بقلم: علا السنجري
(لنا في الخيال حياة).. مقولة كنت أجد فيها راحة لمن هم مثلي يعشقون الكتابة، ربما البعض يجد فيها مهربا من غرابة الواقع المملوء بالعنف، أحيانا قد نصاب بالفزع من الحياة حولنا، خاصة إذا تابعنا قصص حوادث السرقة والقتل، لتكشف حقيقة مقولة (الواقع أغرب من الخيال)، هذا الشعور تملكني حين تابعت حادثة (سفاح الجيزة) حين تم القبض عليه.
نفس الشيء عند مشاهدتي لمسلسل (سفاح الجيزة) المستوحاة أحداثه من الحادثة الحقيقية ،مع تغيير في الأحداث والشخصيات حتى نبعد شركة الإنتاج عن المسائلة القانونية، خاصة أنه لم يتم تنفيذ حكم الإعدام في المتهم، وهناك بعض من عائلته على قيد الحياة.
العمل الدرامي (سفاح الجيزة) رغم إنه مستوحى من جريمة حدثت بالفعل، لكن يحسب له مناقشة عدة قضايا نفسية ومشاكل في تربية أشخاص أسوياء، الشخصيات في العمل تعرضت للأذى النفسي والجسدي، مما دفعها لممارسة العنف على من حولهم.
نجد الأم ضحية الزوج المدمن الذي يقوم بضربها للحصول على المال منها، مما يدفعها لقتله أثناء ضربه لها، وتحت وطأة الفقر والجوع قامت بإطعام أولادها لحمه، كما اضطرت إلى بيع كبد الكلاب في سندوتشات الى أن تم القبض عليها، قامت بفرض سيطرتها على الابن بسيادتها لتجعله ذليل لها، تفرض سيطرتها على (فادية ومنال بالمال) ليستمروا في خدمتها.
جابر ومشهد قتل والده
(جابر) الابن الذي شاهد والدته تقتل والده، والجوع والخوف جعله شخصية شهوانية للمال والطعام والنساء، الجوع يعتبر المحرك الرئيسي له، فقد ارتبط في ذهنه مشهد قتل والده بجوار طبلية عليها أطباق أكل.
فبعد القتل يقوم بالطهي بشكل شهي جدا، يقع تحت سيطرة النساء المهيمنة ذات الشخصية القوية كعبد ذليل كما تعود مع والدته، يفرض سيطرته حين يمارس شهواته من طعام وقتل.
والد (سلمى وزينة) يشبه والد (جابر) في العنف والضرب لزوجته لكنه ليس مدمن، تخاف منه زوجته لتتحول إلى امراة بلا كرامة أمامه، مما ينعكس على تربية بناته، (سلمى) ترفض معاملة الأب، ترفض التحول لنسخة مماثلة من والدتها.
إقرأ أيضا : بهاء الدين يوسف يكتب: (سفاح الجيزة).. مسلسل مصري بنكهة أمريكية
لنجدها قوية لا تخاف من (جابر) وتمارس دور السيادية المهيمنة على جابر، الذي تعود على ذلك، بينما أختها (زينة) تحاول الهرب من كل ذلك بالشهرة في مجال التمثيل،أو بالزواج من زياد.
الضابط (حازم) كان يعاني من إهمال والده له بسبب شغله في الشرطة، وأسلوبه الصارم معه، لكنه بدلا من أن يعوض ابنه بالحنان والتقرب يعيد نفس طريقة والده الصارمة مع أبنه، يحاول التقرب منه بعد نصائح حماته له .
العمل الدرامي (سفاح الجيزة) من تأليف كل من محمد صلاح العزب وعماد مطر، والسيناريو والحوار لإنجي أبو السعود، تناول جيد إلى حد كبير لإحداث حقيقية، إظهار العامل النفسي لكل الشخصيات.
رتم التتابع الزمني للأحداث سريع ومتداخل في أول حلقتين لدرجة تجعل المشاهد يتوه قليلا بين الشخصيات التي انتحلها (جابر)، فهو مرة (يوسف) ومرة (جابر) ومرة (محيي)، بلا مقدمات تمهد للمشاهد ذلك، في الحلقات الباقية يتم توضيح كيف انتحل كل شخصية وقتل الشخصية الحقيقية.
اعتماد المؤلفين على إظهار سيكولوجية كل واحد من خلال نظرة أو إيماءة دون حديث، الحوار قليل جدا خاصة فيما يتعلق بمشاهد جابر.
والدة جابر تتستر عليه
في أغلب مشاهد (والدة جابر) تقوم بالستر عليه، فهي تعلم انهيار زوجته و(فادية) و(جمال)، وأغلب المفقودين، تقوم بتحذيره من وجود الشرطة بطريقة كلامها معه في التليفون، بما يجعل المشاهد لا يصدق انها تكره جابر وتتنصل من كونها السبب فيما فعله.
