان (فوزي ناشد) أحد المعالم البشرية لصالة تحرير الأهرام، لم ألمح لديه أى عرض من أعراض أمراض المهنة، ولكل مهنة أمراضها.
فلا أثر لديه عن تلك (النفخة الكدابة) التى كانت أسوأ سلبيات المنتمين إلى عالم الصحافة عامة وفي الأهرام خاصة، كميراث هيكلى مذموم أصاب الكثيرين وأعرض عنه القليلون، حتى في القطاعات غير المتصلة بأعمال التحرير الصحفي.
فكان (فوزي ناشد) الذي مات في صمت مطبق منذ ثلاثة أيام، أبعد ما يكون عن هذه النقيصة التى عانينا وما زلنا نعانى منها كل يوم.. لا في الأهرام وحدها ولا حتى في الصحافة بل صارت تلك النفخة الكدابة أو (التناكة) مرضا يضرب بجذوره في أعماق قطاعات عريضة من الناس في بلادى، من الغفير وحتى الوزير!
اخترت هذه الناحية لأنها الملمح الأساس في شخصية (فوزي ناشد) ولا تظن أن البساطة ضعف، فقد علمتنا الايام أن أتفه التافهين وأضعف الضعفاء هم الذين يخطون خطواتهم على الأرض مرحين مستكبرين، وأن أعظمهم هم الذين يمشون على الأرض هونا.
وملمح آخر يؤكد أن (فوزي ناشد) اختار البساطة عن وعي وعمد وهو يدوس بحذائه على كل فرص الغرور والزهو!
ولطالما كنا أنا وهو نسخر من أنفسنا في جلسات الراحة لتناول الشاي والقهوة في كافيتريا الدور الرابع بمبنى الأهرام الرئيسي، وكنا نرى أننا فشلنا في فك رموز سر تلك التناكة، فأضعنا مع كثير من أمثالنا، فرص الاستمتاع بها وكذلك نهدر إثارة الغيظ في عيون الآخرين!
كان (فوزى ناشد) يجعلنا نضحك حتى تدمع عيوننا وهو يسخر من نفسه وممن حوله!.
ولأنه (مسيحي) فقد كان يتطوع بالعمل خلال ساعات الإفطار يوميا خلال شهر رمضان، وكان يحول ساعة الإفطار معه إلى مسرحية كوميدية وهو يردد (ياريت السنة كلها رمضان).
(فوزى ناشد) ومبنى الأهرام
ولكن ليس هذا فقط، فقد كان (فوزى ناشد) وهو يسخر ويزيد في السخرية، يلمس مواطن الألم في صميم المهنة، ذلك لأنها لا تعطى من يعمل بجد ولا تفتح أبوابها لكثير من المخلصين.
فالقاعدة الملعونة هى أن الذي يعمل بجد واجتهاد لا يكاد يراه أحد، دون أن يلجأ إلى محفزات من نفاق وهمبكة وانتهازية وشللية وكافة مسوغات الترقي وخاصة )شيلنى واشيلك) و.. أشياء أخرى!
مرة أخرى حتى نكون صادقين مع أنفسنا: هل اقتصر هذا على المكان الذي نعمل فيه فحسب؟!
لا وألف لا.. فما نحن يا (فوزي) إلا خلية من خلايا المجتمع العملاق في مرضه او في صحته، فما يحدث لدينا، يحدث لدى غيرنا، فلتعد بنا يا أستاذ (فوزى) إلى سخريتنا حتى لا ننفجر غيظاً!.
بلاش كلمة يا أستاذ دى.. قل يا (فوزى) بس.. احنا بلديات ياخى.
يا أستاذ (فوزى ناشد) أنت أكبر وأقدم منى، ثم إن بعض الزملاء من جيلك لا يقبلون إلا أن نناديهم بالأساتذة ليشمخوا بأنوفهم وهم يستعرضون علينا تاريخ ضرباتهم الصحفية و.. و.. و..، لكن لن أناديك بيا أستاذ (فوزى) ولكن سأرفع التكليف وأقول لك يا أستاذ بس.
وتتعالى الضحكات في ركن الكافيتريا وتتسع الدائرة الضاحكة حتى يدهمنا ما يشغلنا من جديد!
لكن لم أكتب هذا المقال لمجرد رثاء أو مدح أو اجترار للذكريات، فالأستاذ (فوزى ناشد) بعد أن اقترب من سن المعاش ثم خرج الى المعاش بالفعل وصار يعمل بنظام المكافأة، بدأ يراجع نفسه في أشياء كثيرة ولكن ليس هذه المرة كساخر.
بل إن هذا الضاحك العظيم، بدأ يشد النكير على نفسه وإذا به يدخل في نوبة اكتتاب طويلة، وما لبث أن تحالفت معها متاعب ما بعد الستين الصحية ونظر حوله، فلم يجد نفسه قد فعل شيئاً لا لنفسه ولا لأولاده الذين كبروا وكبرت معهم متطلباتهم!
فإذا كل ما كان نتاج رحلة العمل الطويلة في بلاط صاحبة الجلالة، مجرد شقة صغيرة يسكنها مع أسرته الصغيرة بحى متوسط بمنطقة نائية وليس لديه من حصيلة مشواره، إلا الذكريات على البلاط!
كيف بعد كل هذه السنين، لم يحقق أدنى ما حققه زميل في سنوات؟!
