بقلم: محمد حبوشة
سعت الفنانة الكبيرة سهير زكي، طوال مسيرتها الفنية إلى البحث دوما عن وسائل غنية لتعبر بها عن مشاعرها تجاه واقع ما، أو حدث تواجهه، هذه الوسائل التي تعبر عن حالة إنسانية يتحدث بها كل إنسان بشكل مطلق، ودون استثناء، ومن هذه الوسائل تأتي لغة الرقص لتأخذ ميزتها الإنسانية.
فعندما يرقص أي إنسان، مهما كان موقعه، أو لغته، يصغي إلى هذه اللغة ويتفاعل معها دون أن ينبس ببنت شفة، ودون أن يسمع لفظا واحدا.
ثمة لغة عند سهير زكي، لايمكن التعبير عنها إلا بلغة الرقص، ولذلك نرى مختلف شرائح الناس تستخدمها كونها الأكثر تعبيرا، والأكثر تأثيرا، وقد ولدت فكرة الفنون في الذات البشرية في محاولة من الإنسان ليقدم شيئا يخفف عن أخيه الإنسان.
آمنت سهير زكي، بأن الرقص فن احتفالي اكتشفه الإنسان ليستطيع من خلاله أن يعبر عن مشاعره من واقعة ما، وهو يحدث على الأغلب في طقوس تكاد تكون تلقائية، لأن المحتفل يريد ألا يشغله شيئا من أمور الدنيا عن لحظات الاحتفال التي يرقص في محرابها.
إقرأ أيضا : محمود رضا .. ابن العالم الديني الذي احترف الرقص
إن الرقص من وجهة نظر سهير زكي، يمتلئ بحالة كرنفالية غامرة من النشوة يمكن معها أن تتسامح مع أي شخص تراه ولو مصادفة حتى لاتفسد عليها هذه الطقوس الاحتفالية والاحتفائية سواء بالذات أو بالآخر.
الجسد عند سهير زكي، هنا يعبر عما لايمكن لأبلغ لغة أن تعبر عنه، وهناك أيضا أشكال للرقص الانفرادي الذي يمكن أن يؤديه الفرد في منزل مغلق عليه كتعبير عن تلقي خبر مفرح، وكذلك يمكن أن يؤدي الرقص لدى جماعة متصوفة أوغير متصوفة إلى طقس عبادي يتقرب العبد من خلاله إلى ربه.
عالم رقص سهير زكي
عالم الرقص لدى سهير زكي، هو عالم غني وممتع لأنه يعني جوهر الإنسان من خلال الظاهر لأن الرقص هو حالة ظاهرية، بيد أنه يعبر بقوة عما يجول في الداخل، وهنا يمكن أن نلحظ بأن عالم الرقص هو عالم صريح ومشع ليس فيه موضع للزيف.
ومن هنا فإن الفن كما يرسخ في عقل ووجدان سهير زكي، هو مزيج من شاعرية الإنسان وأحلامه والإنسان الفنان الذي يكون الفن مهنته هو مخلوق سحري بكل المواصفات، لذلك يُنظر إليه على أنه نجم مضيء.
الرقص، في أبسط أشكاله وأعقدها – كما تعتقد سهير زكي – هو تحريك الجسد وفق إيقاع ما للتعبير عن حالات مختلفة، سواء بمصاحبة الإيقاع أو بدونه، هو رسم بالجسد، هو لغة مدهشة تحاول إيصال رسالتها دون كلام.
فحين تشاهد عرضا راقصا، سواء قام به فرد أو مجموعة، امرأة أو رجل، تتوصل إلى معنى ما يحيلك إلى الفرح أو الحزن أو الحيرة أو الغضب أو الانتشاء أو الحب، لذا فرقص سهير زكي، هو قصيدة تكتبها الراقصة بالجسد.
فلو اتفقنا على أن الشعر هو توصيل المعنى بالتشكيل الجمالي للغة، فإن الرقص هو توصيل المعنى بالتشكيل الجمالي للجسد وحركته الهادئة أو الصاخبة.
