بقلم: محمد شمروخ
يوم الخميس الماضي 28 سبتمبر كانت ذكرى وفاة جمال عبد الناصر، وطبعاً مستحيل الذكرى تعدى بدون ذكر لنكسة يونيو 1967 واتخاذها مدخلا للنيل من عبد الناصر شخصا وتجربة وفكرا وتاريخا، وكذلك لابد من التطرق الى إعلام عبد الناصر وما حدث في أول أيام النكسة وتركيز خاص مع ذكر اسم المذيع الراحل (أحمد سعيد)، حتى صار الحديث عن إعلام الدولة مقترنا بذكره.
فقد كانت المطارات الحربية المصرية قد تعرضت للضرب وفقد سلاح الطيران المصري فاعليته للتصدى للعدوان الإسرائيلي وانسحبت القوات المصرية من شبه جزيرة سيناء في فوضى عارمة، ليبدأ أشد فصول التاريخ المصري المعاصر مرارة.
بينما (أحمد سعيد) وجلال معوض وزملائهما من كتائب الإعلام المصري المسموع والمشاهد والمقروء، لا يكفون عن تلاوة التقارير الواردة بتوغل القوات المصرية في عمق إسرائيل وبيانات تترى عن احتراق الطائرات ذات النجمة السداسية المتساقطة بفعل تصدى الطائرات مع قوات الدفاع الجوي المصرية.
كانت الإذاعة تطلق أغانى النصر وصوت عبد الحليم يدوى (اضرب) مع بيانات (أحمد سعيد) الذي ظل يحمل بعدها على كتفيه، عار الإعلام المخادع، حيث تجلت الحقائق بعدها ليظهر كل شيء على حقيقته.
ولكن لم يطرح احد سؤالا عن مسئولية (أحمد سعيد) عما كان يتلوه من بيانات.
هل كان سعيد يبث الأخبار من فوق الجبهة؟!
هل كان يتبادل مع جلال معوض المواقع مع القوات المقاتلة؟!
كلا الرجلين كانا محبوسا في ستديوهات الإذاعة لا يري أى منهما ولو ضوء الشمس ولم يتنسم هواء الشارع لمدة ثلاثة أيام بلياليها.
أكان مطلوباً منهما أن يراجعا كل بيان على ارض الواقع؟!
ثم إنه ما هو المطلوب من المذيع (أحمد سعيد) أو غيره بالضبط غير تلاوة ما يصله من البيانات والتقارير الواردة إليه؟!!.
من أين له إذن استبيان الحقائق من الأكاذيب؟! ومتى كان مطلوباً من المذيع وهو رهن الاستوديوهات والميكرفونات والسماعات من وراء أبواب مانعة للصوت الخارجي، ان يترك موقعه ليتأكد مما يتلوه على الناس؟!
هل يعمل المذيع بدون مصدر أخبار؟!
أم تراكم تريدون منه تحضير العفاريت وضرب الودع لمعرفة الحقائق؟!
أعرف انك تتبسم من طرف شفتيك وأنت تذكر (إعلام سامسونح) عندما قرأت مذيعة من سنوات قليلة بيانا واتبعته بقراءة آخر سطر من الرسالة المرسلة إليها عبر هاتف سامسونج.
مدرسة (أحمد سعيد)
إنها هى هى المدرسة التى تخرج فيها (أحمد سعيد) وجلال معوض.
نعم أؤيدك ولا داعى للابتسامة الصفراء.
لكن تراك تريد من المذيع أن يعمل بلا مصدر أخبار كان مصدرا رسمياً أم غير رسمي، أي اعلام هذا الذي يقوم على الجهود الذاتية لتخمين الاخبار وأخذها من غير مصادرها؟!
إن خطأ مذيعة السامسونج لا يعدو تسرعها في القراءة، فمن الطبيعي أن تاتى إليها الأخبار من مصادرها والبيانات عبر وسائط متعددة، فهل كان سيهدا بالك ويرتاح ضمير سعادتك إذا وصل الخبر إليها بالإيميل أو الفاكس؟!
نعود إلى الرائد الإذاعى (أحمد سعيد) الذي تحمل في صبر ما يقال عنه وخصوصاً ما حدث في الغزو الأمريكي للعراق مع ذكريات محمد سعيد الصحاف، لكنك تنسى أن الصحاف كان جزءا من منظومة صدام حسين.
أى أنه مسئول مشارك في القرار وليس إعلاميا محترفا يتلقى البيانات ويتلو الأخبار، كمان لابد أن تضع في اعتبارك أن الصحاف هو الوحيد الذي نجا معززا مكرماً من بين رجال صدام
ألا تشغل بالك بسر هذا التكريم؟!
ولعلك لا تدرى ما هو تاريخ (أحمد سعيد) مع صوت العرب التى ساهمت في تشكيل التاريخ في المنطقة العربية من الرباط وحتى بغداد ومن دمشق وإلى عدن، منذ بداية بثها من القاهرة عقب ثورة يوليو بحوالى سنة واحدة.
أنت إذن ستسأل عما إذا كان (أحمد سعيد) يعلم بما جرى في المعركة أم لا يعلم.