لم يذكر ما هو مصير كل من الحج زوج (نجلاء) صاحب المصنع، هل سيتم تبرئته؟، هل (زينة) مذنبة ومشتركة مع (جابر) في قتل (هالة)؟، هل هى مريضة نفسية؟ أوهل تعتبر (سلمى) زوجة لجابر او محيي، عدة موضوعات تركت مفتوحة.
نهاية مسلسل (سفاح الجيزة) وهي من وجهة نظري نهاية سهلة والتي تم وضعها من قبل المؤلفين غير مقنعة للمشاهد، خاصة مشهد خطف ابن الضابط (حازم) لاستخدامه كوسيلة ضغط تقنية تم استخدامها في العديد من الأعمال الدرامية بشكل محترف أكثر.
إقرأ أيضا : بهاء الدين يوسف يكتب: موعد مع (السفاح) المفضل!
استخدام نهاية مفتوحة بظهور شخص غامض على صوت (جابر)، ربما تمهيدا لجزء ثاني من (سفاح الجيزة)، أو اعتقادًا منهم بأن هذا أفضل لأن القصة الحقيقية لم تنتهي.
المعالجة الدرامية للنهاية بها بهارات من السينما الأمريكية، تأثر واضح بها خاصة في ظهور الرجل الغامض المتخفي كما في نهاية فيلم Replicant لـ (جان كلود فان دام)، وهو بالصدفة فيلم يتحدث عن قاتل (سفاح) يقوم بقتل النساء الذين لديهم أطفال دون أب.
وهو أيضا شاهد والدته وهو صغير تقوم بقتل والده أمامه، وأيضا كانت شخصية والدته المهيمنة التي تعامله بقسوة وعنف أدى إلى إيذائه نفسيا وجسديا مما تسبب في خلل نفسي لديه يجعله يقتل النساء .
براعة إخراج هادي الباجوري
جاء إخراج (سفاح الجيزة) لهادي الباجوري بصورة جيدة بنكهة بعض الأعمال الأمريكية، خاصة في مطاردة السيارات والجري داخل البيوت للقبض على (جابر)، الصورة كانت مظلمة أغلب المشاهد فيما عدا التصوير الخارجي.
قد يكون ذلك نوع من التمهيد لظلام القبور التي يحفرها (جابر)، إتقان لزوايا تصوير القتل و مشاهد الدم، الاعتناء بتفاصيل الطبخ للبطل.
عمل وراء عمل تثبت (ريم العدل) قدراتها على تصميم الملابس، فهي تقوم بدراسة العمل جيدا ومعرفة تفاصيل الشخصيات من حيث البيئة والعوامل النفسية، فملابس (جابر) في كل مرحلة تعبر جيدا عنه.
أغلب الوقت يرتدي الألوان الأسود والكحلي عند القتل، واللون البني عند خداعه للآخرين، ابن الضابط أغلب مشاهده بملابس المدرسة كدليل على إهمال الأب له من بعد وفاة والدته.
الموسيقى التصويرية لكرم جابر اعتبرها العامل الأساسي لنجاح (سفاح الجيزة)، إذا سمعها المشاهد سيتعرف عليها، وسيبقى العمل في ذاكرته محفورا، كما أن اختيار موال بدرية السيد أو (بدارة) جعل المشاهدين يبحثون عن من تكون وما هي أغانيها.
استخدام متكرر لجملة من موال لها وهى (العدل فوق الجميع وبيعشقه المخلوق) في كل مشهد للقتل أو خداع (جابر) للآخرين، تعبر عن الخلل النفسي لجابر.
أغنية تتر النهاية لفريق (الوايلي) والمطربة (سمر طارق)، اختيار آخر رائع يجعل (سفاح الجيزة) يرتبط ذهنيا في عقل المشاهد بها، وتعبر أيضا عن الأحداث:
(صاحب عتمة بين شفاف الناد النادي/ لا صوت ولا نور جوة الحيطان/ فيه في دماغك صوت بيقولك خافي خافي/ شايف جسم فوق جمب الدخان).
استخدام رنة دينية لتليفون جابر، تمويه آخر لسيكولوجية التظاهر والاختباء خلف ستار الدين لإخفاء حقيقته، مفاجأة العمل هو اختيار (باسم سمرة) لأداء دور الضابط، الذي اجتهد في تغيير جلده وكسر القالب الذي وضعه فيه المخرجين.
رغم أنه نجح في كل أدواره، قدم الضابط اللي ممكن تدخل أي قسم تلاقيه، مش اللي بالبدل وريحتهم عطور غالية وقاعدين في مكاتب فاخرة الأثاث.