إقرأ أيضا : رحيل “محمود رضا” الذي أوصل الرقص المصري للعالمية
الرقص في مخيلة سهير زكي، فطرة، مثله مثل الكلام والغناء، فالإنسان، على مر التاريخ، احتاج ويحتاج إلى (تنغيم) الكلام ليصبح شعرا وغناء، وتنغيم الحركة/ المشي لتصبح رقصا.
في الأول والأخير، الرقص ثقافة، لأنه يرتبط بالبيئات المحلية وعادات الناس وتقاليدهم وقناعاتهم وتديّنهم أيضا، قد تكون حركة الجسد لوحة جمالية تجلب المتعة البصرية وتوصل رسائل عميقة، وقد تثير الغرائز الجنسية في آن.
فالجسد مادة الجنس في النهاية، وحركته بطريقة معينة قد تشعل الغريزة وتخرج الأجساد عن طبيعتها وتجعلها تواقة للملامسة!
هناك قصص وأساطير كثيرة عن علاقة الرقص بالسياسة، ولقد أحضر السادات راقصات لتقديم عروض أمام رؤساء وسياسيين أمريكيين، مثل ريتشارد نيكسون وجيمي كارتر وهنري كيسنجر، فرقصت لهم سهير زكي.
وهو بالطبع كان يريد استثمار إعجاب هؤلاء السياسيين بالراقصات استثمارا سياسيا، حين كان معروفا أن السادات تخلَّى عن السوفيات الذين كانوا ظهيرا لعبد الناصر، واتّجه إلى الأمريكيين يخطب ودهم.
سهير زكي عبد الله
اسمها الحقيقي هو (سهير زكي عبد الله)، ولدت بمدينة المنصورة، وهى أول من رقص على أغاني أم كلثوم، سافرت إلى الإسكندرية حيث عرفت الشهرة ثم اتجهت إلى القاهرة ورقصت في برنامج أضواء المسرح وفي أماكن السهر، وشاركت في أكثر من خمسين فيلما كراقصة وممثلة.
رقصت سهير زكي في حفلات زفاف جميع أبناء الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، كما رقصت أمام الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، والرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، كما رقصت في حضور شاه إيران السابق.
كما زارت موسكو بدعوة من الجنرال (أندري غريتشكو) وزير الدفاع السوفيتى إبان حكم الرئيس بريجينيف، لذلك عرفت (براقصة الملوك والرؤساء)
إقرأ أيضا : سامي فريد يكتب: نزاع عنيف بين محمود رضا وعبد الغفار عودة
وشاركت سهير زكي في السينما من خلال فيلم (مطلوب زوجة فورا) عام 1964 تبعته في أكثر 50 فيلما جمعت فيها بين الرقص والتمثيل منها: (وكر الأشرار، امرأتان، آلو أنا القطة، لست شيطانًا، فتوة الجبل، آخر العنقود، سجين الليل، مطلوب زوجة فورا، صراع مع الموت، رجال في المصيدة، واحدة بعد واحدة ونص، يمهل ولا يهمل)، وكان آخر فيلم شاركت فيه (إن ربك لا بالمرصاد).
كما شاركت في مسلسل (الرجل ذو الخمسة وجوه) في عام 1969، مسلسل (الشاطئ المهجور) في عام 1975.
اعتزلت سهير زكى الفن في أوائل عقد التسعينيات، لكي تتفرغ لحياتها الشخصية مع زوجها المصور والمخرج (محمد عمارة)، ولكن على الرغم من إعتزالها إلا أنها تقوم بتدريب الفتيات الأجانب على الرقص في مدرسة الرقص الشرقي.
وكان آخر أعمالها الفنية وهو فيلم (أنا اللي استاهل)، والذي تم عرضه في عام 1984 والذي قدم بطولته الفنان وحيد سيف.
لقاء سهير زكي بأم كلثوم
عن كواليس لقائها مع أم كلثوم تحدثت الراقصة سهير زكي قائلة: عندما رأها الموسيقار محمد عبد الوهاب، ترقص في أحد الملاهي الليلية على أغنية (أنت عمري) لأم كلثوم.
وقالت سهير زكي في حوارها مع الإعلامية صفاء أبو السعود على قناة art، إنها رقصت على أغاني أم كلثوم وكانت تعمل في ملهى ليلى بمصر الجديدة، وقدمت رقصة على أغنية أنت عمري، وحضر الحفل الصحفي والكاتب محمد حسنين هيكل.
