بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
فبرغم أنى كنت أستكمل قصة استعادة (مهرجان القاهرة للمسرح التجريبى) منذ عدة أسابيع – بمناسبة دورته الثلاثين – بعد ست سنوات من التوقف، وهناك كثير من الأسرار التي لم تُكشف في رحلة الصراع من أجل تلك العودة، لكن (الدم الفلسطيني) أوقفني عن مواصلة الكتابة هذا الأسبوع.
وذلك برغم أنى أعرف كثيرا من تلك الأسرار وتحت يدى وثائقها، ومن واجبى أن أنشرها ليعلم بها الجميع، فقد تقاطعت فيها الوقائع مع بعض من أحداث سياسية هامة تشكل جزءا من التاريخ المعاصر.
لتكشف عن خبايا الحياة الثقافية في مصر بعد ثورتين كان للمثقفين فيهما دور رائد، إلا أن الأحداث الجارية قد أصابتنى باكتئاب شديد و حزن مرير، فقررت ألا أكتب مقالى هذا الأسبوع.
إقرأ أيضا : (فلسطين).. أطلقت شرارة الثلاثي (أم كلثوم ونزار وعبدالوهاب)
كيف أكتب وعيونى معلقة بشاشة التليفزيون تتابع الأخبار، متنقلة بين شتى القنوات الإخبارية وكأننى سأجد على إحداها ما هو مختلف عن الأخرى، فكل القنوات قد اصطبغت بـ (الدم الفلسطيني)، الذى صفع وجه العالم بعد مجزرة المستشفى الأهلى المعمدانى، والقصف الذى طال كنائس و جوامع و مدارس و حتى مراكز إيواء خاصة بالأمم المتحدة .
وأمام الشاشة كانت الأفكار تتسارع و تتصارع داخل عقلى ، فحينا أرى ما قامت به حماس نوع من أنواع المخاطرات غير محسوبة العواقب ، فلم تراع في حساباتها رد الفعل الاسرائيلى و لم تتحوط له.
ربما بسبب العدد الكبير من الرهائن فظنت أن إسرائيل ستخشى الرد حفاظا على حياتهم، و لكن الكيان الغاصب تخلى عن مبدأه بالحفاظ على حياة مواطنيه و ضرب بكل عنف كل شيئ و أي شيئ لأهدار مزيد من (الدم الفلسطيني)، وأحيانا أخرى أرى أن مقاومة المحتل لابد لها من أثمان تدفعها الأوطان و هى راضية مهما بلغت.
وأن ما فعلته المقاومة هو أمر واجب وحتمى في مقابل خطط الاستيطان والحصار وغلق كل السبل أمام إقامة دولة للفلسطينيين حسب قرارات الشرعية الدولية .
وزارة الثقافة و(الدم الفلسطيني)
وسط كل هذا جاء قرار وزارة الثقافة المصرية بإيقاف جميع الأنشطة بسبب الحداد الذى أعلنته الدولة جراء (الدم الفلسطيني) المهدور، فأصابنى هذا القرار بالحيرة.
هل من المفترض أن يشمل الحداد توقف الفعاليات الثقافية أيضا؟، هل تلك الأنشطة و الفعاليات من عروض و مهرجانات هى (لهو) يجب أن نتوقف عنه في أحداثنا الجادة و المحزنة؟
أين إذن ما نصدع به رؤوس الناس ونملأ به الصحف والبرامج الإذاعية والتليفزيونية، إن الفن هو أحد أسلحة المعركة؟ أليس له دور في الأحداث الكبرى؟ هل في حدادنا أغلقنا المصانع أو المدارس أو المخابز؟، أليس الفن هو غذاء الروح ومثير الهمم ورافع الروح المعنوية، ومنه نستمد الفهم والوعى ، فلماذا نغلق أبوابه؟
أذكر أننا اعترضنا من قبل على إيقاف الأنشطة أثناء فترة حربنا على الإرهاب بعد ثورة 30 يونيو بسبب الحداد، وقلنا إننا بهذا الإيقاف نحقق للإرهاب مسعاه، و نؤكد على أن الفن ليس له دور وإنما هو أمر زائد عن الحاجة.
