بقلم: محمد حبوشة
لم تعد الأعمال الفنية الدرامية والسينمائية مواد للترفيه فقط، بل إنها أصبحت تمثل إحدى أهم أدوات (القوة الناعمة) التي تمتلكها الدول وتحرص على تطويرها لدعم حضورها وربما نفوذها خارج حدودها الجغرافية من خلال (الدراما) تحديدا.
وقد تبلور توظيف صناعة السينما و(الدراما) عالميا وإقليميا خلال السنوات القليلة الماضية بشكل كبير، لا سيما مع تطور هذه الصناعة ومواكبتها للتقنيات الحديثة، حيث اتسمت معظم الأعمال الدرامية الوافدة على وسائل الإعلام العربي بمستوى عال من الحرفية وجودة جماليات الصورة، والإخراج.
وهو ما جذب المتلقي ناحية المتابعة لمشاهدة المزيد من عناصر الإبهار التمثيلية والجمالية عبر أعمال (الدراما) في ظل رتابة المحتوى المقدم محليا، وتدني المستوى التقني للصورة، وهى عوامل تصب في صالح هذه الأعمال الوافدة.
إقرأ أيضا : (التغريبة الفلسطينية).. أيقونة دراما (فلسطين) بلا منازع (2)
بل هو ما ساعد في جعلها أكثر جذبا وملاءمة للتصدير إلى الخارج، وفي هذا الإطار تنوعت أهداف الأعمال السينمائية والتليفزيونية، في تحسين الصورة الذهنية عن تلك الدولة، أو خدمة أهداف سياستها الخارجية، وغيرها من أنماط توظيف هذه الصناعة.
ومن هنا يمكن أن تلعب (الدراما) دورا في تغيير الصورة الذهنية حول القضية الفلسطينة الحالية في ظل أزمة (طوفان الأقصى)، وهنا لا أتحدث عن إنتاج جديد، بل لابد من تضمين المنصات والقنوات العربية بعض الأعمال الموثرة في القضية بها للشباب الحالي.
وخلال السنوات الماضية برزت الأعمال الفنية المصرية والسورية في معالجة القضية الفلسطينية، سواء ما يتعلق بمأساة التشريد واللجوء، وغيرها موبقات ارتكبها الصهاينة في أرض فلسطين على مدار 75 عاما من المعاناة.
وقد استطاعت أعمال (الدراما) مثل (التغريبة الفلسطينية، عائد إلى حيفا، أنا القدس، حدث في دمشق، الاجتياح، حارس القدس)، عبور حدودها الجغرافيا في التعبير عن مأساة الشعب الفلسطيني بداية من النكبة ومرورا بالانتفاضات المختلفة.
المنصات والدراما الفلسطينية
ومن هنا ألفت نظر المنصات القنوات العربية بوضع تلك المسلسلات وغيرها في قائمة العروض التي تقدم جنبا إلى جنب مع (الدراما) المقتبسة أو المعربة من أعمال أجنبية، في ظل تدنى محتوى بعض الأعمال الفنية المحلية المقدمة وتكرار مضمونها.
ظني أن تصرف مثل هذا بإعادة عرض (الدراما) الفلسطينية سوف يشحن الشارع العربي تضامنا مه شعبنا المحتل والمحاصر منذ سنين طويلة، وربما لاحظنا أن هنالك تطور نوعي في توظيف الدراما سياسيا خلال المواسم الأخيرة على المستوى العربي. ونخص بالذكر مسلسلات (الاختيار، وهجمة مرتدة – مصر، حارس القدس – سوريا، محمد على رود، وأم هارون- الكويت، ممالك النار – الإمارات)، إذن لماذا نتواري نحن في المجتمع العربي قليلا وراء يافطة (لا لتوظيف الدراما في الشأن السياسي)، بينما عدونا حيث يستخدمها الصهاينة كسلاح قوي في تزييف التاريخ لصالحه.
إقرأ أيضا : تحفة الدراما السورية “حارس القدس” .. الفن في خدمة الدي
(الدراما) السياسية ياسادة مهمة للغاية في تنمية الشعور الوطنى فى ظل التحديات التى تواجه حصون الوعى، وبالتأكيد مهمة ليست هينة خاصة أنها فى معركة لمواجهة معتقدات ومبادئ تتعلق بالأرض والهوية.
