بقلم الفنان التشكيلي الكبير: حسين نوح
أرى ومعي الكثيرون أن الحركة أساس الكون فهو المتحرك الكبير والحياة تبدأ بالحركة فالطفل يتحرك ويخطو ثم يتحدث ليعبر، فعلي مر التاريخ كانت معظم الحضارات ومنها المصرية القديمة قد اتخذت لها رقصات انتقلت من جيل الي آخر وألفت الشعوب ما يسمى بالرقص الشعبي والذي امتزج بالموسيقي مثل (فرقة رضا).
وأكدت الرسومات على المعابد تلك الحقيقة وأصبحت الشعوب ترقص حين تفرح وبعضهم يرقص حين تمطر السماء وحين تنتج الأرض المحاصيل وحين تنتصر الجيوش ، وتطور الرقص الي أنواع ومدارس فشاهدنا في مصر أشهر فرقة للرقص الشعبي والتي مثلت مصر في معظم مهرجانات العالم (فرقة رضا).
وتأكدت حقيقة أن الرقص أحد مفردات ثقافة الشعوب الأخوان (علي رضا، ومحمود رضا) ومنذ نعومة أظافرهما في حي السيدة زينب عشقا الرقص وتابعا الإبداع الذي قدمه نجوم الاستعراض في السينما الامريكية جين كيلي وفريد استر وبنج كروسبي في الثلاثينيات والاربعينيات.
وجاء سفر (محمود رضا) إلى باريس حين عمل مع إحدى الفرق الغربية الزائرة للعمل في مصر أن اكتسب مهارات الى قدراته في الجمباز وفنون الرقص الذي يعشقه ثم عاد وقرر أن يعمل (فرقة رضا).
وكان له صديق عمه هو يحيى حقي الكاتب الكبير صاحب رواية (قنديل ام هاشم) وكان يشغل منصب رئيس مصلحة الفنون فساعد (الأخوين رضا) علي تنفيذ أوبريت (يا ليل يا عين) مع (نعيمة عاكف) ومن إخراج (زكي طليمات).
(فرقة رضا) على مسرح الأوبرا
ونجح نجاحاً باهراً، وعرضته (فرقة رضا) أربعة أشهر على مسرح الأوبرا وبمساعدة والد فريدة فهمي الدكتور حسن فهمي أستاذ الجامعه نجح الأخوين في تحقيق حلمهما الصعب في فرقة استعراضية تحتاج لكثير من مال وعزيمة وإرادة وإيمان بالفكرة غير توفر مكان للبروفات.
ثم مسرح ثم ملابس وموسيقي ومكياج وأجور للراقصين ومصاريف للديكور وعمال ومتطلبات كثيرة يعرفها امثالي من خلال خبرة الزمن والإنتاج، هل لنا أن نعرف أنه في ذلك الوقت كانت فكرة إقناع أحد من المصريين بنين وبنات بأن يرقص إنما تحتاج الي قرار قد يكون شديد الصعوبة.
فالمجتمع خارج من الفترة الملكية والتحفظ والاختلاط وفكرة الرقص مازالت دخيلة علي مجتمع تسيطر عليه العادات الشرقية، ومعظم العائلات الكبرى من أصٌول ريفية ذات تقاليد وعادات يغلب عليها التحفظ.
ومع ذلك لم ييأس الاخوان محمود وعلي ونجحا في تكوين (فرقة رضا) بستة من البنين ومثلهم من البنات ومعظمهم من طلاب الجامعات وساعدهم المستنير والد فريدة فهمي أستاذ الجامة وسمح لهم بعمل البروفات في فيلته بمصر الجديدة.
وقد كان لوجود ابنته فريدة مع (فرقة رضا) حافز تشجيع لانضمام أخريات من البنات فالأمر لم يكن بالمعتاد لمجتمع كان البعض فيه ينظر للرقص أنه فقط هز بطن، ولكن بشغف الأخوين (محمود وعلي) ومن معهم تحقق لهم ما أرادو بعد صراعات مع عقبات كثيرة.
تحقيق حلم (فرقة رضا)
ولكن كان الشغف والإيمان بالفكرة عند الأخوين حافزاً لتحقيق حلم (فرقة رضا)، وقد بدأ مشوار الفرقة 1959 بأول عرض علي مسرح الأزبكية، وتم الاستعانه بكارم محمود وشهر زاد لجذب الجمهور فسيأتي لهم ويشاهد إبداع الفرقة.
ونجحت الفكرة ولم يمر الكثير من الوقت ثم جاء محمد العزبي مطرباً لـ (فرقة رضا)، وقرر الأخوان (علي ومحمود) أن تكون لهما موسيقاهم وحدث التعاون مع العبقري الموسيقار (علي إسماعيل) ولم يأخذ مال.
