بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان
عندما ذكرت للأستاذ (كمال الطويل) أن عربة الترحيلات تحركت بي أنا والوفدي الطيب جدا (مصطفي ناجي) الذي نسميه الزعيم، زاد اهتمام الأستاذ (كمال الطويل) بالقصه التي أحكيها له ليسألني، هل التقيت بالأستاذ مصطفي أمين، وشمس بدران؟
وعندما أخبرته أن مصطفي ناجي أخذني لهما، وعرفهما بي، قال لي الأستاذ (كمال الطويل): أظن آثار التعذيب كانت واضحة علي جسد الأستاذ مصطفي أمين، الكتاب اللي كتبه عن فترة السجن فيه أهوال؟!.
تعجب الأستاذ (كمال الطويل) عندم أخبرته أنه كان في حالة جيدة جدا أمام زنزانته، وورود من كل لون، ويجلس علي كرسي بلاج من القماش مريح جدا، ويرتدي البدلة الزرقاء، كبقية السجناء، ولكنها بدله من قماش فخم جدا اسمه (تيل نادية)، والذقن محلوقة، والملابس مكوية.
كما أن رائحة البارفان الباريسي تسيطر على المكان، وأكثر من عسكري في خدمته، وأكثر من سجين طوع أمره، العساكر التي تمر عليه، تكون تحيتهم له : (صباح الخير يا مصطفي بيه) كذلك الرتب العالية، وغير العالية.
إقرأ أيضا : إبراهيم رضوان : حكايات كمال الطويل مع أم كلثوم وعبدالوهاب
أحضر لي أحد السجناء كرسي من داخل الزنزانة، بينما ذهب مصطفي ناجي للطبيب، الذي يعالجه من البواسير، وسألني مصطفى أمين عن تهمتي؟ قلت له: قلب نظام الحكم مع استعمال القوة و17تهمة أخري!
وهل كنت فعلا تريد قلب نظام الحكم؟ قلت له: يا مصطفي بيه، أنا كنت في القضية لوحدي، يبقي استعمال قوة إيه، أنا كل جريمتي إني أصدرت ديوان شعري اسمه (الدنيا هي المشنقة)، بعدها قامت القيامة فتشوا بيتي في طلخا.
وضربوني علقه في ميدان التحرير، ونقلوني سوهاج، ومن سوهاج لطما، ومن طما لأم دومة، ومن أم دومة على عزبة صغيرة جدا، مفيش في بيوتها شبابيك وماتشوفشي فيها واحدة ست نهائي اسمها قرية (نزلة الدويك).
وصلتها في 18ساعه على ضهر حمار، مات الحمار بعد ما وصلني بكذا يوم!، وصلت قوة كبيرة علي حوالي 100حمار، وقفوا بعربياتهم في أم دومة، أجروا حمير، وكل مايفوتوا علي بلد، يجيبوا كل الغفر اللي فيها بحميرهم.
ضحك مصطفي أمين عندما قلت له أن أكثر من حمار مات من وعورة المشوار، لدرجة أنني أحسست بالذنب لأنني السبب في موتهم، و كانت هذه الحمير الميته هي أول ضحايا شعراوي جمعة!.
سندوتش مصطفي أمين
أمر مصطفي أمين أحد الذين يتولون خدمته أن يحضر لي سندوتش من الزنزانة، وزجاجة مياة غازية من الثلاجة، أخبرته أنني أريد استعمال دورة المياة، وصف لي مكانها داخل الزنزانة، بعد دخولي تلفت حولي وجدت مئات من علب السردين والتونة، والحلويات.
إقرأ أيضا : إبراهيم رضوان يكتب: الأستاذ كمال الطويل كان طبيبي النفسي!
وأيضا كل أنواع الطعام، ومئات من قوالب الجبنة بكل أنواعها علي المنضدة الفاخرة كمية رهيبه من المجلات، والصحف اليومية من كل أنحاء العالم، حتي أنني ظننت أن زنزانته سوبر ماركت لمن يريد أن يشتري.
حاول شمس بدران أن يشترك في الحديث فقال لي ممكن تسمعني حاجة من اللي في الديوان أسمعته قصيدة أقول في نهايتها:
و خطبت وعشت خاطب 15سنة
أحلم في كل ليلة
أحلام بيضه وجميلة
مليانه بالهنا، وف ليلة دخلتي
كانت ليلة شتا
فرحت بالشتا، وروحت للعروسة
والقلب كله فرحة
و لما شيلت الطرحة
لقيتها ميتة.
مصطفي أمين: شعرك ممتاز
لمحت دموعا في عيون الأستاذ مصطفي أمين، وهو يقول لي: (منك لله صدمتني بنهاية القصيدة، بس شعرك ممتاز).
وقال لي شمس الدين بدران : (اشمعني 15 سنة؟!) اكتشفت أنه لا يفهم، فقلت له: (من سنة 1952 ثورة يوليو، لحد 1967 النكسة)، أخذ ينظر لي بكراهية، ثم قال: (والله والله، لو كنت من رئيس الجمهورية كنت شنقتك، وعلقتك علي باب زويلة).
عاتبه الأستاذ مصطفي أمين على تخريفه، قلت له: (بعد خروجي سأنشر هذا الكلام الذي قلته، فنطق بأبشع جمله سمعتها في حياتي)، وقال: (عمرك ما هاتخرج قبل إزالة آثار العدوان) كاد أن يغمي على شخصي، فقبلها بليلة كانت الطائرات الإسرائيلية، تحوم حول معتقل طرة السياسي، بينما يحييها كل اليهود المتواجدين في المعتقل.
تجاهلت شمس بدران تماما، وكانت المفاجأه التي أثبتت لي أنه متخلف عقليا، إنه قال بتفاخر: (طالبت وزير الداخلية، أن تكون الزيارة الشهرية مضاعفة، وأضربت عن الطعام، و حضر لي شعراوي بيه شخصيا، واستجاب لكل ما أريده).
إقرأ أيضا : إبراهيم رضوان يكتب: أنا وكمال الطويل، ومأمون الشناوي
ضحكت في سري عندما تذكرت أن شعراوي جمعة كان مديرا لمكتب شمس بدران، قال لي الأستاذ مصطفي أمين، عندما يحضر مصطفي ناجي بعربة الترحيلات، أدخل يا إبراهيم بسرعة.
و نقي أي كمية تحبها من المجلات والصحف، منعني حيائي، فدخل مصطفي ناجي إلي الزنزانة، وأحضر كمية من الصحف والمجلات والكتب والمعلبات، وانطلقت بنا السيارة دون أن أعرض علي الطبيب الذي حضرت له حتي يعالجني من ضيق التنفس.
كان قد حضر إلي سجن المزرعة، من أجل العرض عليه، قال لي الأستاذ (كمال الطويل): إنت طولت قوي في فترة اعتقالك، (الأبنودي) قعد أسبوع وخرج، بعده التليفزيون كان بيذيع مؤتمر، الكاميرا جابت (الأبنودي) قاعد جنب شعراوي جمعة، (الأبنودي) لما حط سيجارة في بقه، شعراوي جمعه كان جاهز بالولاعة علشان يولعهاله!.
الأبنودي كان بيحبني الأول
قلت لـ الأستاذ (كمال الطويل) : (الأبنودي كان بيحبني الأول جدا، لما طالت مدة اعتقالي، كان ليا صديق اسمه (سامي المتولي) بييجي معايا في شقة الأبنودي وزوجته (عطيات) في باب اللوق، الشيوعيين كانوا سموه (عبد الرحمن أبو تلاجة)!.
صديقي (سامي) اقترح على والدي يقابل الأبنودي، وفعلا وصلوا البيت، الأبنودي باس إيد أبويا، ونشف له دموعه، وقال له: (وعد يا عم محمود، قبل ما أسافر ألمانيا هايكون إبراهيم في حضنك)، بعدها راح الأبنودي لمحمد عروق مدير صوت العرب وراحوا قابلوا شعراوي جمعة.
وصدر قرار جمهوري بالإفراج عني، لما قابلت الأبنودي، حلفني ما أقول لحد أن هو اللي خرجني من المعتقل لأنه خايف الناس تقول عليه جاسوس للسلطة، قاللي: (كان مكتوب على دوسيهك ينظر بعد 5 سنوات).
وفعلا دي أول مرة أقول لحد الحكايه دي، علشان سمعة الأبنودي، قال لي الأستاذ (كمال الطويل): (واضح أن الأبنودي بيحبك جدا)، قلت له: (كان!)، فرد الطويل: ودلوقتي؟!، رديت: بيكرهني جدا!.
إقرأ أيضا : إبراهيم رضوان يكتب: أنا و كمال الطويل وعسكري المرور!
ضحك (كمال الطويل) وقال لي: (تعرف أن هو اللي نش عبد الحليم حافظ العين؟!) فقلت له: إزاي؟! قال: (طلب الأبنودي يدخل دورة المياة، في شقة عبد الحليم، وهو خارج منها، قال لحليم قدامنا كلنا: يا نهار اسود يا حليم، دا التكاليف اللي أنت كلفت بها حمامك، تهد أبنود وتبنيها من جديد)!
وأضاف (كمال الطويل): أصيب حليم باكتئاب شديد، وظل صامتا، في نفس اليوم عبد الحليم جاب دم من معدته، مش بقول أن الحسد هو السبب لأ! عبد الحليم عنده بلهارسيا من طفولته، لما اغتني وبقي معاه ملايين اتغير نظام أكله، البلهارسيا نشطت بالأكل الغالي.
عبد الحليم.. حكاية حب
وسيطرت على الكبد، الفلوس بتيجي ومعاها المرض، عبد الحليم كان صعبان عليا جدا، لما طلب مني أغاني لفيلم (حكاية حب) حسيت إن ده هايبقي آخر فيلم في حياته.
لذلك اتصلت بمرسي جميل عزيز ولما قعدت معاه قلتله: بتقرأ النعي اللي بينكتب في صفحات الوفاة، قاللي أيوه، قلتله أنا عايز غنوة تبقي كأنها نعي لعبد الحليم، مرسي جميل مشي من عندي وهو زعلان، بعد كذا يوم سمعني:
في يوم.. في شهر.. ف سنة
تهدي الجراح وتنام
وعمر جرحي أنا..
أطول من الأيام
وداع يا دنيا الهنا..
يا حب.. يا أحلام
دا عمر جرحي أنا..
أطول من الأيام.
والفيلم كسر الدنيا، وعمل لمريم فخر الدين اسم، المفروض تشكره، مش تجرحه، وتجرح كل اللي بيحبوه، عارف قالت ايه؟ قالت: (وأحنا بنمثل الفيلم، كان المرض تمكن من عبد الحليم، لدرجة إنه كان لما بيجي يبوسني، كنت باقرف جدا، لأن ريحة بقه كانت وحشة!
وشعبى مش زى حد..
أنا مش أهرام و(سد)
أنا ثورة طاهرة ضد..
كل اللى باع وخان
………………….
أكبر من كل طعنه..
أنا ثورة ليها معنى
مش متحف للفراعنة..
ولا خيمة فى الميدان
………………….
أنا أعظم من جدودى..
أنا أكبر من حدودى
حاضنه جميع جنودى ..
بالقلب والكيان
………………….
(عيشه) ومعاها (مريم) ..
قاعدين جوه المخيم
ولما الليل يخيِّم..
يتقاسموا فى المكان
………………….
أولادى ثورة طاهرة
بادئة بهتاف مظاهرة
فى الدنيا صبحت ظاهرة..
بتزوق الزمان
………………….
شعبى فى القلب باقى..
وأنينُه فى السواقى
وحنينُه فى التلاقى..
ورنينُه فى الودان
………………….
الله على وجوده..
صادق صاين عهوده
فى زتونه أو بارودُه ..
وسجوده مع الأدان
………………….
شعبى وهو صامت ..
خلى القيامة قامت
وخلى الدنيا صامت..
حتى قبل الأوان
………………….
يا شعب الله يا واعى..
يا نيل حاضن مراعى
يا قلب بين ضلوعى..
خلى المكشوف يبان
………………….
شعبى فارد فى طوله..
مهما الكفار يقولوا
ولا مين يقدر يطوله ..
لأنه.. ليكوا صان.