بقلم الدكتور: مدحت الكاشف*
في الحلقة السابقة تحدثنا عن أن تاريخ فنون (الأداء) شهد على مرّ العصور العديد من المصطلحات، وفي بعض الأحيان كان يهتم المؤدون بالاستفادة من هذه المصطلحات فى إنماء وعيهم بفنهم أو من باب الثقافة والمعرفة.
واليوم نستكمل حديثنا عن الإبداع في (الأداء) المسرحي والتطهير، حيث نسلط الضوء على جانب آخر قائلين: أما الأحداث الدرامية فيتم اختيارها وترتيبها في تتابع يخضع للمنطق والحتمية والسببية.
وبوسائل فنية هى عناصر العرض المسرحي المرئية والمسموعة، والتي يتصدرها الممثل، مما يبعث في نفوس المشاهدين اكتفاءاﹰ ذهنياﹰ، وراحة نفسية.
وفي مسرح القرن السابع عشر رأت الكلاسيكية الجديدة أن الغاية من عملية التطهير في (الأداء) تكمن في الرسالة الأخلاقية للتراجيديا، والتى تتفق مع التعاليم المسيحية آنذاك.
ومن ثم، فإن نظرية التطهير التي كان أرسطو قد وضعها لم تتحقق في التراجيديا الكلاسيكية الجديدة إبان عصر النهضة أو التنوير التي أخذت على عاتقها إثارة عواطف أخرى غير الخوف والشفقة، كالحب، والعواطف النبيلة مثل الإعجاب البطولي على سبيل المثال.
وأن هذه الانفعالات في (الأداء) لا تطهّر النفس فحسب، بل تأتي على هيئة عظات أخلاقية على لسان الأبطال أنفسهم، وغالباﹰ ما تكون متفقة مع التعاليم المسيحية، الأمر الذي جعل التراجيديا مقومة للأخلاق، ومنفرة من الأخلاق السيئة.
إقرأ أيضا : د.مدحت الكاشف يكتب: الإبداع .. رؤية حول الحرية
وهو ما تطلب نقل مركز الصراع من القوى الخارجية المتمثلة في القدر- كما كان الحال في المسرح الإغريقي – إلى دخيلة النفس الإنسانية، وفي البطل ومسئوليته الواعية عن مصيره خلال القرن السابع عشر الميلادي.
ومما سبق يمكن أن نستخلص أن التطهير المرجو إحداثه في نفوس المتفرجين من خلال (الأداء) إنما يضع الممثل أمام عدد من المتطلبات التقنية التي تكفل له تحقيق فعل التطهير على هذا النحو الذي أراده أرسطو.
أول هذه المتطلبات يكمن في ضرورة وعى الممثل بوضع يده على نوع الانفعالات والأحداث تتشكل في تداخل وتوازي من خلال (الأداء) ، وهى الحبكة والشخصية.
مع الوضع في الاعتبار أن التراجيديا تحاكي الأفعال وليس الشخصيات، وبمعنى آخر فهي تحاكي الحياة كلها بما فيها من سعادة وشقاء، ولما كان التعبير عن أفكارالشخصية بواسطة صوت الممثل وجسده وانفعاله، الذين يتضافرون من أجل تشكيل لغته التعبيرية.
الممثل وطريقة أداء الشخصية
ففى ذات الوقت ينبغى على الممثل أن يدرس الأفكار الخاصة بالشخصية التي يؤديها جيداﹰ، حتى يستطيع أن يختار من لغته الصوتية والحركية والانفعالية ما يتناسب مع ظروفها، وطبيعتها ونواياها الداخلية.
وفي محاولة لتحقيق فكرة التطهير سواء تلك التي كان ينادي بها (أرسطو) من خلال تأكيده على ضرورة التطابق مع الشخصيات في تقديم المحاكاة عبر (الأداء)، أو التطهير الذي سعي إليه عالم النفس (كارل جوستاف يونج) من خلال نظريته في (اللاوعي الجمعي).