إلا أن دراما المخابرات المصرية استطاعت تحقيق المعادلة الصعبة فى تقديم محتوى قادر على تفعيل الدور التثقيفى والتوعوى، وإسهامها بشكل كبير فى بناء عقليات ناقدة قادرة على التلقى الفعال لمضامين تلك الصناعة المصرية.
بالإضافة إلى الجاذبية الخاصة التى تحققها بكشف أسرار شخصياتها محور العمل، وأحداث خفية حدثت بالفعل، ودورها فى بث رسائل موجهة للجهات المعادية، فكانت بمثابة مدفعية ثقيلة على جبهة معارك الوعى.
(الدراما) تستقي مضمونها من الأزمة
وهناك هناك أعمال من (الدراما) مميزة – ذكرت بعضا منها – استقت مضمونها من واقع ملفات الأزمة الفلسطينية، استطاعت التفرد باهتمام الجمهور لما تتمتع به من أهمية فى المعالجة الدرامية لأحداث وقعت بالفعل وإظهار الخفايا منها بحرفية شديدة.
وقد نجحت (الدراما) الفلسطينية) فى تعرية خيانات ترتكب باسم حقوق الإنسان عبر منظمات تلتحف بستار المجتمع المدنى لتكشف عن مخططات تحاك ضد الفلسطنيين، وإزاحة الستار عن زيف الإعلام المضاد وإلقاء الضوء على أبطال حقيقين.
وكانت بمثابة العميل السرى لتحريك وصناعة الوعى بنفحات وطنية، وهو المطلوب حاليا من خلال أعمال من (الدراما) الواقعية التي تتحدث عن المأساة الفلسطينية على أرض الواقع العربي الحالي.
هذا بدوره يتصدى لمواجهة قوى الشر العالمية التي تساند إسرائيل حاليا، والتشكيك في النضال الفلسطيني في توجهها نحو توظيف القوى الناعمة لمصلحة السياسة، وهو توجه سليم للغاية، بحيث تساهم في تشكيل الهوية وتضرب الأمثلة في البطولة والفداء، كأعمال (الدراما) التي لعبت دورا في توثيق مآسي فلسطين.
إن إعادة عرض (الدراما) الفلسطينية حتما سيكون لها تأثيرا على الجمهور لما تبثه من روح الانتماء وحب الوطن، والتأكيد على الهوية الوطنية وتقديمها للعديد من المعلومات التي تخفى على الكثيرين.
إقرأ أيضا : حارس القدس وحراس الدراما السورية
ومن ثم يكمنها الكشف عن الكثير من الحقائق التي يحاول أعداء الوطن طمسها أو تزييفها، وذلك في جو من الإثارة والتشويق، سواء عبر منصة (نيتفلكس) أوغيرها من منصات نجحت في تشوية صورة الفلسطيني المقاوم.
على أية حال أحب أن أشير إلى غياب القوى الناعمة طويلا عن القيام بدورها في كافة القضايا المصرية والعربية، ولم نحاول أن نستغل الأعمال القيمة بالغة الأثر في تاريخ الدراما العربية – على غرار مافعل (أردوغان) في (قيامة أرطغرل).
ومنها على سبيل المثال مسلسل (التغريبة الفلسطينية) الذي تناول النكبة الفلسطينية، وهو ما يستدعي التوقف أمامه طويلا بما يحمله من وثيقة تاريخية صورت المأساة الفلسطينية منذ مطلع الثلاثينيات حتى هزيمة يونيو عام 1967.
والتي تعتبر واحدة من أهم المراحل في تاريخ القضية الفلسطينية، بانعكاسها في الصراعات والتفاعلات الاجتماعية والإنسانية والسياسية بين شخوص العمل القائمة على عائلة (أحمد الشيخ يونس) الملقب بـ (أبوصالح) محور التصاعد الدرامي للأحداث.
لما تمثله من انكسارات وخيبات ومحاولات جيل كامل من الفلسطينيين البحث عن خيط نجاة، وهى بالمناسبة تفوق في مستواها الفني كل المسلسلات التركية التي تمجد الدولة العثمانية حاليا.
تكثيف الخط الوطني في (الدراما)
أعتقد أن هنالك حاجة ماسة لتكثيف هذا الخط الإنتاجى الوطني بحس سياسي أو مخابراتي، فقد ثبت أنها شديدة الأهمية وشديدة الجاذبية وفى نفس الوقت لها قاعدة جماهيرية كبيرة مثل (عائد إلى حيفا).
ومن الضرورى الاهتمام بتنمية الحس الوطنى وتحريك الوعى لأننا نواجه معركة أساسها مشكلة لايجب غض الطرف عنها وهى آفة الجهل ومن مظاهر الجهل عدم الوعى أو الوعى الزائف.
