بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
ظل (المهرجان التجريبى) قِبلَةً للمسرحيين العرب والأجانب طوال دوراته منذ انطلاق دورته الأولى عام 1988 وحتى دورته الاثنين و العشرين في عام 2010، فلقد استطاع قائده الأستاذ الدكتور فوزى فهمى أن يجتذب إليه كبار المسرحيين العالميين سواء كمكرمين أو مشاركين في الندوات أو التحكيم.
وشاهدت القاهرة ضيوفا من كبار الكتاب والمخرجين والسينوغرافيين والمترجمين والنقاد، كنا نقرأ أسماءهم في المراجع الأجنبية فقط، ولا نتخيل أننا سنراهم شخصيا ذات يوم ، فإذا بهم ضيوف (المهرجان التجريبي) وتتاح لنا رؤيتهم و التزود من علمهم و قراءة ترجمات لأحدث ما كتبوه أو ما كتب عنهم.
جاء إلى القاهرة ضمن فعاليات (المهرجان التجريبي) – على سبيل المثال لا الحصر- (بيتر برووك ومارتن إيسلن وجوزيف شاينا وفرناندو أربال وأوجستو بوال)، و جاءت عروض من معظم دول العالم و من كل الدول العربية.
وامتلأت مئات الصفحات باللقاءات الصحفية والمقالات و الدراسات، وبرغم هذا كان الهجوم على (المهرجان التجريبى) لا يتوقف، ولعل أبرز ما قيل في هذا الهجوم أنه لا إجابة شافية عن سؤال بديهى: ماهو التجريب؟ وهل نملك تعريفا جامعا شاملا له يحدد طوله وعرضه وارتفاعه وعمقه؟
في الحقيقة أن (المهرجان التجريبي) عقد عدة ندوات في أكثر من دورة عن التجريب خاصة في دوراته من الأولى إلى السادسة بحثا عن تعريف للتجريب، وعلاقة التجريب بالجمهور وبالنقاد، وهل التجريب في الشكل أم المضمون أم كليهما.
وعلاقة التجريب بالجسد خاصة مع انتشار عروض الأداء الحركى، وعن علاقة التجريب بالتراث، وهل يجوز التجريب على مادة تراثية، بل واصلت الندوات إلى الغوص في علاقة التجريب بالمجتمع.
و في دراسة – لم تنشر بعد – للدكتورة (أسماء يحيى الطاهر) عن ندوات (المهرجان التجريبى) تقول أن التجريب هو تمرد على السائد، ومن ثم فإن ارتباط التجريب بالواقع السياسي هو ارتباط حتمي.
فالسياسي والاجتماعي والفني متشابكين بشكل يؤثر تغير أحدهما على الآخر، وما السائد الذي يرغب المسرحيون في التمرد عليه وإزاحته وتفكيكه إلا الواقع السياسي الذي أفرز أشكالاً مسرحية تؤكد وتدعم هيمنته، فيكون التمرد على هذا الواقع هو تمردًا على الأشكال التي أنتجها، ويصبح خلخلة تلك الأشكال وزعزعة سلطتها هو خلخلة للسلطة التي أفرزتها.
المشاركون في (المهرجان التجريبي)
وبالعودة لسؤال: ماهية التجريب؟، تورد (الدكتورة أسماء) أن مجلة المسرح قامت بعمل تحقيق مع عدد من المسرحيين، الذين حضروا أو شاركوا في (المهرجان التجريبي) وندواته، للوقوف على إذا ما استطعنا أن نتوصل إلى إجابة محددة عن سؤال (ما التجريب؟).
ولكن ذلك لم يحدث بالطبع، ففي حين رأى الكاتب المصرى الكبير (ألفريد فرج) أن المسرح تجريبي بطبيعته وأن في كل لحظة من لحظات تاريخ المسرح يتربع على القمة نموذجًا مسرحيًا مكتوبًا يمكن إعتباره تجريبيًا.
إقرأ أيضا : ذكاء ليلى علوي أنقذ المسئولين عن مهرجان المسرح التجريبي !
يرأى (د. إبراهيم حمادة) أستاذ النقد المعروف أن التجريب في المسرح قد تأخر عن باقي الفنون وبدأ في الربع الأول من القرن العشرين مع حركتي الدادية والسريالية، وعلى الجانب الآخر رفض كل من (د. سمير سرحان) الناقد الأكاديمي والمؤلف والناقد اللبناني (بول شاؤول) وجود تعريف محدد واضح للتجريب.
