بقلم الدكتور: مدحت الكاشف *
يتشكل الاتصال في كافة الوسائط من خلال علاقة تفاعل، بل وتأثير متبادل بين فنان الأداء التمثيلي بصفته (مرسلاً)، وبين المتلقي بوصفه (مستقبلا)، حيث يقوم الممثل/ المؤدي بإثراء التجربة الاجتماعية لدى ذلك المتلقي، مما يجعله واعياﹰ لحقيقة علاقاته الاجتماعية المتبادلة مع الآخرين.
ولما كان تمثيل الفعل الإنساني أمام المشاهدين سواء في المسرح أو السينما أو التليفزيون أو حتى في الوسائط والمنصات الحديثة، فإن فن الأداء التمثيلي يحقق صورة الوجود الإنساني، ويخلق نوعاً من الإتحاد الاجتماعي حول الهموم العامة بين البشر.
وذلك من خلال ما يملكه من عناصر جمالية تعبر عما هو اجتماعي، مستهدفاً من وراء ذلك تجسيد توازن الفرد مع المجتمع في لحظة ما، خارج الزمان والمكان.
وتكمن هذه العناصر الجمالية في حقيقة الأنماط الإنسانية التي يجسدها ذلك المؤدي، وكذلك اللغة الأدائية التي تستخدم للتعبير عن هذه الأنماط، وهو ما جاء فى مبدأ الفيلسوف الإغريقي”أرسطو” الذي كان قد أكد على ضرورة أن يتطابق الإنفعال المسرحي مع الانفعال اليومي للإنسان.
وذلك على اعتبار أن العمليات الإبداعية التي تكتنف المسرح بكل فعالياته وعلى رأسها فن الأداء التمثيلي هى أقرب إلى التأثير المتبادل بين الأوضاع الثقافية والاجتماعية السائدة في المجتمع الذي يقوم فيه هذا الأداء، وبين التكوين النفسي والوجداني والجمالي للمبدعين الذين يعملون في مجال الأداء.
إن هذه العمليات الإبداعية لفن الأداء التمثيلي إذن هى نوع من التأثير المتبادل بين الأيديولوجيا الذاتية أو الشخصية للمبدع، والأيديولوجيا السائدة في المجتمع.
وبهذا يصبح فن الأداء المسرحي على سبيل المثال بمثابة صفقة أيديولوجية فيما بين الممثلين وبين مجتمع مشاهديهم، وذلك على اعتبار أن الأيديولوجيا هي مصدر القدرة المجمعة لهؤلاء الممثلين والمشاهدين.
وهى تقريباً التي تقوم بتوحيد الإحساس بينهما، وهى أيضا التي تنتج ذلك التذوق الفطري أو الغريزي المشترك للمدلولات المستخدمة في الأداء التمثيلي.
إقرأ أيضا : د.مدحت الكاشف يكتب: الإبداع .. هل هناك ضرورة لتعلمه؟!
ويعني هذا أن الأيديولوجيا تقدم الإطار الذي تتشكل فيه الشفرات الإجتماعية أمام المتفرجين الذين يقومون بفك رموزها وتوليد معانيها بما يتفق وخبراتهم الإجتماعية والأيديولوجية.
ومن هنا يمكن القول إن فن الأداءالتمثيلي بشكل عام ليس مجرد تعبيراً عن ذوات المبدعين فحسب، ولاهو مجرد تعبير عن شخصية درامية بعينها، ولكنه تعبير بالصور والصيغ الجمالية التي ترجع إلى أصل جماعي اجتماعي.
ولذا نجد أن تطور البني الفنية في المسرح لم تنفصل عن رؤية مبدعيها للمجتمع الذي يعيشون فيه، وذلك من خلال هذا التأثير المتبادل والمستمر بين الموضوعات التي يقدمها هؤلاء المبدعون على المسرح، وبين حركة تطور المجتمع.