وأضافت سهير زكي: وصل للست أم كلثوم أنها ترقص على أغانيها، وقالت أم كلثوم لـ عبد الوهاب: (ازاي كده الموضوع ده لازم توقفه.. وازاي يعني راقصة ترقص على مزيكتي).
وتابعت سهير في حديثها، إن عبد الوهاب سأل عليها وحضر عرض من عروضها، ليرى ما الذي تقدمه، وذهب بعدها لـ أم كلثوم وقال لها: (أنتي لو شوفتيها شيء مش ممكن بنت جميلة وآدائها راقي أوي).
قائلة: (فالست بخباثة شديدة عملت حفلة وجابتني وأنا مكنتش أعرف أنها هي اللي عاملة الحفلة، واحنا بنجهز لقيت اللي معايا بيقولولي الست أم كلثوم قاعدة برا، وتفول سهير زكي: قلبي وقع وارتبكت لما عرفت أن أم كلثوم هتتفرج عليا).
إقرأ أيضا : عصام السيد يكتب: محمود رضا .. رائد الإضاءة والمسرح الراقص
واستكملت سهير زكي حديثها: ارتبكت عندما علمت أنها صاحبة الحفل، بالإضافة إلى أن الموسيقيين الذين رفقتها خافوا من العزف لـ لحن أم كلثوم أمامها وكان ذلك سيتسبب في مشكلة كبيرة، ولكن انتهى العرض دون أي مشاكل.
كانت سهير زكي عشقت موسيقى أغنيات أم كلثوم، وكانت أول راقصة ترقص على موسيقى أغانيها خاصة (أنت عمري، أغدا ألقاك، الحب كله، ألف ليلة وليلة) مما أغضب السيدة أم كلثوم وصممت على حضور أحد عروض رقصاتها.
وبعدما شاهدتها وكان معها بليغ حمدي ترقص على موسيقى (ألف ليلة وليلة) أعجبت برقصها وقالت لها: (كنت ناوية لك على نية سودة، ولم أكن قد شاهدتك حين هاجمتك لكنى وجدتك إضافة مدهشة).
ومن هنا كسبت سهير زكي، بجانب الشهرة في الصحف والمجلات تشجيع بليغ حمدي لها وعرفت بالراقصة التي استطاعت الوقوف في وجه أم كلثوم وتحديها.
سهير ذكى صديقة الكبار
لقد كانت سهير ذكى صديقة الكبار ابتداء بأدباء مصر الكبار نجيب محفوظ وطه حسين والعقاد ويوسف السباعي وانتهاء بكل الوزراء والساسة فى عصري عبد الناصر والسادات.
فهي التي قال عنها أديبنا الكبير أحسان عبد القدوس بأن ابتسامتها وحدها (رقصة) وهى التي قال عنها نجيب محفوظ أن رقصها رواية من عشرين فصلا وهى التي قال عنها كاتبنا الساخر الكبير محمود السعدنى أنها جعلت من الرقص الشرقي مهنه محترمة.
وهى أيضا التي داعبها الزعيم الراحل أنور السادات قائلا: (مين قدك يا ست سهير لقد رقصت أمام الكتلتين الشرقية والغربية)، وذلك حينما قدمت فاصل متنوع من الرقص بالعصا أمام الرئيس الامريكى نيكسون عند حضوره للقاهرة للقاء الرئيس السادات في النصف الأول من سبعينات القرن الماضي.
وقبل هذه الرقصة كانت الراقصة الوحيدة المسموح لها بحضور الحفلات الخاصة بقصر الرئاسة وكانت أيضا الراقصة الوحيدة التي ذهبت مع وفد الفنانين المصريين إلى ليبيا في عيد ثورة الفاتح.
إقرأ أيضا : شهادة نادرة للأديب الكبير “يحيي حقي” عن “محمود رضا”
فكان أسمها يتم وضعه بترشيح من الحكومة المصرية، حيث كان عبد الناصر يناديها بـ (البنت أم شعر طويل) وكان السادات يقوم بتدليلها أمام الجميع بسوسو.
