(محمد سلام) يلقي بكرة لهب تحرق رسالة الفن بجوهره الإنساني!
كتب: محمد حبوشة
ليس من المنتظر من الفنان أن يكون واعظا وخطيبا يوجه الناس بشكل مباشر وينصحهم لما فيه خير دنياهم وآخرتهم؟، ومن ثم فإن ما فعله الفنان الشاب (محمد سلام) ليس من مهامه الرئيسية، خاصة أنه خلط الفن بالسياسة.
ألم يكن من الأجدى أن يعتلي (محمد سلام) خشبة المسرح، بدلا من التسبب في خسائر الإنتاج لمجرد أن يتخذ موقفا عنترا يأتي على حساب زملائه، ويلقي بكرة لهب يحرق بها مسرح موسم الرياض؟ زاعما أن يناصر أبناء غزة في محنتهم.
ما فعله (محمد سلام) ليس موقفا وطنيا أو بطوليا يركب به (الترند) في زفة حملة المباخر، ويضع منتج مسرحيته في مأزق لمجرد أنه يستنكف اعتلاء خشبة المسرح يرقص ويغني بينما يعاني أبناء غزة قصف العدو الإسرائيلة.
كان من الأجدى أن يذهب (محمد سلام) إلى موسم الرياض ويقدم مسرحيته ويخص أجره كله (80 ألف دولار) لصالح أبناء غزة، بدلا من اتخاذ موقف يثبت عدم فهمة لجوهر رسالة الفن السامية!، وخاصة أنه نمى لعلمي بأن المستشار (تركي آل شيخ) يخصص جزءا من ريع مسرحيات وحفلات موسم الرياض الحالي لدعم أهالي غزة.
إقرأ أيضا : محمد حبوشة يكتب: (الدراما) سلاح أمضى في (طوفان غزة)
هل نلوم سيدة الغناء العربي (أم كلثوم) حين نظمت حفلات في الشرق والغرب لكي تدعم المجهود الحربي، وهى بالمناسبة لم تكن تغني وقتها أغان وطنية، بل كانت تغني للحب والسلام مخاطبة ضمير العالم كله، وبهذا ضربت أقوى مثلا في الوطنية.
وهنا أتساءل: عن أي رسالة يتحدث (محمد سلام) وأمثاله؟، وما هو مفهومهم لكلمة (فن هادف)؟، ولتسمحوا لي قبل أن أبحث عن إجابة لهذا السؤال أن أعود بكم إلى التاريخ القديم لكي نرى سويا كيف كان تعامل الإنسان الأول مع فكرة الفن وإلى أي اتجاه كان يطوع أعماله الفنية.
لقد أثارت تصريحات (محمد سلام) موجة من الغضب غير المبرر، حيث تفاعل معه كثير من الغوغاء!، ياسادة إن الثقافة في مجملها ليست وسيلة للتسلية وتزجية الوقت، بل هي عامل توعية وتثقيف قبل كل شيء.
ومن هنا كان ينبغي على (محمد سلام) الذي أراه يقدم كوميديا نظيفة إلى حد ما، أن يدرك أنه لا يمكن حصر الفن في الترفيه، لأن الترفيه غالبا ما يستخدم لوصف الأنشطة التي لا هدف من ورائها غير إمتاع الناس وتسليتهم بشتى الوسائل.
كما هو الشأن مع عروض السيرك، ومسرحيات الـ (وان مان شو)، والمنوعات التلفزيونية، والأفلام الكوميدية، وكلها تهدف إلى خلق أجواء تساعد الناس على الهروب من واقع بائس أو كئيب أو مرهق.
الفنان (محمد سلام) حين استغل عمله لتوجيه رسالة ما، هو في واقع الأمر يحيد عن غايته الأولى، أي الابتكار، فيخون جوهر الفن؟، وإذا لم تكن له من مهمة غير الترفيه عن الناس بلا غاية أو مطمح، فما الذي يميزه عندئذ عن المهرجين الذي يجهدون في محاولة انتزاع البسمة بأي وسيلة؟
(محمد سلام).. الفن انعكاس للحياة
الفن يا سيد (محمد سلام) استطاع بكل ضروبه أحداث حالة تغيير وارتقاء أو هبوط بالحس الإنساني تبعا لتوظيفه إيجابا أو سلبا، لأنه حالة إبداعية ملهمة تؤثر عميقا في النفس الإنسانية.