واقترح عليهم أن يقبض حين يكون لـ (فرقة رضا) دخل وإيراد، وحدث ما أراد وتم المزج الواعي بين الأصالة والمعاصرة، فقد سافر (علي إسماعيل) ليستمع لموسيقي الريف والصحراء والأقاليم المصرية.
وحدث الخلط الواعي بين الآلات الشرقية والأوركسترا الذي ميز (فرقة رضا)، وجعل موسيقاها تصل للعالم في قالب شديد المحلية يرتدي موسيقى تعتمد على علوم الموسيقي الأوكسترالية فكانت النتيجه المبهرة.
استلهم (محمود رضا) وبذكاء الحركه من واقع حركات الفلاحين واهتم بالتراث من معظم الأقاليم والواحات، تعاملت (فرقة رضا) مع أكثر من وزير ثقافة منهم (فتحي رضوان وثروت عكاشه وعبد القادر حاتم ويوسف السباعي وفاروق حسني).
وكثيراً ما عانت الفرقة من بعض الأداء البيروقراطي، ولكن كان الإصرار والإيمان والنجاح هم سبب مواصلة الطريق بشغف، بعد عرض ناجح في ألمانيا وصل (محمود رضا) إلى الرئيس عبد الناصر عن طريق السفيرالألماني الذي أعجب كثيراً بالفرقة وأشاد بها.
فقرر الرئيس احتضان (فرقة رضا) وأصبحت الفرقه تمثل مصر في معظم الدول وأصبحت تعمل من خلال الدولة ثم تجوب العالم تمثل مصر، وجاء عبد القادر حاتم وذلل لهم كل العقبات وأدرك قيمة الفرقه وتأثيرها لخدمة السياحة وتعريف الجمهور بفنون الرقص الثرية.
كيف يرى الفراعنة (فرقة رضا)
وقد عرضت (فرقة رضا) طوال شهر رمضان على مسرح دار الأوبرا المصرية، وبدأت فكرة السينما من (محمود رضا) وكيف يرى الفراعنة (فرقة رضا) ورقصاتهم وعرض على شقيقه (علي رضا) الفكرة وكان يريد تنفيذها على المسرح.
ولكن (علي رضا) قرر أن تكون سينمائية، وكان فيلم (غرام في الكرنك) وقبله إجازة نصف السنة بعد هزيمة 67 قدمت الفرقة عروضها في الجبهة وشارك محمود رضا وفرقته بالتعبير الحركي لأغنيات مثل (وانا الربابة بغني، رايحين في ايدنا سلاح).
وعبرت مصر و(فرقة رضا) إلى النجاح، وبدأ الانتشار خارج الحدود المصرية وبعد العبور قدمت الفرقة عروضها في معظم دول أفريقيا وصدمت الفرقة وهم في السنغال بخبر رحيل العملاق علي إسماعيل 1974 الشريك والداعم وأحد دعائم تألق الفرقة وشهرتها.
وبدأت الفرقة تجوب العالم الصين وروسيا وعرضت على مسرح البولشوي الشهير وأمام زيارات معظم روؤساء العالم لمصر، بموت الرئيس السادت وفي حقبة الوزير (يوسف السباعي) بدأ موت (فرقة رضا).
فقد تم تعيين (محمود رضا) وكيلا في وزارة الثقافة، وتعامل بروح الفنان ولم يحضر معظم اجتماعات الوزير ومن ثمَ تم تعينه مستشارا وشعر أنه تهميش له، وبدأت محاولات إبعاد محمود وضم فرقه رضا وفي نفس الوقت يصدم محمود بوفاة شقيقه وشريك المشوار علي رضا.
وخرج (محمود معاش) وأنشأ اكثر من (فرقة رضا)، وبقيت الفرقة وكلمة (رضا)، وذهبت بيروقراطيه الإدارة والمناصب (ومازال الفن هو اللي فاضل يناضل ويا الغلابة يقاتل اخضر بلون السنابل).
المؤسف أن مصر العريقة وبتاريخها الفني الثري وبعد سنوات طوال وثورة في أدوات الإبداع والتكنولوچيا لا يوجد لدينا فرقة تكمل مشوار (فرقة رضا)، ولا أفلام استعراضية حقيقية لتمتع المشاهد وتجعلنا نتصالح مع الجمال، وقد تمثلنا في المهرجانات.
ولكن للأسف قليل من محاولات فردية مثل أعمال المبدع (حسين كمال) وتتوه كالعادة وسط طوفان من اسكتشات تكرس للهطل ولا تساعد على إعمال العقل.. اتقو الله في مصر.
10 يوليو 2022 مات (محمود رضا) وبقي منهجه وأسلوبه لتعليم الرقص الشعبي المصري وبقيت خطواته تدرس في كثير من دول العالم وترك أكثر من فرقة باسم (رضا) فالفن باق ومصر ثرية بمبدعيها وتنطلق وتستحق.