عاشت سهير زكي طوال فترة عملها بالرقص تدين بالفضل للتليفزيون المصري في شهرتها حيث قدمها في العديد من البرامج وإذاعة حفلاتها خاصة أنها لم تكن تعتمد على مدربين أو مصممي رقصات فكان يمكنها الرقص على الهواء بدون بروفات.
كما نسبت جزءا من نجاحها إلى التزامها بنصائح الراقصة (تحية كاريوكا وسامية جمال) اللتين كانتا عبرتا عن إعجابهما بأسلوبها في الرقص، وكان من أهم نصائحهما عدم التدخين والمحافظة على الرشاقة والتدريب المستمر.
أشهر أقوال سهير زكي:
** لست خريجة (الميردى ديو) أو أى مدرسة أجنبية أخرى، بينما تخرجت من شارع العلوم بالمنصورة.. ليس علوم الاقتصاد أوالسياسة أوالتاريخ بينما علوم الرقص وحده.
** لم يكن الطريق أمامى مفروشا بالورود كما يظن الكثيرين، بينما عانيت كثيرا فالحياة لم تمنحني فرصة لكي أتعلم وأذهب للمدرسة مثل كل الفتيات الأخريات فكنت انتمى لأسرة فقيرة للغاية.
** يكفيني فخرا أن ابني الوحيد محمد ظل ولازال حتى اليوم فخورا بى، فعندما كان أساتذته وأباء وأمهات زملائة بالمدسة والجامعة يعرفون منه أننى والدته كانوا يقولون له: والدتك من الناس المحترمة . أنها صديقة الكبار ولن تأتى راقصة أخرى مثلها أبدا.
** لم استغل شبابي وشهرتي فى اى يوم من الأيام فى عمل علاقات محرمة مع أى مسئول كبير سواء في مصر أوفى اى دولة عربية أخرى.
** لم استغل شهرتي في الحصول على إهداءات من أحد رغم القصور والشاليهات والمجوهرات الثمينة التي كانت تلقى تحت أقدامى، إلا اننى رفضتها جميعا لكون لكل شئ ثمن، وأنا لم أكن على استعداد أبدا أن أدفع أى ثمن من أى نوع!
** رفضت كافة الضغوط التي تعرضت لها من قبل متعهدي الحفلات الكبار والقائمين على الفنادق الكبرى بهدف إقناعي بضرورة الاستمرار لكون وقت الاعتزال كما أكدوا لها لم يحن بعد.
** الحمد لله فقد شهد الجميع باخلاقى طيلة سنوات عملي فى الفن، فكان والدي يلازمني بصفة مستمرة من (الشغل للبيت والعكس)، ولهذا لم يستطع أحد على الإطلاق أن يمسك على غلطة واحدة يمكنه استغلالها ضدي.
** لم أسعى على الإطلاق للاتجار بالمعلومات التى كانت فى جعبتي سواء عن الحقبة الناصرية أوالحقبة الساداتية رغم الإغراءات التي لاتعد ولا تحصى التي تعرضت لها من قبل جهات مختلفة ودور نشر كبيرة فى مصر ولبنان سعت مرارا وتكرارا لاغرائى بكتابة مذكراتي.
وفي النهاية لابد من تحية تقدير واحترام للفنانة سهير زكي، سهير زكي، التي تعتبر من أشهر راقصات الزمن الجميل في مصر والعالم العربي، واشتهرت بالرقص على موسيقى أغاني أم كلثوم.
وعرفت بالراقصة الرسمية وراقصة الملوك والرؤساء، حيث فضلها الرئيسان جمال عبد الناصر والسادات لإحياء حفلات زواج أبنائهما وبناتهما وكان لها جمهور واسع وعريض مصري وأجنبي.
كان أسلوبها وشخصيتها وفلسفتها في الرقص أكثر اختلافا، كانت سهير زكي راقصة حلوة وأنيقة للغاية اشتهرت بأسلوبها الناعم الفريد، وتعبيرات وجهها الخجولة البريئة، كانت تمثل الراقصة الفلاحة، وغالبا ما كان يشار إليها باسم (بنت البلد)، كان أسلوبها نقيًا ودقيقًا، أنثوية للغاية ورشيقة، كما كانت أول راقصة تستخدم أغاني أم كلثوم في الرقص الشرقي.