وذلك من الممكن تحقيقه من خلال المسلسلات الموجودة فى ملفات القضية الفلسطينية التى تركز على مفهوم الأيدلوجية للأفكار والمعتقدات الكامنة فى أنماط سلوكية معينة، كذلك سياسة التعامل مع الآخر والصراع الخفى والظاهر.
إقرأ أيضا : السينما السورية عالجت قضية (فلسطين) بصورة تتفوق على المصرية ! (2)
وكافة أنواع الصراعات التى من ضمنها الصراع على الأرض والهوية والمقومات الخاصة بالثروات الطبيعية للبلاد العربية، جميعها تدخل فى نطاق أجهزة المخابرات التى تعتبر منجم ذهب للدراما فهى تقدم المعرفة والمعلومة اللازمة لبناء مشروع قومى قوى ومتكامل.
نعم نحن بحاجة لـ (الدراما) الفلسطينية حاليا، لما لها من أهمية كبيرة، فهى بمثابة سيرة ذاتية لأبطال حقيقين لايعرف عنه الكثير وإلقاء الضوء على أحداث خفية حدثت بالفعل وكان لها تأثير قوى على أمن وسلامة الوطن العربي.
الاستعانة بـ (الدراما) القديمة
لذلك يجب الاستعانة بالمسلسلات القديمة – طبعا – دون الملفات الحديثة فالمسألة شائكة تمس الأمن القومى والمخابرات لن تسمح بتداول أى معلومة إلا اذا كانت متأكدة مئة بالمئة أنها تدعم الأمن القومى وتبعث برسائل ضمنية للاعداء والمتربصين.
إننا نمتلك جهاز مخابرات قوى وأن هذا الجهاز قوى ويقظ جدا وأن يتضمن أبطال ثعالب ونسور محلقين أرضا وجوا قدموا أرواحهم فداء للوطن دون مقابل، بالاضافة إلى أنها قادرة على تعرية وكشف خيانات الدول المعادية، كما ظهر في مسلسل (الاجتياح).
وهذا الدور سيؤكد أننا مجتمع يقظ ومنتبة لكل مصادر الخطر التى قد نواجهها فلسنا فى سبات ونتحصن بأدوات أساسها رجال وجنود بواسل وخطط وعقول فطنة، فأحذرونا، ولعل لنا أمثلة شاخصة أمامنا الآن في معركة (طوفان الأقصى)، وربما هذا هو المطلوب حاليا في ظل التحديات التي تواجه فلسطين.
و(الدراما) باعتبار من أهم أدوات القوى الناعمة في وقتنا الحاضر يفترض إخلاصها في اختيار الموضوعات ذات الطابع الاجتماعي المفيد الذي من شأنه علو الشأن الوطني لصالح الوطن.
ومن ثم يقع عليها عليها العبء الأكبر في اتساع (مغناطيس الجذب) للطاقات الخلاقة لقوى الشباب، عن طريق شن الحرب الثقافية العقلانية لتغيير المفاهيم الوطنية وتشذيبها من كل ما يخالف المنطق والعرف في التراث الديني بالذات ـ وبخاصة نظريات عدم قبول الآخر سياسيا وعقائديا.
إقرأ أيضا : سينما (فلسطين) تشرب من نفس كأس ظلم القضية ! (1)
تلك هى اللعبة التاريخية التي ينتهجها الغرب منذ طرد الاحتلال العسكري من الشرق الأوسط، فكان الالتفاف عن طريق إثارة النعرات القبلية والطائفية والمذهبية بين الدول العربية والعالم الثالث بوجه عام.. وتلك الأفكار نتمنى تجسيدها واقعيا المنصات والقنوات الفضائية.
لابد أن نسعى لغرس كل ما يحض على تقوية الوازع الوطني والارتقاء بالشعور بالذائقة الجمالية وتنمية الثقافة المعرفية بكل الشفافية بأوضاع الوطن، ومنه فلسطين بالقلب – وتحدياته الآنية والمستقبلية – إنه الوطن ياسادة: فماذا بعد ضياع الوطن وتمييع الهوية؟.
وهذا دور منوط بصناعة الدراما العربية الجادة وليست تلك النوعيات الرديئة والهزيلة والتي تركز على السطحية والفوضى والعنف والعشوائية، وفوق كل ذلك تلك التهويمات والخرافات حول المستقبل.