كتب : محمد حبوشة
الأمر المؤكَّد أن منصة (نيتفلكس) تواجه تحديات عصيبة لا تقارن بالسنوات الماضية التي كانت تمثل عصرها الذهبي، فكما يبدو من الأيام القليلة المضية أن (نيتفلكس) تواجه سيلا عارما من الانتقادات في الدول العربية بسبب طبيعة المحتوى المشوه للقيم، المشرع للرذيلة، المغاير للفطرة البشرية الذي تبثه.
وهذا أدى إلى تصاعد المخاوف من تأثيرها في وعينا وتشويه قيمنا، وهى مخاوف لها مبرراتها المنطقية؛ نظرا إلى أن هذه المنصة غير خاضعة للرقابة التقليدية، التي تلتزم بالقيم ومعتقدات الشعوب.
إقرأ أيضا : طوفان المنصات الغارقة في براثن العنف والشذوذ الجنسي !
إضافة إلى ما نشهده من تأثيرها في سلوك عملائها في كافة دول العالم بحسب التقارير العالمية، ونظرا إلى انتشار منصة بشكل واسع في الشرق الأوسط خلال الفترة الأخيرة، وتزايد إنتاجها المحلي في كل بلد.
فقد أثار وجودها جدلا كبيرا، وذلك بسبب طبيعة ما تبثه (نتفليكس) من محتوى مغاير للقيم، مما أثار النقاش حول مدى تأثير هذا المحتوى في الأطفال والمراهقين بشكل خاص، ما يتطلب توقفها عن العبث.
نتفليكس وأهدافها الخبيثة
أنا مع توقف (نيتفلكس) عن بث محتواها الخبيث الآن الآن وليس غدا، فثمة تقارير ودراسات أثبتت أن معظم المحتوى الذي تنتجه المنصة موجه بالأساس إلى هذه الغايات الخبيثة.
وهذا ما أثبتته دراسة الدكتورة داليا عثمان المدرسة بكلية الإعلام بجامعة القاهرة، التي تحمل عنوان: (تأثير مشاهدة المسلسلات المقدمة على منصة نتفليكس على النسق القيمي للمراهقين).
اعتمدت الدراسة على نظرية التعلم الاجتماعي لـ (ألبرت باندورا)، نظرا إلى ارتباطها الكبير بتأثير وسائل الإعلام على اكتساب الأفراد معارف وقيما وسلوكيات مختلفة، وضمت مراهقين في المرحلة العمرية من (13-17 سنة) ممن يشاهدون مسلسلات منصة نتفليكس، لتشمل مرحلتي المراهقة المبكرة (12-14 سنة) والمراهقة المتوسطة (15-17 سنة).
إقرأ أيضا : مدرسة الروابي للبنات .. دراما مغرضة تستهدف ضرب القيم الأردنية
وقد توصلت الدراسة إلى مجموعة من النتائج أهمها:
اتضح أن أکثر المسلسلات المقدمة عبر (نتفليكس) تقدم المحتوى الجنسي بشكل كبير لا يتناسب مع المراحل العمرية التي تتابعه، ونجد مشاهد كثيرة جدا من هذا النوع على الرغم من تصنيف العديد من المسلسلات بأنها مقدمة لفئة المراهقين، وتقدم في سياق درامي جذاب يشد اهتمام المراهقين ويؤثر في قيمهم وما يتبنونه من أفكار في تلك المرحلة الخطيرة من نموهم.
قدمت (نتفليكس) العنف والجريمة بشكل مبهر للمراهقين، وهو ما عبر عنه بعض من المشاركين في الدراسة بأنهم تعلموا کيفية القتل والهروب من الاتهام بذكاء.
اتضح أن نسبة القيم الإيجابية المقدمة في مسلسلات (نتفليكس) قليلة جدا مقارنة بنسبة القيم السلبية التي وافق عليها أغلب المراهقين الذين شاركوا في الدراسة في إطار (الحرية الشخصية) وتقبل الآخر كما هو دون انتقاد.
رغم إقرارهم بعدم تبني هذه القيم السلبية بشكل شخصي، إلا أن مجرد القبول يحوي ضمنا خطر المحاكاة فيما بعد مع تغير الظروف، أو استساغة القيم الشاذة وتقبلها على أقل تقدير.
أكدت نتائج الدراسة أن الآباء بحاجة ماسة لمتابعة أبنائهم وما يشاهدونه عبر منصة نتفليكس وغيرها من المنصات الرقمية، والتأكيد على أهمية التربية الإعلامية للآباء والأبناء في ظل السيل الجارف من القيم والأفكار الغريبة التي اجتاحت مجتمعنا من خلال هذا الإعلام الجديد ووسائله وتطبيقاته المختلفة، فالآباء في ظل انشغالهم بمتاعب الحياة وضرورياتها أهملوا الدور الرقابي والتربوي في متابعة الأبناء.
تأسست (نيتفلكس) في عام 1997 كشركة متخصصة في تأجير أقراص الفيديو (DVD)، ثم في عام 2007 أطلقت خدمة بث الفيديو عبر الإنترنت في أمريكا، وفي عام 2010 أطلقت في كندا، وكان هذا أول ظهور لها في الأسواق العالمية.
وقد أُطلقت في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي خلال عام 2011، وأُطلقت في أوروبا في عام 2012، واعتبارًا من عام 2016 أصبحت (نتفليكس) متاحة في جميع دول العالم تقريبًا باستثناء عدد قليل من البلدان.
يصل عدد مستخدمي نتفليكس الآن إلى 220 مليون مستخدم عالميا وفقا لأرقام الربع الثاني من عام 2022، ولا تزال هى منصة البث الرقمي التي تملك أكبر عدد من المستخدمين عالميًا؛ على الرغم من تزايد المنافسة.
استحوذت (نتفليكس) خلال السنوات الثلاثة الماضية من 2018 إلى 2020 على أكثر من 100 مليون مشترك جديد في منصتها، وتخطط نتفليكس بحلول عام 2030 ليكون لديها 500 مليون مشترك على مستوى العالم.
(نتفليكس) تعتمد على التكنولوجيا
قامت (نتفليكس) بالاعتماد على التكنولوجيا لجذب المستخدمين والاحتفاظ بهم قبل أي منصة منافسة؛ وهذا ما ساعدها على الانتشار السريع، حيث بدأت في عام 1999 بتقديم خدمة (DVD-by-mail) التي تعتمد على الاشتراك.
وقد أتاحت لها هذه الخدمة جمع كميات هائلة من البيانات عن عملائها، وبحلول عام 2000 بدأت باستخدام مجموعة البيانات الضخمة التي جمعتها وأدوات التحليل؛ لتقديم توصيات للمستخدمين بمقاطع الفيديو المناسبة لأذواقهم لاستئجارها.
سمح نموذج الأعمال عبر الإنترنت أيضا لـ (نيتفلكس) بجمع كميات هائلة من البيانات عن عملائها، وفي عام 2006 أنشأت نتفليكس خوارزمية تعتمد في عملها على الذكاء الاصطناعي لتقديم توصيات للمستخدمين.
لذلك بمرور الوقت أصبحت (نتفليكس) تملك ميزة لا تملكها منصات البث الأخرى المنافسة لها، وهى خوارزمية متطورة غُذيت لأكثر من 10 سنوات بالسلوك الاستهلاكي وأذواق ملايين المشاهدين حول العالم.
إقرأ أيضا : المراهقون العرب في مرمى دراما الجنس والعنف والقتل !
تقدم الآن الخوارزمية توصيات مخصصة لكل مستخدم بناء على ما يفضله، وسجل المشاهدة، والتقييمات، والمعلومات السكانية، ووفقا لنتفليكس نسبة80% من المحتوى الذي يشاهده المستخدمون تأتي من التوصيات.
يشير مصطلح (تأثير نتفليكس – Netflix Effect) إلى مدى التأثير الاجتماعي والاقتصادي للمنصة في المجتمعات، وهذا يرجع إلى عدة عوامل منها: المحتوى الذي تقدمه، وكيفية تنسيقه وعرضه، والطريقة التي توصي بها بالمحتوى والتي تعتمد فيها على الخوارزميات.
تقوم (نتفليكس) منذ عام 2013 بإنتاج محتواها الأصلي الخاص بها، وتنفق معظم ميزانيتها عليه؛ ففي عام 2021 أنفقت المنصة 17 مليار دولار على المحتوى، ومن المتوقع أن يصل هذا المبلغ إلى 20 مليار دولار هذا العام على الرغم من خسارتها للعملاء.
(نتفليكس) تدس الأفكار
تركز (نتفليكس) دائما على إبراز المحتوى الأصلي للمشاهدين، وبما أنها المنتجة للمحتوى فهي تدس فيه ما تريد من أفكار تريد إيصالها إلى جماهيرها حول العالم، وبذلك توجِّه بمهارة الوعي الجماعي للعالم إلى القضايا التي ترغب هي فيها.
يظهر تأثير (نتفليكس) عندما تطلق المنصة عملا جديدا، وبين عشية وضحاها نجد ملايين الأشخاص حول العالم يشاهدون هذا العمل ويتأثرون به.
فعلى سبيل المثال: كان تأثير واحد من أكثر المسلسلات مشاهدة على المنصة خطيرًا جدًا على المراهقين، وهو مسلسل (13 Reasons Why) الذي يركز على انتحار طالبة في المدرسة الثانوية، حيث أدى إلى زيادة معدلات الانتحار في تلك الفئة العمرية، وقد دفع ذلك نتفليكس إلى نشر حملة توعية بالصحة العقلية.
إقرأ أيضا : محمد حبوشة يكتب : (نتفليكس) تداعب خيال الفلسطيني في الغربة
أبسط مثال لإبراز مدى تأثير عروض (نتفليكس) عالميا، هو الإصدار الأخير من مسلسل (مناورة الملكة) Queen’s Gambit الذي تدور أحداثه حول بطلة نابغة في لعبة الشطرنج.
حيث أدى هذا المسلسل إلى زيادة عمليات البحث عن لعبة الشطرنج، وزيادة الطلبات على مجموعات الشطرنج إلى درجات لا تصدق، حتى التسجيل في مسابقات الشطرنج شهد زيادات هائلة بعد إطلاق المسلسل.
على المستوى الإقليمي وبالتحديد هنا في العالم العربي، أنتجت نتفليكس أول أعمالها عام 2019، حيث أطلقت مسلسل (جن) الذي تم تصويره في الأردن، والذي تسبب في موجة غضب شديدة في الشارع الأردني.
ما إن عرض المسلسل عبر (نتفليكس) حتى صدرت دعوات لحظره من جهات مختلفة، وعبّر المجتمع الأردني عن أن العرض لا يمثل الدولة أو قيمها بأي شكل من الأشكال، رغم أن المسلسل تم تصويره في البتراء في الأردن فقط.
ثم جاء مسلسل (مدرسة الروابي للبنات) الأردني أيضا الذي أنتجته نتفليكس وعُرض عام 2021، والذي أثار غضب الأردنيين مرة ثانية.
وجد المسلسل هجوما عنيفا من الأردنيين، حيث طالب الكثيرون الجهات المسؤولة بوقف عرضه، مؤكدين أنه لا يمثل المجتمع الأردني ولا المدارس الأردنية، وأنه يسعى إلى هدم قيم وأخلاقيات المجتمع.
ثم أثار في بداية هذا العام فيلم (أصحاب ولا أعز) – النسخة المعربة من الفيلم الإيطالي “Perfect Strangers – ضجة واسعة في البلاد العربية جميعها، حيث شارك فيه ممثلون من عدة دول عربية منها مصر، وواجهت شخصياته انتقادات كثيرة، وتعرض أبطال العمل لموجة غضب شديد من الجمهور.
استهداف الأطفال وتهديد الهوية
لم تتوقف (نيتفلكس) عند هذا الحد، بل وصلت إلى تقديم الإسفاف والشذوذ الجنسي في الأعمال الموجهة إلى الأطفال، وهو ما دفع دول مجلس التعاون الخليجي ومصر إلى مطالبة المنصة بإزالة المحتوى والالتزام بالقيم المجتمعية والدينية للمنطقة.
خلال الفترة الماضية؛ وجهت الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع في السعودية، ومكتب تنظيم الإعلام في الإمارات، ولجنة الإعلام الإلكتروني في مجلس التعاون الخليجي بيانا مشتركا إلى منصة (نتفليكس) تطالبها بإزالة محتوى مخالف للقيم والمبادئ الإسلامية والمجتمعية، مع التحذير باتخاذ الإجراءات القانونية ضد المنصة في حال لم تلتزم بالتوجيهات.
إقرأ أيضا : إسرائيل تحاول السيطرة على محتوى منصة (نيتفلكس)!
وفي الوقت نفسه؛ أصدر المجلس الأعلى لتنظيم شؤون الإعلام في مصر بيانا أعلن خلاله عن نيته إصدار قواعد تنظيمية وتراخيص لمنصات البث الرقمي، مثل: (نتفليكس) وديزني.
مع الإشارة إلى أن التراخيص والقواعد التنظيمية تشمل التزام المنصات المشار إليها بالأعراف والقيم المجتمعية للدولة، والقيام بالإجراءات اللازمة حال بث مواد تتعارض مع قيم المجتمع.
وقد قام التلفزيون السعودي بمناقشة القضية، وأجرت قناة الإخبارية مقابلات مع العديد من الشخصيات العامة الخليجية التي أكدت أن منصة (نيتفلكس) هي غطاء سينمائي لرسائل غير أخلاقية تهدد النشأة الفطرية السليمة للأطفال، ودعوا السلطات إلى اتخاذ إجراءات فورية.
دول أخرى تبدى اعتراضها
استهدفت منصة (نتفليكس) السوق الهندية لتعزيز نموها العالمي، ولكنها وجدتها سوقا صعبة الاختراق، حيث إن محتوى (نتفليكس) واجه غضب الكثير من الهنود ومنهم القوميون الهندوس، المرتبطون في كثير من الأحيان بالحزب الحاكم.
كما طالبت خلال العام الماضي وكالة حكومية هندية لحماية حقوق الطفل من (نتفليكس) بالتوقف فورا عن بث مسلسلها (Bombay Begums) بعد أن راجعت العديد من الشكاوى حول المشاهد التي تُظهر أطفالًا يتعاطون المخدرات.
وقالت الوكالة في إشعارها: (إن المسلسل الذي يحتوي على هذا النوع من المحتوى لن يتلاعب بعقول الأطفال الصغار فحسب، بل قد يؤدي أيضًا إلى إساءة معاملة الأطفال واستغلالهم).
(نيتفلكس) تروج للفحش
بالإضافة إلى ذلك واجهت (نيتفلكس) الكثير من الشكاوى حول الترويج للفحش والإضرار بالمعتقدات الدينية في الهند، لذلك وضعت الحكومة الهندية خلال العام الماضي حزمة قواعد جديدة لمنصات البث الرقمية العالمية؛ أبرزها:
إلزام المنصات بتعيين ممثل محلي للتعامل مع كل شكوى في غضون 15 يومًا. والخضوع لإشراف لجنة حكومية لديها سلطة لتوجيه اللوم أو المطالبة باعتذار أو إصدار أمر بحذف محتوى بعينه.
كما اعترضت روسيا على محتوى (نتفليكس)، حيث رفعت بسبب انتهاكها القانون الروسي بعرضها مشاهد تروج للمثلية الجنسية للقاصرين، وهددت بإيقاف الشبكة داخل الأراضي الروسية.
وبحسب تقرير البيئة والمجتمع والحوكمة الذي أصدرته (نتفليكس) عام 2021، فإن (نتفليكس) امتثلت لسبع طلبات حذف لأعمال غير ملائمة في كل من: (الفلبين، وروسيا، وتركيا، وسنغافورة، وفيتنام).
هل لمنصة (نتفليكس) أجندة تهدف إلى إحداث تأثير مقصود في قيم المجتمعات؟
كل ما ذكرناه سابقا يثير الكثير من التساؤلات حول من هم (واضعو الأجندة) Agenda-Setters اليوم؟
تفترض نظرية ترتيب الأولويات (Agenda-setting theory) وجود علاقة بين القضايا التي توليها وسائل الإعلام مزيدا من الاهتمام وبين تزايد اهتمام الجماهير بتلك القضايا، فترتيب الأولويات يعني نقل الاهتمام وتحريك القضايا من أجندة وسائل الإعلام إلى أجندة الجمهور.
قديما كانت كل من الصحف المطبوعة، والراديو، والتلفزيون وسائط تنقل عبرها الثقافة والمعلومات والترفيه إلى الجماهير، ثم جاء الإنترنت ليغير الأمر ويسرع وتيرة هذا التغيير في كل الأجيال.
والآن أصبحت خدمات البث الرقمية جزءا من الإنترنت الذي يسهل على الجميع الوصول إليه بفضل الهواتف الذكية التي يحملها الجميع.
وبذلك يمكن لكل منصة تنفيذ أجندتها بسهولة، وهذا ما نشهده من (نتفليكس) التي تنشر خطابا مقنعا ينشر الرغبة في احترام وقبول سلوكيات وآراء وهويات المثليين (الشاذين) جنسيا، حتى في الأعمال الموجهة إلى الأطفال، وتهديد نشأتهم السليمة؛ مما يؤدي إلى التغيير في الفطرة البشرية، وتهديد قيم المجتمعات.
في النهاية نجد سؤالًا يطرح نفسه، من أجل ماذا تفعل (نيتفلكس) كل هذا وتنفق مئات المليارات سنويا؟
في عقيدتنا الدينية كمجتمعات مسلمة، نعلم جيدا عواقب انتشار مثل هذه القيم المغايرة للفطرة البشرية، فهل في النهاية ستكون الأجندة المتبعة ذات هدف أكبر مما نتوقع؟، وهو الأمر الذي يتطلب توقف (نيتفلكس) عن بث أفكارها الخبيثة التي تستهدف قيم العالم كله وليس العرب وحدهم.