وضربنا مثلا بأن المسارح فتحت أبوابها أثناء العدوان الثلاثى على مصر (ظهرا) لتستقبل الجمهور، وأن الفرق المسرحية تسابقت على تقديم عروضها أثناء حرب أكتوبر 1973.
إقرأ أيضا : (طوفان الأقصى) يتجسد في ألبوم (يا قدس يا حبيبتي) تحية لشعب (فلسطين)
لم نتوقف بسبب الحداد على شهدائنا في حروبنا الكبرى، فلماذا نتوقف الآن ؟ إلا لو كانت النظرة للفن أنه (لهو) فعلا، وأعود فأذكّر أن بريطانيا منحت نوط الشجاعة اثناء الحرب العالمية الثانية لـ (الملهى الليلى) الوحيد الذى استمر في العمل برغم غارات النازى على لندن، في سابقة تحدث للمرة الأولى أن يحصل مكان – و ليس شخص – على نوط الشجاعة.
أعلم أن دور العرض السينمائى تعانى من انخفاض الإيرادات إلى النصف تقريبا، وأن معظم منتجى الأفلام قد أجلوا عرض أفلامهم الجديدة الى موسم أعياد رأس السنة، فليس هناك اهتمام من الجمهور.
حرب غزة و(الدم الفلسطيني)
الكل في انتظار ما ستفسر عنه حرب غزة التي يسيل فيه (الدم الفلسطيني) يوميا، والتي لا نعلم مدى اتساعها، ولا متى تنتهى، و كيف ستكون صورة الشرق الأوسط بعد انتهائها.
وألاحظ أن وزارة الثقافة لم تكن الوحيدة التي أوقفت أنشطتها، فهناك مهرجانات خاصة (كمهرج الجونة السينمائى) قد تم تأجيل دورته القادمة، ولكن هذا دفعنى إلى التساؤل:
ألم يكن من الأفضل لمهرجان القاهرة السينمائى الدولى – كمهرجان حكومى – أن يخصص دورته القادمة لدعم فلسطين بدلا من إلغائها، إن التبرع بدخل المهرجان من التذاكر المباعة للهلال الأحمر الفلسطيني.
أو تخصيص قسم من المهرجان حول السينما الفلسطينية، أو عرض أفلام تسجيلية عن الواقع الفلسطيني والهوية التي يسعى العدو لتغييرها، إحداها أو كلها كان أفضل من الإلغاء، بل إن مجرد تجمع عدد من فنانى العالم تحت شعار أوقفوا ضرب غزة كان أفضل من ذلك الإلغاء.
ولكنى في نفس اللحظة تساءلت: ربما كان الفنانون الذين أطالبهم بالعمل قد أصيبوا مثلى بالاكتئاب والحزن بسبب المذابح، والإحباط من الموقف الدولى المتخاذل، لدرجة أننا صفّقنا لباسم يوسف لمجرد أنه أحرج مذيعا و كأن هذا نصرا.
إقرأ أيضا : السينما السورية عالجت قضية (فلسطين) بصورة تتفوق على المصرية ! (2)
ثم عدت أقول لنفسى أنه قدم أفضل ما يستطيع في مجال عمله و ربما هذا ينبه بعضا من مشاهدى الغرب لما يحدث.
و لما رأيت نفسى مشتتا، أقول الأمر وعكسه وتنتابنى الحيرة، عدت أتابع الشاشة متنقلا بين القنوات على أمل أن أرى شيئا مختلفا، وعلى لسانى جملة اعتقد أننى سمعتها في إحدى مسرحيات عبد الرحمن الشرقاوى: (ربى أنت جبار السماء، اشفِ صدرى، نقمةً تُشفى الصدور، نقمة تُشفى الصدور).
و قررت ألا أكتب مقالى هذا الأسبوع.. ليس حدادا وإنما تضامنا مع الشعب الفلسطيني و(الدم الفسطيني) المهدر على الأرض المقدسة.