داليا شوقي أتقنت أبعاد الشخصية
داليا شوقي تتقن أبعاد الشخصية
(ريم حجاب)، خطفت الأنظار بشخصية (فادية)، لتتقن أبعاد الشخصية من حيث السلوك وطريقة النطق كفتاة كادحة تستغلها (أم جابر) بإغداق المال خاصة بعد أن أخذ (جابر) أموالها البسيطة.
(ركين سعد)، أداء متطور ومدروس جيدا لشخصية (زينة)، أداء متزن بانفعالاتها لشخصية غير سوية تفعل أي شيء لتبتعد عن والدها، (داليا شوقي)، أجادت دور (سلمى) التى ترفض أن تكون نسخة من والدتها، في مشهد صدمتها من معرفة حقيقة زوجها كان أدائها زائد في الانفعال ربما قليلا من وجهة نظر البعض.
رد فعل كل شخص تختلف عن الآخر، هناك من يعبر بالصمت أو الصراخ والبكاء العالي، وقد تأتي الصدمة بضحك هيستيري يتحول لبكاء، ففي النهاية هى قدرات انفعالية لأشخاص مختلفين، بالنسبة لي أعتقد أن هذا الأداء مقصود لتصبح الحلقة الأكثر مشاهدة وتتصدر التريند وهذا ما حدث بالفعل.
الفنان صلاح عبد الله (قمرنا)، ليس بجديد عليه هذه الروعة في الأداء، فهو السهل الممتنع الذي يدخل لقلبك سريعا، حتى لو كانت مساحة الدور صغيرة، (ميمي جمال)، فنانة قديرة تسحب منك التعاطف في مشهدين لها بمنتهى التلقائية.
(ناهد رشدي)، أداء جيد جدا للأم المهانة المغلوب على أمرها من عنف الزوج، (محمد عبد العظيم)، تمكن وإتقان في دور والد كل من (زينة وسلمي)، الزوج النرجسي الذي يمارس العنف والضرب على زوجته، وكذلك الفنانة (لبنى ونس) لكني أرى أن الدور أصغر من قدراتها الرائعة.
مواهب ظهرت في (سفاح الجيزة)
هناك مواهب ظهرت في (سفاح الجيزة) أثبتت جدرانها رغم مساحة الدور القصيرة مثل (سارة خليل وجيهان الشماشرجي ونسمة بهي وعمر شرقي).
لدي مشكلة مع تمثيل (أحمد فهمي) سابقا، أغلب أعماله الكوميدية تعتمد على الإفيهات بلا هدف، خاصة بعد انفصاله عن (شيكو وهشام ماجد)، ربما أفضل أعماله هو (ريح المدام)، لكن هنا اختياره لدور (جابر) جيد لأنه قاتل بلا قلب، إحساسه بارد.
استطاع توصيل الغموض بملامح ثابتة التعبير لعدم شعوره بالندم لأفعاله المؤذية، شخصية غير سوية نفسيا، لكنه يتمتع بقدر من الذكاء يستغله في الكذب.
الرهيبة والقديرة (حنان يوسف) من وجهة نظري هى بطلة العمل بأدائها المتقن للشخصية، تعبيرات وجهها ونظرات عينيها أكبر أدوات فنية استخدمتها بإجادة كبيرة لتخطف الأضواء، تتعايش بشكل كامل مع الشخصية، جلوسها خلف السور الحديد لمنزلها لترى الشارع كما تعودت خلف قضبان السجن، ودلالة على عدم قدرتها على الحركة.
أكثر الشخصيات التي خطفت الأضواء في (سفاح الجيزة) بعد الرهيبة (حنان يوسف) هى الشابة (جهاد حسام الدين)، قدمت دور (أم جابر) في مشاهد الفلاش باك، أجادت المشاهد الصامتة بالتعبير بنظرات مرعبة جسدت من خلالها الانتقام من زوجها.
انتهى مسلسل (سفاح الجيزة)، لكن القاتل الحقيقي لم تنتهي حكايته بعد، فهو في مصحة كما لم يتم تنفيذ حكم الإعدام، ربما النقطة الرئيسية التي ارتكز عليه المسلسل هى التربية الخاطئة، واستخدامها كمبرر للقتل والخطف، قد يأتي ذلك بنتيجة إيجابية ويحاول الآباء والأمهات تحسين تربية أبنائهم.
لكن الخوف الحقيقي من مثل هذه الأعمال ليس انتشار العنف والقتل، وإنما تعاطف المشاهد مع المجرم، ويلتمس له الأعذار لأنه ليس مسئولا عن أفعاله، فتلك شماعة يعلق المشاهدين عليها أخطائه.
أنا هنا لا أبحث عن رسالة يقدمها فقد ينتقدني البعض أنه ليس من المفترض للفن أن يقدم رسالة هادفة، ولكن أيضا ليس من المفترض أن يكون له تأثير سلبي على المجتمع الذي يعبر عنه.