الفنون وسيلة الشعوب للتعبير عن آمالها وطموحاتها، أفراحها وأتراحها، وهى تصوير الفنان لانعكاسات الحياة بتوتراتها ونجاحاتها في وجدانه، وهي ميدان من ميادين الاستخلاف والتعمير، بما هى مواهب ممنوحة من الله عز وجل.
وفطرة مركوزة في النفس تنفعل بها أداء واستمتاعا، تحقق إنسانيتها وتسمو بأذواقها وتهفو بها إلى عوالم تسمو فيها النفس وتشف الروح، فكيف تقوم نهضة أو ترقى فكرة أو يسعد مجتمع دون أن يكون للفنون حظ الأولوية في اهتمامه ونصيب الأسد في ثقافته وحضارته!
ياسيد (محمد سلام): لو قلنا أن الهدف من الفن هو الترفيه ومتعة المشاهدة والترويح عن النفس، فهذا معناه أننا نلغى الهدف الأسمى للفن، حيث أن الفن يقدم معايير إنسانية وقيمية صرفة لأنه يتعامل مع الروح البشرية بشكل مباشر.
إن الفن يترجم المشاعر والأحاسيس إلى لغة متعارف عليها من قبل المتلقى، لأن الفن ليس له وطن، وهو سريع الانتشار إذا كان فنا راقيا فيبقى فى الوجدان، ويعبر الحدود والأمنكة والأزمنة.
وهوعابر القارات ولذا هو مؤثر فى وجدان الناس بأسرع ما يمكن، لما يحمل من رسالة عميقة ومسؤولية تجاه البشر، فنحن حين نرى عملا راقيا يحمل فى طياته أهداف وقيم إنسانية، ننحنى له إجلالا لآننا تأثرنا به تأثرا مباشرا .
إقرأ أيضا : (طوفان الأقصى) يتجسد في ألبوم (يا قدس يا حبيبتي) تحية لشعب (فلسطين)
إن الفن أيها الممثل المتواضع الموهبة محمد سلام) يرتقى دائما بوجداننا، لأنه يتناول قضايا ومشكلات المجتمع الذى يعايشه، والفن الراقى دائما يحوز على أعجاب الناس لآنه أثر فى وجدانهم بالإيجاب، لأنه بعيد كل البعد عن الآبتذال والآسفاف.
ودائما الفن لا يكون مصدرا لتدمير قيم المجتمع وأخلاقياته ولكنه يكون مصدرا لتوعية العقول، فهو يوقظ العقول الغافلة عن قضايا الآمة، ويحارب الانحلالات والانحرافات، إن الفن الذي يقدمه (محمد سلام) وأمثاله الآن أخذ فى الانحراف والانجراف عن المسار الذى نريده منه.
نحن نريد فنا يرقى بالأمة، ويرقى بأذواقنا ويسمو بأرواحنا، لآن هناك أعمالا لا ترقى الى المستوى المطلوب والمبتغى منه، إن ما يعرض علينا هو تدمير للخلق والخلق، فكيف بالله عليكم اقتنع (محمد سلام) باشتراكه في مسرحية لاترقى من وجهة نظره لمستوى المسئولية؟
(محمد سلام) والتجارة الرخيصة
نحن نريد من (محمد سلام) وغيره فنا بعيدا كل البعد عن المرابحة والتجارة الرخيصة لأن هناك إناس يدخلون عالم البيزنس عن طريق الفن وهو طريق سهل من منظور تجارى بحت وليس لديهم أى رسالة موجهة الى المجتمع.
فكل رسالتهم هو أن يربحون، فيوظفون أموالهم لإنتاج أعمالا فنية مهينة ورخيصة وهابطة ومسفة، يفسدون بها أذواقنا، ولا تنتمى هذه الأعمال إلى الفن بصلة، فنشعر أننا نشاهد إسفافا تجاريا وليس عملا فنيا وما أكثر هذه الأعمال.
إن دور الفنون يا أستاذ (محمد سلام) لايقل أهمية عن بقية العوامل المؤثرة في ثقافة المجتمعات بل ربما كان أهمّها لما لها من ارتباط بوجدان الإنسان وسلوكه، فالفنون بمختلف أنواعها أنشطة إبداعيّة تهدف إلى تحقيق غايات كليّة كالجمال والخير والمنفعة.
