في يوم مولده نردد (الإنشادية النبوية) التي أبدعها توفيق الباشا
كتب : أحمد السماحي
تحيي الأمة الإسلامية اليوم ذكرى مولد النبي – محمد صلى الله عليه وسلم، عبر العديد من المظاهر الاحتفالية الدينية والشعبية التي تتباين بين الدول، ولعل أبرزها أننا ننردد (الإنشادية النبوية) للموسيقار اللبناني توفيق الباشا.
ويحل المولد النبوي الشريف هذا العام، اليوم الأربعاء، 12 ربيع الأول 1445 بالتقويم الهجري، الذي يوافق 27 سبتمبر 2023 بالتقويم الميلادي.
بهذه المناسبة العطرة (المولد النبوي) نتوقف في باب (غلاف ألبوم) مع واحد من أجمل الأعمال الدينية الغنائية التى قدمت عن مولد النبي – عليه الصلاة والسلام، وهى (الأنشادية النبوية).
و(الإنشادية النبوية) عمل أروكسترالي عظيم ومهم قدمه في التسعينات وبالتحديد عام 1995 الموسيقار اللبناني الرائد توفيق الباشا، الذي أخذ أشعار العمل من مختارات شعر أمير الشعراء أحمد شوقي، مع مختارات من شعر محيي الدين بن عربي، والحسن بن هانئ.
وهذا العمل المهم (الإنشادبة النبوية) قدم في مصر في دار الأوبرا المصرية، وقدمه أوركسترا القاهرة السيمفوني، وكان الإنشاد الفردي لكلا من (تحية شمس الدين، محمد أبوالخير، مصطفى محمد)، وشارك بصوته الفخم الشهير الفنان محمود ياسين، وقام بقيادة الأوركسترا الدكتور مصطفى ناجي.
كلمة توفيق الباشا
عن هذا العمل الراقي (الإنشادية النبوية) كتب صانعه ومؤلفه توفيق الباشا في تقديمه لهذا العمل على غلاف الـ (C.D) بعض الكلمات البسيطة التالية: (طالما افتقدنا في موسيقانا الشرقية العربية الكبيرة هذا النوع من التأليف الموسيقى الديني الدرامي.
علما بأن أدبائنا ومفكرينا وشعرائنا كتب الكثير منهم أعمالا عظيمة تترواح ما بين المأثور من الأدبيات الدينية، والتأليف الأدبي الفني في حداثة علمية قدمت للإيمان ما يستحقه من تكريم وإلتزام.
إقرأ أيضا : الكحلاوي وياسمين الخيام وثروت الأكثر غناءا للمولد النبوي
لكن في الموسيقى والإنشاد الديني الأوركسترالي غاب الإهتمام بهذا الموضوع الجليل (الإنشادية النبوية) الذي يستحق منا جميعا كل جهد وإبداع، مع العلم أن أساطين الموسيقى العالمية – كل حسب انتمائه الروحي – تركوا لنا ذخائر من الأعمال الدينية.
منذ العصور الكلاسيكية (يوهان سباستيان باخ) في القرن الثامن عشر إلى (سترافنسكي) في القرن العشرين، مرورا بـ (هاندل وموتسارت، وبيتهوفن، وبرامس إلى فيردي) وغيرهم.
والتى اشتهرت أعمالهم بصيغتها الكلاسيكية المختلفة في سيمفونيات وأوبرات، وأصبحت تلك الأعمال تعرض في كل المناسبات الدينية والدنيوية جميعا.
(الإنشادية النبوية) وأحمد شوقي
ونحن لسنا بأقل تحضرا، وموسيقانا ليست بأقل مرونة وغنى بل العكس هو الصحيح، فتوكلت على الله، وكانت (الإنشادية النبوية) التى ألفتها موسيقيا مع اعتمادي على مختارات من شعر أميرالشعراء أحمد شوقي).
يتكون C.D (الإنشادية النبوية) من 7 مولفات موسيقية غنائية هى (المولد النبوي، إبلاغ الرسالة، الإسراء والمعراج، الغفران، الهجرة، حسن الثواب، القيامة).
في دراستها عن الموسيقار توفيق الباشا تقول الناقدة الموسيقية اللبنانية سمر محمد سلمان وتحت عنوان (الإنشاد الديني هو جديده الحقيقي): (إن الداخل إلى عالم توفيق الباشا الإنشادي كمن يفتح مصراعين على المدى.
صحاريّ وحدائق معلّقة تتناثر فوق سندسها صوامع الوصل بين الأرض والسماء، قباباً تلمحها من بعيد تختلط عليك هويتها، أمساجد هى أم كنائس؟ حتى إذا دنوت منها عرفتها.