فيرى الأول أن التجريب مرتبط بالمضامين الجديدة التي لا يمكن أن تحتويها الأشكال التقليدية ويرى الثاني أن التجريب مثل الزئبق لا يمكن الإمساك به ولا يخضع لمفاهيم ثابتة، بينما أشار الكاتب السوري الكبير (سعد الله ونوس) أن التجريب هو الخروج عن السائد، ويضيف أن المشكلة حقًا ليست في تحديد مفهوم التجريب بل هى في عدم تحديدنا لمفهوم السائد من الأساس.
بينما قصر الكتاب المسرحيين مفهوم التجريبية على النص فيقول أديبنا الكبير (د. يوسف إدريس) بشكل واضح أن التجريب يكون على النص لا في الشكل ولا في الأداء ويرى الكاتب (سعد الدين وهبة) أن للتجريب شروطًا وأن المسرح هو فن الكلمة الأولى، ويرى (ونوس) أننا يجب في مسرحنا العربي أن نجرب ولكن ليس في حدود الشكلية إنما في حدود القول ما نعبر به عن حاضرنا.
وتعلق (الدكتورة أسماء) على هذه الآراء أنها تجاهلت إلى حد ما اتجاهات المسارح التجريبية في العالم والتي اعتمدت على لغة الجسد وهجرت الكلمة، وهو ما يمكن فهمه في سياق كونهم كتابًا في المقام الأول وفي إطار الثقافة العربية عمومًا التي تحتل فيها الكلمة كوسيلة تعبير الأهمية الكبرى كما يتضح في العديد من المناقشات التي دارت حول طبيعة التجريب في المسرح العربي.
التجريب عمل نسبى
من كل ما سبق يتضح لنا أنه لا اتفاق تام على مفهوم التجريب أو تعريفه، بل تقول لنا (الدكتورة أسماء) في دراستها أن حتى الندوات التي عقدها (المهرجان التجريبى) لم تصل الى تعريف محدد و نهائي للتجريب!.
فبرغم أنه ينبع من ضرورة ملحة لكسر السائد و النمطى وبالتالى هو فعل عمدى مقصود، وبرغم أنه قد يأتي عفوا خلال عمل المبدع ولكنه ينبع من دافع خفى بضرورة التغيير والتطوير والاختلاف.
وفي نفس الوقت فإن التجريب عمل نسبى، فما يعد تجريبيا في مجتمع ما قد يكون قد سبق تجريبه في مجتمع آخر، فما قد يكتشفه فنان أفريقى ربما يجد أن أوروبا قد تجاوزته ولكن عمله في محيطه المجتمعى والفني يظل يحمل صفة التجريب.
وهو أيضا عمل متجدد فما هو تجريبى اليوم سيكون كلاسيكيا غدا، فالتجريب هو ابن عصره وينتهى كتجريب بانتهاء عصره، فمسرح العبث كان نتيجة لظروف الحرب العالمية الثانية التي اثبتت أن الانسان يحيا حياة لا طائل من ورائها وأن اللغة لم تعد وسيلة للتواصل.
إقرأ ايضا : د. مدحت الكاشف يكتب : نحو مهرجان قومي للمسرح بدون تنافس!
وفي عصرها كانت عروض مسرح العبث عروضا طليعية (تجريبية بلغتنا المعاصرة)، بل إن الكاتب الألماني (برتولد بريشت) بثورته على قواعد أرسطو في الكتابة يعتبر في زمنه تجريبيا، وكذلك (مايرهولد) الذى قدم لنا مدرسة جديدة في التمثيل تسمى (البيوميكانيك) يعتبر تجريبيا، وكل هؤلاء ظهروا قبل ظهور مصطلح التجريب، ولكن هل نعتبرهم اليوم – بعد كل تلك السنوات التي مرت على تجاربهم – تجريبيين؟
ويظل السؤال: هل لا نستطيع أن نضع تعريفا محددا للتجريب؟، وهنا يمكننا أن نقول ببساطة أن التجريب هو القفز الى المجهول، فكيف نستطيع تعريف المجهول قبل ارتياده؟، أو هو دعوة إلى التمرد على السائد، فهل نستطيع تعريف ما ينتج عن هذا التمرد قبل أن يولد؟.
وعلى جانب آخر هل ما نراه في بعض المسرحيات اليوم من ادعاء الغموض وتضارب العلامات وتنافرها والتشتيت و الظلام الدامس والدخان الكثيف هو التجريب؟، وإذا كان التجريب يرتبط بثقافة المجتمع و بقدرته على الاستيعاب ولا يجوز استيراده، فهل مانراه من محاولات تقليد الصرعات الأجنبية والشطحات المسرحية في بيئة لا تقبلها ولا تستسيغها هو التجريب؟
وإذا كانت إجابة السؤالين بالنفى فلماذا كافح بعض المسرحيين – كنت منهم – من أجل عودة (المهرجان التجريبي) بعد أن توقف لسنوات بعد ثورة 25 يناير؟
و لهذا حديث آخر..