الأداء التمثيلي والوعي الجمالي
الأمر الذي يتطلب من ذلك الممثل المبدع وعياً جمالياً بالقوانين الإجتماعية الثابتة أو المتغيرة، التي تشكل حركة تطور مجتمعه، حتى يكون قادراً على التعبير عنها بتفعيلها، أو مناهضتها، وفقاً لموقفه الأيديولوجي.
وكما يتعامل الممثل مع الوسائل الجمالية والحرفية، كذلك فإن المتفرجين يتلقون فعاليات الأداء التمثيلي التي يقوم بها الممثل من خلال مجموعة من العمليات التأويلية التي تحددها هذه القيم المرتبطة بثقافة المجتمع.
الأمر الذي يكشف عن حضور المجتمع وقيمه بقوة داخل مجتمع الأعمال الفنية، ولذا فالممثل وهو يجسد الشخصية، فلابد أن يضع في إعتباره أنها قد تشكلت إجتماعياً قبل أن تكون مجرد شخصية كتبها مؤلف.
وانتقلت من خلال مواضعات ثقافية وأدبية خاصة بالأسلوب واللغة، والجنس الأدبي، والمفردات الجمالية، التي ساهمت في صياغتها بطريقة فنية إبداعية على يد مؤلف النص.
ولذا فإنه كما يتعامل الممثل مع خامات وتقنيات الإنتاج الفني فإنه يتعامل أيضاً مع المادة المتاحة من التقاليد والأعراف الجمالية لمجتمعه، هذا يعني بالتالي أننا عندما نضطلع بتلقي أو نقد عمل الممثل.
فنحن بحاجة إلى فهم منطق البناء الفني الخاص به من ناحية، والكشف عن نوعية الشفرات الجمالية الاجتماعية والفكرية التي تدخلت في عملية تشكيله من ناحية أخرى.
ويعني ذلك، أن العمل الإبداعي يتجاوز التجربة الإنسانية ذاتها، ويُدخل عليها كثير من عناصر التحول والتعديل في محاولة لتفسيرها، فإبداع الممثل يقوم بإعادة صياغة الواقع الاجتماعي للنمط الإنساني الذي يجسده من وجهة نظره الذاتية.
إقرأ أيضا : د. مدحت الكاشف يكتب: الثقافة .. والصناعات الإبداعية
والتي يريد من خلالها التعبير عن واقع آخر مغاير، ليجعل من هذا الواقع الجديد وسيلة للمشاركة مع أفراد مجتمعه، وهكذا، فإن فن الأداء التمثيلي يعد واحداﹰ من التجليات الاجتماعية ومن ثم، فإن تجسيده للظواهر الإجتماعية الواقعية أو المتخلية يفرض نوعاً من المشاركة لا توجد في أى فن آخر.
وعلى ذلك فإن هذه الممارسة الاجتماعية للمسرح تتيح لنا عن طريق عمل الممثل أن نربط بين ما هو جمالي وما هو اجتماعي، وبمعني آخر بين الممثل كمبدع، وبين الوجود الجمعي للمتفرجين.
حيث من خلال أداء الممثل يستمد الإنسان المتفرج القناعة المتكررة بوجوده، وتأكيد وجود حياته الجمعية، وذلك بالرغم من أن هناك ثمة حدود فاصلة، تتمثل هذه الحدود في كون أحدهما يمثل تجربة حية وهى الحياة، أما الثاني وهو التمثيل فهو يصور تجربة جمالية متخيلة.
فن الأداء التمثيلي
ومن هذا المنظور فإن فن الأداء التمثيلي هو نشاط إنساني يقوم بمحاكاة مجموعة من الأفعال الإنسانية يمارسه البعض من أفراد المجتمع ليشاهده البعض الآخر.