إقرأ أيضا : محمد شمروخ يكتب: 300 جنيه لـ (الصحفيين).. بدل ما نشحت!
فهو أيقن أنه لن يترك لأولاده شيئا ومكافأة نهاية الخدمة التى كان يمكن أن تغنينه عن الكثير، ورأى بعينيه خلال رحلة عمله، كيف حفظت كرامة الحياة لكثيرين سبقوه إلى المعاش، كيف تبدو الآن تبدو كالنكتة السخيفة، فهى تكفي بالكاد تكفى مصروفات سنة دراسية لعدد واحد ابن فقط لا غير!
أما المعاش، فيمكن أن بكفيه، بشرط ألا يخرج من بيته ولا يمرض ولا يشتهى أى نوع من اللحوم!.
وكان حديثنا الأخير، مفعم بالأسى!
تطرق إلى فلان وكيف أنه يملك مزرعة في الطريق الصحراوي، وكذلك الذي هو شريك في فندق في شرم الشيخ، ولا الذي لديه شركة كذا ومن اشترى أسهما في بنك كذا، مع أنهم كلهم جاءوا بعده.
وكل أبناء جيله تقريباً في الأهرام أو غيرها، منهم من ضمن مستقبل أولاده في شقق وعقارات، بل وفيلات وشاليهات في أرقى منتجعات السواحل.
أولادهم يركبون أحدث موديلات السيارات ويعلمون في أرقى المدارس والجامعات.
فماذا فعلنا نحن؟!
ولم يكن (فوزى ناشد) من الذين ارتجوا من الدنيا شيئاً من ذلك أبدا، ولكن من تحسسه قرب الرحيل بعد الأزمات الصحية المتتالية، حسب حسابا لابد منه عن أولاده، ونظر إلى كفيه، فإذا هما خاليتان!.
ماذا فعلتي بنا بعد كل هذا العمر يا صاحبة الجلالة؟!
(فوزي ناشد) وصالة التحرير
اسمع يا فوزى: أنت لم تفشل.. فوالله الذي لا إله إلا هو.. إنك ناجح.. لا وحق القسم الأعظم.. فما أنت الذي فشلت.. فإن حسب فلانا نجح بأن يكون صاحب مزرعة في الطريق الصحراوي، فأنت نجحت بألا تكون صاحب مزرعة بجوارها.
نحن لن نقيس أمورنا بمقاييسهم ولن تطغى علينا وليقول من يقول إننا نبرر عجزنا فسنظل نعتز دائماً بهذا العج!.
لقد عشت طول عمرك عفيفا ومن أجل هذه العفة لم تمد يدك حتى لما كان حقا لك.. أنت تعرف فلانا من جريدة كذا الذي خرج بخمسة وعشرين شقة من مشروعات الإسكان على مدى خدمته من نقابة الصحفيين.
هل تعرف ماذا انتهى إليه حاله.. لقد خسر كل شئ في أيام معدودات.. فلتطلب له الرحمة الآن؟!
أنت تعرف جيدا ماذا دفعوا ثمنا للمزارع والفنادق والفيلات والشاليهات والأراضي والشركات والشقق.
إنك أنت نفسك لو عاد بك الزمان لما تحملت أن تدفع ما دفعوه وكان في وسعك أن تخطو خطاهم.
لا تدع القنوط يجعلك تفقد احترامك لنفسك.
ولما رأيته صامتا رحت أداعبه تاليا عليه حكمة السيد المسيح عليه السلام الشهيرة: (أن يدخل الجمل في ثقب الإبرة أيسر من أن يدخل الغني ملكوت الله).
لكن (فوزى ناشد)، لم يعد يضحك كما كان يضحك وها هو ينظر في حسرة وكأنما يقول: (لكن ماذا سيفعل الأولاد من بعدى؟!.. هم يعرفون أنه قضى حياته صحفيا في الأهرام ولكن ما هى الحصيلة؟!
الكآبة مش لايقة عليك يا صاحبي.. الحصيلة أنك صحفي محترم.
كانت نظرته المنكسرة والهم يثقل كتفيه ويطفئ لمعان عينيه المعتاد، ثم قام واجما مستئذنا وهو يجر قدميه ليرحل عن الكافيتريا وعن جلستنا الأخيرة، ثم اختفى كثيرا ولم أصادفه بعدها حتى أفجعنى نبأ رحيله!
صدقنى لو كان (فوزى ناشد) واحداً لما كتبت حرفا من ذلك واكتفت برثائي له على صفحتى على فيسبوك.. لكنهم كثيرون في كل مكان يحملون متاعب العمل ويتحملون مسئولياته في صمت ورضا ولا يطلبون لأنفسهم إلا ما يقيم الأدنى من كل شيء.
حتى يداهمهم الزمن بتلكم الأسئلة المريعة: ماذا جنينا وماذا جنى غيرنا وماذا فعلت بنا الدنيا وما ستفعل بمن تركناهم في العراء؟!
هل ثمة من بجيب؟!
لكن لم أجد إلا إجابة واحدة جاءت في سفر الجامعة المنسوب إلى سليمان عليه السلام كما ورد بالعهد القديم:
(رَأَيْتُ كُلَّ الأَعْمَالِ الَّتِي عُمِلَتْ تَحْتَ الشَّمْسِ، فَإِذَا الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ).