بقلم: محمد حبوشة
بعيدا عن النظرة الإيجابية لقناة (الجزيرة) ولسياستها الإعلامية التي أبهرت نسبة كبيرة من المتلقين لأسباب يتعلق أغلبها بالعطش الإعلامي الذي عانى منه المشاهد العربي، ووجد في (الجزيرة) ما يروي ضمأه خاصة في سنوات بثها الأولى.
نجد أن هناك نظرة سلبية للسياسة الإعلامية لـ (لجزيرة)، حيث يرى ناقدوها أنها أصبحت دولة داخل دولة واكتسبت من القوة والجبروت ما يضعف الرأي المخالف لسياستها الإعلامية المبنية على مبدأ التركيز على مشاهد إعلامية على حساب مشاهد أخرى.
لكني اليوم أصفها بالمهنية والحرفية العالية جدا في تغطيتها لـ (طوفان الأقصى) وذلك على الرغم من أنه في ظل التطورات الخطيرة التي عرفتها الدول العربية أنظمة وشعوبا، تعالت أصوات النقد للجزيرة، حيث يرى أصحاب هذا الرأي السلبي تجاه القناة – الأبرز عربيا – أن الحرية ليست رفاهية مطلقة، بل هي التزام ومسؤولية.
ومن هنا فقد حملت أمانتها في إدراك خطورة الكلمة وأبعادها وتأثيراتها، بخاصة في فترة حرجة كالتي تمر بها أمتنا العربية، بدءا باحتلال العراق عام 2003 مرورا بتقسيم السودان والعدوان الأطلسي على ليبيا والفوضى في مصر وتونس واليمن وانتهاء بالأزمة السورية.
إقرأ أيضا : قناة (الجزيرة) .. شوكة في ظهر العلاقات المصرية القطرية !
ومع ذلك فإن (الجزيرة) الآن أثبتت جدارتها في تغطية أحداث (طوفان الأقصى) في غزة والضفة ورام الله وتل أبيب، وغيرها من مناطق فلسطين الملتهبة حاليا بنار الصهاينة الذين استباحوا الدم الفلسطيني في غيبة من ضمير العالم الخرب.
عبر مراسليها الذين يمتازون بالكفاء والمهنية نجحت (الجزيرة) في أن تجعلنا نتسمر أمام شاشتها ولا فكاك منها طوال ساعات الليل والنهار، ففي كل لحظة ودقية تجد جديدا يشفي غليلك من أخبار على مدار الساعة أو تحليلات سياسية عميقة.
منذ اللحظة الأولى لانطلاق معركة (طوفان الأقصى) حرصت الجزيرة على الحديث عن أسباب الهجوم المفاجئ للفصائل الفلسطينية من حيث التوقيت والحجم، وما اعتبره هؤلاء فشلا عسكريا واستخباراتيا إسرائيليا سيترك آثارا دراماتيكية على الأوضاع في المنطقة والعالم بشكل عام.
ذكاء ومهنية (الجزيرة)
بذكاء ومهنية كبيرة جدا استطاعت الجزيرة أن تصفع وجه الإعلام العالمي الذي يتحكم فيه اليهود، حين أكدت أن أداء استخبارات حماس كان هو الأفضل، إذ قامت بعمل جيد في غسل أدمغة الإسرائيليين الذين كانوا نياما عند بدء الهجوم.
وعلاوة على ذلك، لم يتمكن نظام الدفاع الجوي الإسرائيلي (القبة الحديدية) من مواجهة الهجمات الصاروخية من قطاع غزة؛ لأنه غير مصمم لاعتراض عدد كبير من القذائف.
مراسوا (الجزيرة) أكدوا بحرفية عالية وهم تحت القصف والدمار الذي خرب كافة منطق غزة في تغطيتهم أن تل أبيب لم تصدق أن الفلسطينيين سيجرؤون على تنفيذ عملية برية واسعة النطاق، ومن هنا كانت هزائم إسرائيل في الساعات الأولى.
أظن أن كثيرين منا في عالمنا العربي يلمسون جيدا كفاءة الجزيرة على مدار الثانية الدقيقة والساعة في تغطية ما حاولت وسائل الإعلام الغربية إخفاءه في محاولة لطمس حقيقية ارتكاب جرائم حرب إبادة في غزة.
إقرأ أيضا : الجزيرة تحرض المصريين على ضرب السد الأثيوبي
ويكمن سر إعجاب بقناة (الجزيرة) بأن مذيعيها الأكفاء لايتركون فرصة لتطور ما إلا وهم يتناولوها بالبحث والدراسة والتحليل، ومنها على سبيل المثال تصريحات رئيس الموساد الأسبق لقناة إسرائيلية: حماس تجهز لنا مصيدة إستراتيجية ويجب تدمير مستشفى الشفاء.
وفضحت الجزيرة بإظهار تصريحات (يتوم) خلال مقابلة على القناة الـ 13 الإسرائيلية والتي قال فيها: أن على إسرائيل تدمير المستشفى ومواصلة الحفر للأسفل بالقنابل؛ لأنه لو كانت معلومات تل أبيب الاستخبارية صحيحة، فإن ذلك سيمنحها القدرة على سحق قيادة المقاومة التي تقف وراء الحملة الرهيبة التي تشن حاليا، في إشارة إلى عملية طوفان الأقصى التي بدأتها فصائل المقاومة قبل نحو عشرة أيام.
كما رصدت الجزيرة نشر عضو الكنيست الإسرائيلي (داني دانون) مقطعا يعود إلى لحظة سقوط صاروخ على سديروت خلال زيارته لها، حيث ظهر وهو يفر هاربا مع بدء التحذير من سقوط الصاروخ الذي كان يحلق فوق مكان وجوده.
ولعل إذاعتها لبيانات كتائب الأقصى، وكذلك الناطق باسم سرايا القدس متوعدا جنود الاحتلال: أهلا بكم في الجحيم، كان صادما للإعلام الإسرائيلي والعالمي، حين قال الناطق باسم سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي (أبو حمزة) في كلمة مسجلة له:
إن المقاومة لا تزال تخوض المعارك بكل ثبات، ولم ينل من عزيمتها كل ما تقوم به إسرائيل، مؤكدا أنها أعدت جحيما لجنود الاحتلال الذين يتجهزون لاقتحام قطاع غزة، وأكد أبو حمزة أن مقاتلي المقاومة يسطرون يوميا أروع معاني الصمود والالتحام مع جيش الاحتلال.
نجحت (الجزيرة) في بث البيانات
وكذلك نجحت الجزيرة في بث بيان إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحماس، والذي خاطب جماهير الأمة العربية بضرورة السعي لمساندة قضية فلسطين العادلة، فضلا عن لغة خطابه القوية للاحتلال الصهيوني الأرعن في حربه غير المتكافئة، وكذلك بيانات (كتائب القسام، كتائب الأقصى)، وغيرها من فصائل المقاومة.
الجانب الإنساني يبرز بوضوح في تغطية (الجزيرة) في عرضها لأحوال المعيشة في غزة تحت القصف العنيف، وكذلك استهداف المدنيين، فضلا عن (جرافات) يومية ترصد أعداد الشهداء وكذلك القتلى الإسرائيليين، ورصد الزعر الذي سببته المقاومة للمستوطنين.
أعجبني جدا تحقيق أجرته (الجزيرة) عن أن شبكة حسابات يمينية مقربة من إسرائيل أغلبها في الولايات المتحدة، روجت للمزاعم الكاذبة بإقدام حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على قطع رؤوس 40 طفلا إسرائيليا خلال عملية طوفان الأقصى، التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي.
وتتبع التحقيق الذي أجرته وكالة (سند للرصد والتحقق الإخباري في شبكة الجزيرة)، خيوط الادعاءات ومصادر الرواية التي دفعت بانتشار الخبر الكاذب دون التحقق منه، والذي استخدم لتجييش الرأي العام العالمي ضد المقاومة الفلسطينية والفلسطينيين في قطاع غزة وتبرير العدوان الإسرائيلي الوحشي على القطاع.
إقرأ أيضا : (الجزيرة مباشر) ماتزال تناصب مصر العداء
ولقد عرت (الجزيرة) الوجه الأمريكي القبيح حين عرضت تحقيق أجراه موقع (ذا جراي زون) الأميركي المستقل، أن الادعاء بأن أفراد المقاومة يقطعون رؤوس الأطفال الإسرائيليين مصدره جندي إسرائيلي يُدعى ديفيد بن صهيون، وقد تم التعريف به خلال مقابلة أجرتها معه (آي 24) الإسرائيلية بصفته (زعيم استيطاني متطرف).
وأشار التحقيق إلى تراجع وسائل إعلام وصحفيين عن تقارير أولية بهذا الشأن بعد أن تعذر إثبات الادعاء بقطع رؤوس الأطفال، من بينهم صحيفة إندبندنت البريطانية وقناة (سي إن إن) الأميركية، والبيت الأبيض الذي تراجع عن التصريح الذي أدلى به بايدن.
ورصد التحقيق أول تغريدتين نشرتا الخبر الكاذب من خارج إسرائيل، وحققتا انتشارا كبيرا على منصة (إكس – تويتر سابقا)، وقد نشر إحداهما حساب لشخص يدعى (جابرييل نورونها)، وهو موظف سابق في وزارة الخارجية الأميركية ويعمل الآن بالمعهد اليهودي للأمن القومي الأميركي.
أما التغريدة الثانية فقد نشرها حساب لصحفية تدعى (إيما ويب)، تعمل في (جي بي نيوز)، وهي قناة بريطانية ذات ميول يمينية، وقد نشرا في تغريدتيهما الادعاء الكاذب المتعلق بقطع رؤوس الأطفال وقدماه على أنه خبر مؤكد.
الجزيرة توثق لنزوح الفلسطنيين
(الجزيرة) نجحت في توثيق نزوح مليون فلسطيني عن منازلهم المدمرة أو المهددة بالقصف الإسرائيلي في غزة، منذ بدء الحرب بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وفق ما أعلنت الأمم المتحدة، في حين يستعد جيش الاحتلال الإسرائيلي لاجتياح بري حذرت منظمات دولية وإغاثية من تداعياته.
أظهرت (الجزيرة) بحرفيتها ومهنيتها (العار) الذي لحق بإسرائيل عبر تفاصيل ساعات الانهيار الأولى، فقد عرضت عرضت في تغطيتها منذ بداية انطلاق (طوفان الأقصى) بأيام كانت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية تراقب الوضع في غزة عن كثب وتلتقط عشرات المكالمات لنشطاء وبعض القادة.
كانت كلها تؤكد على ضرورة تجنب نشوب حرب أخرى مع إسرائيل والسعي للتهدئة وعدم التصعيد، كان هؤلاء يعرفون أن أجهزة التنصت الإسرائيلية تلتقط ما يقولون فأسمعوهم ما يريدون إلى حين تنفيذ الاختراق الكبير يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
إقرأ أيضا : (الجزيرة) تختلق الأكاذيب وتتجاوز عودة العلاقات !
واستطردت (الجزيرة) في تقاريرها الأولى: بمقاييس العلوم العسكرية والعمليات الحربية الخاصة كانت المرحلة الأولى لعملية (طوفان الأقصى) التي نفذتها المقاومة الفلسطينية حول غلاف غزة نوعية جدا ومتكاملة، وبمقاييس نظرية الأمن الإسرائيلية كانت ضربة قاصمة.
ولعل أبرز ما أكدته الجزيرة في تغطيتها للأحداث أن القيادة الإسرائيلية تحاول جاهدة أن تستدرك على فشلها الذريع وهزيمتها المنكرة التي منيت بها جراء عملية طوفان الأقصى التي شنتها كتائب القسام – الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس).
مشيرة إلى أن الهجوم المباغت المذهل في نتائجه وضع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته في مأزق كبير أمام الجمهور والرأي العام الإسرائيلي وحلفائه.
الجزيرة وفشل جيش إسرائيل
كما أخفق الجيش الإسرائيلي في حماية مستوطناته وقواعده العسكرية الواقعة بالقرب من قطاع غزة، مما تسبب في شلل القيادة العسكرية والسياسية الإسرائيلية وأفقدها توازنها، فتعاظم الفشل وأدى إلى بطء شديد في التدخل لاستعادة المواقع العسكرية والمستوطنات الإسرائيلية التي سيطر عليها المقاتلون الفلسطينيون.
حسنا فعلت الجزيرة في استضافة الخبير العسكري اللواء فايز الدويري، بين الحين والآخر لتحليل الموقف أولا بأول حيث أكد إن الاجتياح البري الإسرائيلي لقطاع غزة يبدو قادما لا محالة وإن سقوط غزة لو حدث فسيكون بداية تغيير جذري للشرق الأوسط برمته.
وأيضا أعجبني عرض (الجزيرة) لما قاله كاتب إسرائيلي أن الأسباب الكامنة وراء فشل الردع الإسرائيلي، مشيرا إلى أن ما سماه الإيمان الغامض بالردع، إضافة إلى السلوك غير السوي للحكومة، خلقا وضعا مدمرا، مؤكدا أن العمى فيما يتعلق بالتأثير المحدود للردع هو عامل مشترك بين عدة حكومات.
كثيرة هى النجاحات التي حققتها قناة (الجزيرة) في تغطية أحداث (طوفان الأقصى) والتي يصعب حصرها في هذه السطور، لكني أستطيع أن أقول بأنها مثل كانت ومازلت مثل الجندي المقاتل بشراسة في وجه الإعلام الغربي الذي انحاز لإسرائيل التي تنتهك القانون الدولي وترتكب جرائم حرب بالجملة ترتكبها إسرائيل بحق سكان غزة.