من حقك أن تسأل ولكن الإجابة ليست منى ولا من أى شخص بل منه هو شخصيا جاءت على لسان الرجل نفسه في لقاء قبل رحيله مع الإعلامية الراحلة ليلى الأطرش.
لقد ذكر (أحمد سعيد) بمنتهى الوضوح أنه علم بحقيقة ما حدث صباح يوم 5 يونيو في ظهيرة اليوم نفسه عندما أعلمه رئيس قسم الاستماع السياسي في الإذاعة بكل ما وقع دون أى مواربة.
لقد كانت صدمة لا تكاد تصدق فلم يتطرق الشك إلى قلب أحد فينا يبثه من أخبار ملأها الزهو بالنصر.
أما جلال معوض فقد أفقدته الصدمة الوعى داخل الاستوديو.
(أحمد سعيد) أسقط في يده
وأما (أحمد سعيد) فأسقط في يده، ماذا يمكن ان يقول بعدها؟!.. هنا القرار ليس قراره.
أنت نفسك ماذا تفعل لو علمت بنبأ مفزع يمكن أن يزلزل كيان عائلتك، هل سوف تطلقه فور علمك به ام ستمهد لهم حتى تنبأهم بالخبر!
نعم مصر هزمت وهزيمتها كانت مريرة ولكن لم تكن نهايتها.
ومتى كانت الهزائم نهايات ضرورية للأمم؟!
كم من مرة سقطت عاصمة امبراطورية تحت سنابك خيل أعدائها ثم عادت لتنتقم وترفع رايات نصرها فوق أبراج حصون أعدائها مرة أخرى؟!
عموما ليس هذا هو الموضوع.
فالسؤال الملح ماذا كان يمكن أن يفعل؟!
كل كلمة كان يظنها صدقا صارت كذباً وكل أمل بثه في القلوب تحول الى مرارة، لقد كان عليه ان يستمر حتى إشعار آخر.
نعم أم تراك تريده ان يصرخ في الميكروفون أننا هزمنا لتتحول مصر كلها الى مناحة عظمى تتناحر فيها الجماهير وتفعل في نفسها ما لم يفعله العدو.
إسرائيل وقفت عن خط مياه القناة، فهل كان علينا ان نقتتل في الوادي والدلتا ونحن نحاسب أنفسنا عن أسباب الهزيمة.
كان لابد من مواجهة الهزيمة وتحمل اجتراع مرارتها.
لم يكن لـ (أحمد سعيد) أو (غير سعيد) أن يعلن عن الهزيمة، فليس لها إلا ذلك الرجل الذي لابد له من ان يتحمل مسئوليتها كاملة.
أترانا كنا ننتظر أن يتحول الإعلام لإعلام فتنة وتحريض تشعل مصر كلها؟!
لا أنكر أنني كنت من الناقمين عليه بل ومن المستهزئين بما حدث منه حتى واجهت نفسي بهذا السؤال: ترى ماذا كان يمكن أن يفعل حيال ما حدث وهو المصدق لكل ما حرى من قبل؟!
مرارة 67 ليست مجرد هزيمة عسكرية، بل هزيمة حلم عظيم كان يتحقق كانت مصر قبلها تقود العالم العربي إعلاميا وكانت إذاعة صوت العرب أشد أسلحتها الناعمة في أذن كل عربي من أطلس إلى زاجروس ومن طوروس إلى أعالى النيل.
لم يكن هذا خداعا، فلم تكن وهما ثورة الملك محمد الخامس وعودته مظفرا إلى عرشه بعد فشل الاستعمار الفرنسي في عزله ونفيه، ولم يكن سقوط حلف بغداد وهما، ولم تكن ثورات الشعوب العربية في الجزائر وتونس والعراق واليمن وهما.
لم تكن عودة سوريا للوحدة مع مصر منذ إفشالها عنوة على يد الاستعمار الأوروبي في عهد محمد على وهما.
كانت مصر حاضرة في وعى كل عربي عبر صوت (أحمد سعيد) وزملائه، فما لنا نحملهم ما ليس في طاقتهم؟!
لست ناصريا وإن كنت لا أرى في ذلك اتهاما، ولا أنكر أنه كان هناك تجاوزات وصلت إلى حدود الجرائم لكن إن شئت أن تدين (أحمد سعيد)، فوجه إدانتك لطابور طويل من المسئولين قبل أن نطلق سهامك على رجل كان كل جريرته.
أنه كان مخلصاً لتجربة تاريخية مازالت تفض مضاجعهم، رغم هزيمتها المريرة في النكسة، ورغم ضياع مكاسبها تحت ضربات الرأسمالية المفترسة التى عادت أكثر بشاعة من أزمنة الإقطاع في العصور الغابرة.
لا تلم (أحمد سعيد) ولا حتى سامسونج، وليكن لومك لنفسك لأنك تصدق أن هناك من يعملون في حقول الإعلام بدون مصادر أخبار أو خطط وسياسات توضع في الغرف المظلمة لتخرج إليك حاملة شعلة التنوير الكاذب.