بل إنها تفتح آفاقا رحبة للتعامل الإيجابي مع المحيط بصفة خاصة والكون بصفة عامة، فهي حالات ملهمة تؤثر بعمق في النّفس الإنسانيّة وتساعد على خلق توازنها النّفسي والوجداني والاجتماعي.
فمن خلال الفنون يعبر الإنسان عن ذاته، وعن رأيه وإحساسه ويتطهر من المشاعر والأحاسيس المكبوتة المترسبة في نفسه، ويسهم في تحقيق شخصيته المتكاملة في أبعادها المختلفة: العقل والتفكير، الروح والقلب والإحساس، الإرادة والإبداع!
إقرأ أيضا : (مارسيل خليفة) .. صوت الغضب الفلسطيني المحاصر بالمآسي!
إن الأعمال الفنية ليست من وجهة نظر (محمد سلام) وغيه كثيرون ليست مجرد منتوجات مادية جميلة فحسب، بل هى أيضا حاملة لرسالة إنسانية نبيلة تهدف إلى السمو بالإنسان والرقي بأحاسيسه تجاه الحب والخير والجمال.
والفنان (محمد سلام) هو كائن يفترض أن يكون مبدعا يمتلك الحس الجمالي والإبداعي تجاه الأشياء، ولأنه ابن المجتمع فعليه أن يعكس الواقع في صور أكثر جمالا مما يراه الشخص العادي.
ونتيجة لقدرته الإبداعية ومواهبه يستطيع أن يستقطب الناس ويصبح محط أنظارهم ويجلب حبهم فيتحول إلى قدوة لهم مما يجعله قادرا على إحداث تأثير إيجابي فيهم، فينقلهم من واقع سلبي إلى واقع إيجابي.
(محمد سلام).. ما هكذا تورد الإبل
وفي النهاية أهمس في أذن (محمد سلام) وأمثاله قائلا: إن الاهتمام بالفنون ودعمها شرط من الشروط الأساسية للنجاح في مهام إعداد مواطن متكامل الشخصية، مهذب النفس، مستجيبا لغرائزه بطريقة متوازنة له ذوق رفيع وإحساس بالجمال يحقق له إنسانيته ويفتح له آفاق العمل والإبداع والتّعايش والسّلام.
وعليه فإن انتشار الفن ووجود عدد كبير من الفنانين أمر حيوي لتحقيق الإصلاح الثقافي المنشود لأنه سيساهم في ارتفاع المحصول الفني والإبداعي للمجتمع ويخلق نوعا من الاستقرار النفسي والوجداني للجماهير، فيفتح بذلك الطريق أمام بقية (المصلحين) في الميادين الحيوية الأخرى لتنفيذ مهامهم في أحسن الظروف.
إقرأ أيضا : المسرح يؤكد عمق جرح (فلسطين) الذي أحدثه العدو الصهيوني
ويعد المسرح الذي كان يفترض أن يعتليه (محمد سلام) وسيلة للتفاعل مع أفراد المجتمع سواء من العاملين في المسرح أو من الجماهير الحاضرة لمشاهدة العمل المسرحي، وبالتالي فإن المسرح يعد وسيلة للتأثير وإحداث التغيير في المجتمع.
وذلك من خلال تعزيز الخطاب والحوار الاجتماعي، وإلقاء الضوء على جوانب مختلفة في المجتمع، وإظهار وجهات النظر المعارضة، مما يساهم في دراسة المشكلات المجتمعية ومحاولة إيجاد حلول لها.
وعلى المستوى الأوسع فإن الفنون الأدائية تساعد على تثقيف المجتمع بأكمله، حيث تجعله مطلعا على المواقف الاجتماعية السائدة، والعقليات المختلفة في المجتمع، فيكون المسرح أداة لتثقيف الناس حول ظروفهم الحالية.
كما أن المسرح ظل ملازما للإنسان، ومجسدا للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي يعيشها، بل إنه كان مؤثرا ومشاركا في بلورة هذه الأنساق وصياغتها وبثها للمجتمع، ولهذا كله: ما هكذا تورد الإبل يا (محمد سلام)!