إذن هو فن يناط به إحداث نوعا من التفاعل الاجتماعي بين أفراد هذا المجتمع، ومن ثم يجب النظر إلى فن الأداء التمثيلي بوصفه وسيلة من وسائل الاتصال الرمزية، وذلك على اعتبار أن التفاعل الرمزي، وهو أحد فروع علم الاجتماع يرى الإنسان ويحلله بوصفه رمزاﹰ بشرياﹰ يعيش في المجتمع من خلال مجموعة من الأفعال والتصرفات، والسلوكيات ذات الأصل الثقافى أو الاجتماعى المشترك.
عندئذٍ نجد أن العلاقة الثنائية المتبادلة والتي تنشأ بين الممثلين والمتفرجين تستند على موضوعات اجتماعية تصور أو تعبر عن هموم مشتركة بين جميع أفراد المجتمع.
ومن خلال تلك العلاقة تتحول أفعال وسلوكيات وتصرفات الممثل/ المؤدي، والتي تم إعدادها بوعى لتعبر عن معان مقصودة، إلى نوع من التأثير المتغير الذي يرتبط بصورة رمزية تعتمل أساساﹰ في أذهان المتفرجين وخبراتهم.
وذلك في إطار من الاتصال الرمزي الذي يتم فهمه وفك شفراته عبر شعور كل فرد من المتفرجين، خاصة عندما يعبر الممثل عن الحاجات والرغبات والتصورات والآراء التي تعتمل في نفوس أفراد المجتمع من المشاهدين.
وبمعنى آخر: يمكن تمييز مستويين لتلك العلاقة الديناميكية بين المؤدين والمتفرجين، أولهما ما تثيره الصور التي يجسدها الممثلون في نفوس المتفرجين ، وثانيهما ما يرسله الممثل عن قصد من رسائل تصل إلى المتلقى مباشرة أثناء مشاهدته للأداء في نفس المكان والزمان اللذان يجمعا الاثنين في لحظة واحدة.
ووفق ذلك فإن عملية التواصل التي تحدث بينهما في تلك اللحظة هى التي تحدد صورة التفاعل التي تتشكل عبر عدد من الرموز والإشارات التي تعتبر بمثابة الإطار المرجعي الذي ينظم عمليات الإدراك الذهني والحسي لدى المشاهد، الذي يقوم بدوره، بربطها بواقعه المعاش، وبحياته الماضية والحاضرة والمستقبلية.
ومن هنا، فإن تجسيد الممثل للأدوار الاجتماعية المتخيلة والتي ترتبط في نفس الوقت بأدوار أخرى مشابهة في الواقع الحقيقي، يفرض نوعاﹰ من المشاركة لا يحدثها فن آخر بنفس القدر الذي يحدثه فن الممثل.
وهو الأمر الذي جعل علم النفس مثلاﹰ ينظر إلى فن الأداء التمثيلي باعتباره مناسبة اجتماعية تتدخل فيها مجموعة من العمليات النفسية التي تحدث للمتفرجين بينهم وبين بعض من جانب، وبينهم وبين الممثلين من جانب آخر.
ومن هذه العمليات التوحد والاستثارة الجماعية، وعدوى الضحك، أو عدوى البكاء، واللاوعي الجمعي، والتطيهر، والتداعي الحر، وغيرها من العمليات النفسية الأخرى التي تنقل المتفرجين إلى حالة من التوافق الوجداني من خلال مشاركتهم في هذه المناسبة التي غالبا ما تعكس هويتهم الاجتماعية المشتركة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن فن الأداء التمثيلي في معظم الأحيان يصبح ذو طابع علاجي، عندما يقوم بكشف الأشياء المادية والنفسية المكبوتة بين أفراد المجتمع.
وهو ما يحقق فكرة التطهير، أو ربما يكشف عن جوانب أخرى مدمرة بطريقة تجعل المشاهد يتعاطف معها أو على أقل تقدير يعتبرها مألوفة في عصر لم يعد معه بالإمكان التمييز بين ماهو غث وبين ماهو ثمين، عندئذ يصبح الممثل وفنه وسائل هدم للمجتمع
* أستاذ بأكاديمية الفنون