والتي اعتبرت التطهير مجموعة من التفاعلات البشرية، والمماثلة لمواقف كونية للإنسان منذ العصور البدائية، ومن هذه التفاعلات الخوف والغضب والصراع مع القوي العظمي، والعلاقات بين الأجناس، وبين الأطفال وآبائهم، وبين الكراهية والحب، وبين الحياة والموت، وما إلى ذلك.
إقرأ أيضا : د. مدحت الكاشف يكتب : الفنون والقيم الاجتماعية
مما يمكن معه القول إنه من خلال ذلك الصراع الكوني للإنسان تتكشف هذه الإنسانية والإجتماعية العميقة لفن (الأداء)، حيث أن علاقات التأثير المتبادلة بين الإنسان ومجتمعه ذات إرتباط وثيق بدوافعه الغريزية النفسية.
وكذلك دوافعه المكتسبة اجتماعياﹰ، ولذا فإن عنصر الإتصال من وجهة نظر علم النفس يعني نقل إنطباع أو تأثير من منطقة إلى أخرى، دون النقل الفعلي لمادة ما.
ويشير ذلك إلى إمكانية نقل انطباعات من البيئة إلى الإنسان وبالعكس، أو من فرد إلى آخر، الأمر الذي يمكن معه أن يحقق الأداء التمثيلى هدفاً علاجياً على المستويين النفسي والاجتماعي.
وهو ما يؤكده عالم النفس (جاكوب مورينو) بقوله إن إظهار الحوافز والتوترات الخاصة بالعلاقات بين الأشخاص، يؤدي إلى وعي الأشخاص لكوامن علاقاتهم بالآخرين، وبالتالي إلى شفائهم من أزماتهم.
الممثل و(الأداء) على المسرح
ويتم ذلك عن طريق الميل الطبيعي للقيام بالفعل من لدن الممثل في أثناء (الأداء) على خشبة المسرح، وهو ما يعرف بالحضور الذي يعني قدرة ذلك الممثل على أن يكون مؤثراً ومحسوساً بأفعاله وحركاته وصوته.
وهو ما يعد في الأصل جوهر النشاط الإنساني قبل أن يصبح أساس العمل المسرحي، ونجد أن هذا الميل من وجهة نظر بعض الدراسات النفسية هو استعداد انتقائي للفرد تجاه نشاط معين، يدفعه إلى المشاركة فيه.
ويرتكز على حاجة عميقة وثابتة إليه، وعلى رغبته في تحسين المهارات والعادات الموجودة لديه، ووفقاً لذلك فإن الهدف الذي يرمي إليه الإنسان/ المؤدي على المسرح هو ما يعرف بالتوحد أو التقمص الوجداني عبر المحاكاة.
والذي يتحول إلى نوع من النشاط الإبداعي، الذي يفرز عدداً من العمليات المعرفية والانفعالية التي يتعرف بها الإنسان على ذاته من خلال التماثل أو المشابهة.
وهى العملية التي يتوحد بها الشخص لا شعورياً مع شخص آخر،أو مجموعة أخرى أو نموذج آخر، وهو أيضاً آلية يضع فيها المرء نفسه موضع شخص آخر، وهو ما يظهر على شكل استغراق، أى نقل أنا، شخص ما إلى مكان وزمان شخص آخر.
وينتج عنه استيعاب المعاني ذات الصبغة الشخصية لذلك الآخر، حيث يتقاطع المجال المسرحي الإبداعي مع علم النفس، ويعني ذلك أن فعل المحاكاة يشغل حيزاً كبيراً في التاريخ الاجتماعي/ الدرامي للإنسان.
ومن ثم، يري علم النفس أن (الأداء) في المسرح يعبر عن فكرة تحول الوعي، كما يعبر عن قدرة الإنسان على رؤية نفسه، والعالم في مرآة الخيال المركبة، المتعددة الأوجه.
* أستاذ بأكاديمية الفنون