يغريك تمام التكوير بالدخول إلى حضنها للصلاة والمناجاة والجلوس في رحابها حيث يختلط الديني بالدنيوي، والمادي بالروحي في مشهد إنشادي مترامي الأطراف تحمله إلى عينيك لغة موسيقية أبت إلا أن تكون وثبة جريئة فوق وشم الكلمة وسلطانها، فما حاجته إليها وفي النغم العاري كل أبجديات العالم؟
هكذا حاول أن ينحي الكلمة ويحد من طغيان اللغة اللفظية لصالح اللغة الموسيقية، كما في عمله الكبير (الإنشادية النبوية).
التي تروي السيرة المحمدية من خلال مختارات لأبيات قليلة متناثرة من قصيدتي شوقي (وُلد الهدى) و(نهج البردى)، يوظفها كما لو أنها حلية أو زينة لغوية ومحسنات بيانية، تهدف إلى الإضاءة البسيطة على مضامين وأسرار النص الموسيقي الذي لم يكن في الحقيقة يحتاج إلى رديف شعري نظراً لحساسيته التعبيرية المرهفة الدالّة والكاشفة.
النص الشعري هنا مجرد وسيلة لا غاية، أداة لغوية لجأ إليها (الباشا) حتى يتسنى له خلق ديناميكية بين الصوتي والآلي واللغوي والموسيقي بما يجعله أقرب إلى الأذن العربية التي لم تعتد على الإدراك،والتأمل، والتحسس إلّا من خلال اللغة وترجمتها إلى نغم، هذا النص الموسيقي الذي أبدعه توفيق الباشا كان قادرا على أن يكتفي بذاته.
ويستغني إلى أبعد مدى عن الكلام غير أن استنباط المعاني من الموسيقى العارية يحتاج إلى دربة لا يمتلكها المستمع العربي لفك شيفرة نصوص الموسيقى المحضة التي ظلت في مشرقنا حبيسة الصالونات النخبوية.
لذا فإن توفيق الباشا قد اختار للبوح بمكنونات الحكاية لغة زاوجت بين اللفظي والموسيقي، موظفا عناصره الأساسية الثلاثة التي تتكرر في هذا النوع من الإنشاديات التلحين الأفقي، والجوقة، تماما كما جاء في عمله الرائع (الإنشادبة النبوية).
والتكرار في تداخل وتتابع تتألق من خلاله الجوقة، التي أعتقد أنها من أهم مرتكزات الفكر الموسيقي لتوفيق الباشا، نذرها لتؤدي وظيفة أكثر عمقا وتعبيرية وتطورا من الاتباع الرتيب.
الجوقة تقدم وجهات نظر نغمية متعددة، وتقنية مختلفة، وتنويعات صوتية ولحنية تمسرح المقطوعة الموسيقية وتروي الحكاية موسيقيا بشكل حدثي لا سردي، يجعلها أقرب إلى نص درامي يعبر عن حدث وموضوع.
ويرتكز أداؤها اللحني بشكل كبير على عنصر التكرار كظاهرة أسلوبية لجأ إليها الباشا من خلال التصاعد الصوتي المتكرر والمتدرج أفقيا بوليفونيا لعبارة (ولد الهدى)، موزعا بين الأصوات النسائية والرجالية للإيحاء بالتمدّد في الزمان والمكان كدوائر الماء التي تتشكل وتتسع كلّما تبتعد عن مركز سقوط الحجر.
(الإنشادية النبوية) والرسالة المحمدية
التكرار ليس إذا مجرد إعادة رتيبة للعبارة، بل هو كسر للحدود والقيود التي تحول دون تبليغ الرسالة المحمدية الدينية والأخلاقية التي لا تختص بالمسلمين وحدهم.
وهزة شعورية مزلزلة تضخ شحنة من التوتر العالي الانفعالي الذي يصبغ الحدث – البشرى بصبغة الجلال، ذاك الذي يستمد هيبته الفنية من قوة التكرار الذي يعد أيضا خاصية إسلامية، لا تخفى على أستاذ الأندلسيات، تتجلى وتتضح في الطقوس الدينية والتراث اللغوي العربي وفي الفنون العربية الإسلامية عموما كالزخرفة والأرابيسك.
من أهم المضامين التي أراد الباشا التعبير عنها في مجمل أعماله وفي هذا العمل (الإنشادية النبوية) على وجه الخصوص ترسيخ مفهوم الكونية للرسالة المحمدية من خلال المنطلقات التأسيسية للنص الإسلامي التي ترتكز على وحدة الوجود والمشتركات الدينية والأخلاقية القيَمية بين بني البشر (وما أرسلناك إلّا رحمةً للعالمين).
تتعدد أعمال الباشا الدينية إذا وتتنوع في قوالبها بين موشح، ومغناة، وقصيدة عمودية تقليدية، لكنها جميعها وإن اعتمدت خطابا لغويا إسلاميا، كانت لغتها الموسيقية بكل تأكيد ذات مضامين إنسانية خالدة عابرة للهويات والطوائف، وعلى رأسها بالطبع (الإنشادية النبوية).